خلال احتفاله بذكرى تأسيسه الـ 97، أصدر جهاز الاستخبارات التركي وثيقة ممهورة باسم رئيسه الجديد، إبراهيم كالين، تسطر التوجهات الأساسية للجهاز إثر انتقال قيادته للأخير بعد 13 عامًا من قيادة هاكان فيدان له. تتجلى أهمية الوثيقة في أنها الأولى من نوعها منذ سنوات طويلة التي تتحدث عن رؤية تركيا لجهاز الاستخبارات وفلسفة عمله من جهة، ومقاربتها للتطورات الدولية والإقليمية وارتداداتها عليها من جهة ثانية. وقد أظهرت الوثيقة، بفكرتها وما حوت من مضامين، اختلاف الرئيس الجديد للجهاز عن سابقه شيئًا ما في الإدارة وفلسفة العمل، من حيث مزيد من انفتاح الجهاز على العامة والإعلام، ونشر نتاج بعض مؤسساته الفرعية، وغير ذلك.
أكثر ما يلفت في الوثيقة تأثرها بدرجة كبيرة بخلفية كالين العلمية والأكاديمية، ويمكن تلمس أثر ذلك في تركيزها الشديد على سلبيات النظام العالمي القائم ومسار تحوله نحو نظام متعدد الأقطاب، بما يشمل حتمًا حدوث أزمات وحروب وتحديات مستجدة، وهو أحد أهم مجالات اهتمام كالين البحثية المنشورة سابقًا في كتب ومقالات.
تناقش هذه الورقة ما تركز عليه الوثيقة في مجال الأمن كمفهوم شامل وتكاملي، وفكرة المبادرة والاستباقية لتحقيق الردع، كشرط أساسي لحماية سيادة البلاد واستقلالها. كما أنها تضع الاستخبارات أساسًا ومنطلقًا لأي عمل ناجح تقوم به مؤسسات الدولة الأخرى، التي تنظر لضرورة تكاملها مع بعضها البعض في رؤية واضحة وإرادة سياسية موحدة.
من الأمن إلى السياسة
في مايو/أيار 2023، وبعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في البلاد، وقع اختيار الرئيس التركي على هاكان فيدان لوزارة الخارجية بعد 13 عامًا متواصلة له في قيادة جهاز الاستخبارات. كُتب الكثير في تفسير هذه الخطوة التي لم تكن مفاجئة، مثل تحقيق رغبة سابقة لفيدان أو إعداد أردوغان له ليكون خليفته من باب أنه يقود عهدته الرئاسية الأخيرة دستوريًّا، إلا أن أهم ما في الحدث كان تغيير رئيس جهاز الاستخبارات الذي طالما وصفه أردوغان بأنه صندوق أسراره وأسرار الدولة التركية(1) ، وكان رفض سابقًا استقالته ودخوله عالم السياسة(2).
وقد تميز عهد قيادة فيدان لجهاز الاستخبارات (2010-2023) بإعادة هيكلة الأخير بحيث يكون قادرًا على مواجهة التحديات الكثيرة المستجدة والمتزامنة التي تواجهها تركيا، وهي تهديدات متعددة الأبعاد والمصادر والمجالات والتأثيرات(3). من أهم التغييرات التي أحدثها فيدان في الجهاز دبلوماسية الاستخبارات حيث اضطلع الجهاز بمهام كثيرة في ومع عدة بلدان، ومن الأمثلة على ذلك تمهيده لعملية تطبيع وتطوير علاقات أنقرة مع عدة قوى إقليمية، والانفتاح العملياتي حيث بات الجهاز يقود عمليات تحييد لعدد من قيادات وكوادر المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب التركية خارج الحدود، والإستراتيجية الوقائية التي مثَّلت نهجًا معتمدًا لأنقرة في مكافحة الإرهاب في السنوات القليلة الأخيرة(4).
ورغم أن من خَلَف فيدان هو كبير مستشاري أردوغان والناطق السابق باسم الرئاسة، إبراهيم كالين، أي أحد أعضاء الدائرة الضيقة في الرئاسة التركية التي عملت مع فيدان لسنوات طويلة، إلا أن ذلك لا يمنع توقع حصول متغيرات في طريقة إدارة الجهاز المعني بمواجهة المخاطر الداخلية والخارجية على حد سواء.
يأتي كالين من خلفية أكاديمية، فهو دارس للتاريخ ومهتم بالفلسفة وحاضر لسنوات في الفكر الإسلامي والعلاقات بين الإسلام والغرب، وله مؤلفات في الفكر والفلسفة حاز بعضها على جوائز محلية وعالمية؛ ما يجعله شخصية مختلفة عن فيدان القادم من خلفية عسكرية وأمنية، كما أن منصبه ناطقًا باسم الرئاسة ومستشارًا بمنزلة مستشار الأمن القومي لأردوغان منذ 2014 يقدم نموذجًا مختلفًا عن رئيس جهاز الاستخبارات المحاط عادة بهالة من الغموض والصمت.
في كلمته في احتفالية جهاز الاستخبارات التركي بذكرى تأسيسه الـ 97، أشاد الرئيس التركي بدور الجهاز في عدة محطات وأزمات واجهت البلاد في العقدين الأخيرين على وجه التحديد، ومساهمته في تحويلها “للاعب صانع للسياسات على رقعة الشطرنج الدولية”(5)، مشيرًا لتكيفه مع تغير طبيعة التهديدات التي تواجه تركيا. وقد ذكر أردوغان ما عدَّه إنجازات للجهاز مثل عملياته في مكافحة الإرهاب وخصوصًا عمليات استهداف الطاقم القيادي لحزب العمال الكردستاني، واعتقال قيادات منظمة كولن (منظمة فيتو الإرهابية) في الخارج وجلبها، وتفكيك شبكات تتبع لأجهزة استخبارات أجنبية، وتحرير الرهائن، وعمليات تبادل الأسرى، ودور الوساطة، مع تركيز خاص على دور الاستخبارات في الملف الليبي على وجه التحديد(6).
وثيقة كالين
كانت الاحتفالية الكبيرة السابقة للجهاز، في يناير/كانون الثاني عام 2000 لدى افتتاح مقره الجديد المسمى “القلعة”، والذي قال أردوغان يومها: إن افتتاحه يشير لحالة التوسع في العمل والقوة في الأداء التي يشهدها الجهاز. حينها، نشر في وسائل الإعلام كلمة الرئيس التركي دون كلمة رئيس الجهاز في حينها فيدان. ولعل ذلك اختلاف مهم بينه وبين الرئيس الجديد للجهاز كالين، الذي تحدث بكلمة مطولة ونشرها كوثيقة منفصلة يقدم فيها رؤية الجهاز، الذي يقوده، للتهديدات والمخاطر، ورؤية تركيا لها، ودور الجهاز في منعها و/أو مواجهتها، والأدوار والمساحات الجديدة التي ينبغي أن يلج إليها الجهاز في المستقبل القريب.
تقع الوثيقة في 36 صفحة وتحمل عنوان “التهديدات الهجينة والبصيرة الإستراتيجية في عصر الغموض”، وتتكون من تسعة عناوين فرعية هي: الوضع القائم، والواقعية السياسية وحدودها، وهل التعددية القطبية ممكنة؟، والأزمة المتفاقمة، والذكاء الصناعي: القنبلة الذرية للعصر الرقمي، والاكتفاء الذاتي والردع والسيادة، والأنواع الجديدة للقوة أو لماذا على تركيا أن تكون قوية؟، والأمن الإستراتيجي والحرية، والاستخبارات الإستراتيجية والدبلوماسية. ويمكن قراءة الوثيقة ضمن العناوين الرئيسة التالية:
1. تقييم الواقع
تبدأ الوثيقة برفع الواقع الحالي للنظام العالمي، وينطلق كالين من إقرار أن “النظام العالمي الجديد” الذي انبثق بعد نهاية الحرب الباردة “لم يكن نظامًا ولا دوليًّا ولا جديدًا”، لأنه كان استمرارًا لصراع القوة التقليدي معتمدًا على “بارادايم” مركزية الغرب ولم يكن مرتكزًا على مبادئ وقواعد وإنما مصالح المنتصرين في الحرب الباردة.
يرى كالين أن بيئة من الغموض وغياب الأمن تسيطر على الساحة الدولية بسبب صراع القوة والتنافس بين القوى العظمى، والظلم العالمي، والأزمات المتفاقمة، وما ينتج عن التهديدات الهجينة وغير المتناظرة؛ حيث إن من أنشؤوا النظام العالمي هم أنفسهم من ينتهكون قواعده، ويفقدونه “أرضيته الصلبة” التي لا يمكن تأسيس بيئة حرة آمنة ومرفهة بدونها.
تقرر الوثيقة أن الأزمات والحروب تعزز فكرة أن النظام العالمي ظالم وهش، وأن نشوب الأزمات واستمرارها دون حل سببه حالة التنافس بين القوى العظمى وعدم رغبتها في التوصل للحل خدمة لأهدافها، ويطرح الحرب الروسية-الأوكرانية مثالًا على ذلك؛ حيث كانت قريبة من الحل بوساطة تركية لولا أن بعض القوى رأت في استمرارها استنزافًا لمنافسيها(7).
ينتقد كالين الإغراق في الواقعية السياسية المبنية حصرًا على المصالح والمجردة من الأخلاق والقيم؛ حيث إن التضامن والرضا والتشاركية عناصر أساسية للنظام الدولي، و”لا يمكن أن ينعم أحد بالأمن ما لم ينعم به الجميع”، ما يؤكد ضرورة نسج علاقة متوازنة بين حقائق السياسة الواقعية من جهة والقيم من جهة أخرى لتخفيف حدة النزاعات والتهديدات والمخاطر وجعلها قابلة للإدارة.
ويؤكد كالين أن حالة الغموض وانعدام الأمن ستتعمق في العقود المقبلة وستتسبب بأزمات إضافية؛ الأمر الذي يجعل تحكم القوى العظمى في النظام العالمي القائم يحقق “مكاسب تكتيكية، ولكن خسائر إستراتيجية”(8).
2. النظام العالمي
تشير الوثيقة إلى الثغرات التي يعاني منها النظام العالمي القائم والتي جعلته يتسبب بحدوث المشكلات والأزمات وحتى الحروب، بدل أن يعمل على تفاديها وإدارتها وحلها، وترى أن “وباء كوفيد-19 المستجد وحرب أوكرانيا والمسألة الفلسطينية-الإسرائيلية” أزمات هزت الأسس التي يقوم عليها النظام العالمي، وهي أزمات قابلة للتكرار بوتيرة أسرع وآثار أكثر تدميرًا في عصر السرعة الذي نعيشه.
يرى كالين أن النظام العالمي يتجه من نظام أحادي القطبية إلى التعددية القطبية، لكنه لم يصلها بعد؛ إذ ثمة “تعددية سياسية وجغرافية في العالم، لكن لم تنضج بعد هيئاتها الاقتصادية والتقنية والمؤسسية”، ولذلك فهي بنية تعددية ولكنها متشظية. وعليه، فإن صراع قوى جديدًا بات حتميًّا على الساحة الدولية، والوصول لنظام دولي عادل ومستقر يحتوي الجميع ما زال بعيد المنال، ولذلك فإنه من المرجح حصول أزمات وحروب جديدة، ما يدفع لضرورة الاستعداد لذلك(9).
يتسبب مسار الانتقال لنظام دولي متعدد الأقطاب بعدم الاستقرار وافتقاد الأمن، ويحمل معه تهديدات هجينة وحروب استنزاف جديدة، فالنظام العالمي القائم حاليًّا لا يعالج حالة عدم الاستقرار وافتقاد الأمن وإنما يعمقها. وطالما لم يحل النظام العالمي المشاكل القائمة، ستتعمق الأزمات وتصبح أكثر حدة بفعل الجهات الفاعلة غير الحكومية، والقوى العاملة بالوكالة، والمجموعات شبه العسكرية، والدول والحكومات الضعيفة. هذا النظام الهش والخطر يحول المشكلة لأزمة والخطر لتهديد والمنافسة لمواجهة، فتنتشر التهديدات الهجينة والحروب بالوكالة وحروب الاستنزاف. يقدم كالين الحرب الروسية-الأوكرانية مثالًا مناسبًا لهذا الطرح، ويرى أن مواجهة بين الغرب والصين ستكون مرجحة للأسباب ذاتها، وإن بأساليب وأدوات مختلفة(10).
ولا يغفل كالين الإشارة إلى أن الرغبة في نظام عالمي لا يعتمد المركزية الغربية لا يعني بالضرورة اعتماده مركزية أخرى (صينية أو روسية مثلًا)؛ إذ ليس واضحًا ما إذا كانت الصين أو روسيا تمثل نموذجًا بديلًا أفضل، “فالقوة العسكرية والاقتصادية ليست كافية لبناء النموذج”.
ولذلك، رغم تأكيد كالين على أن “الباراديم” الغربي موضع شك ونقاش، إلا أن البديل غير واضح وغير جاهز حاليًّا. وعليه، ينبغي التنبه للفترة الانتقالية التي يعيشها العالم وما ينتج عنها من مخاطر وفرص والتعامل معها ببصيرة إستراتيجية.
3. تهديدات مستجدة
تؤكد الوثيقة على أن المسار الانتقالي في النظام العالمي يتسبب في تهديدات هجينة ومستجدة للدول، وهي تهديدات لم يعد كافيًا مواجهتها بالأساليب التقليدية؛ ما يتطلب حلولًا هجينة كذلك ويجعل “التفكير بشكل متعدد الأبعاد والأقطاب ضرورة في عصرنا”. وعليه، على تركيا أن ترفع من مستوى إمكاناتها الإستراتيجية بشكل متعدد الاتجاهات والطبقات لمواجهة التهديدات التقليدية وغير المتناظرة والهجينة التي تواجهها بشكل متزامن.
وترى أن ثمة عنصرين أساسيين لا غنى عنهما لحماية سيادة الدول واستقلالها ولتطوير إستراتيجيات وقائية: الاكتفاء الذاتي والردع. ولا تقف حدود الاكتفاء الذاتي عند التقنيات الدفاعية والهجومية والاستخباراتية والصناعية، بل تشمل مجالات عديدة مثل الأمن السيبراني، والأمن البيولوجي، وأمن الطاقة، والأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي، وغيرها. كما أن الردع ليس محصورًا بالقوة العسكرية والأمنية، بل “تصبح التهديدات والأزمات قابلة للتنبؤ والإدارة حين تجتمع القوة الوقائية مع القوة الرادعة للقانون والدبلوماسية”(11).
وتقرر الوثيقة أن الأمن القومي لتركيا وقدرتها على البقاء يفرضان عليها التنبؤ والردع والإجراءات الوقائية في مجالات الأمن المختلفة، بما يشمل الأمن البشري، والأمن البيولوجي، والأمن السيبراني، والأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي، والأمن البيئي، ومكافحة الإرهاب، والهجرة غير النظامية، وتهريب البشر، والجريمة المنظمة، ومكافحة المخدرات، والأزمات الإقليمية والحركات اليمينية المتطرفة الفاشية المعادية للمهاجرين والأقليات.
وتفرد الوثيقة مساحة خاصة بالذكاء الصناعي الذي إضافة لما يتيحه من إمكانات يمكن بتطوراته المتسارعة مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والتزييف العميق أن يتسبب بتهديدات كبيرة تجعله “القنبلة الذرية الرقمية لعصرنا”(12).
إن الوصول للمعلومة الصحيحة الموثوقة بات أحد أهم تحديات عصرنا، لذلك ثمة ضرورة لسن قوانين محلية ودولية لتنظيم عمل الذكاء الصناعي “تمامًا مثل الأسلحة البيولوجية والكيماوية وأسلحة الدمار الشامل”. وهنا تلتقي الوثيقة مع كلمة أردوغان في الاحتفالية والتي عدَّ فيها تطبيقات الهواتف الذكية ثغرة أمنية يمكن استخدامها ضد تركيا داعيًا لضرورة إيجاد تركيا تطبيقاتها الذكية الخاصة بها(13).
4. أنواع جديدة للقوة: لماذا على تركيا أن تكون قوية؟
يعرِّف كالين القوة بشكل مبسط على أنها القدرة على فعل شيء أو جعل الآخرين يفعلونه، باستخدام القوة الذكية أو الصلبة، مفضلًا انتهاج القوة الذكية وفق تعريف جوزيف ناي، من خلال وسائل مثل الإقناع والتحفيز والمكافأة والعقاب والحرمان والقوة المادية. إلا أن القوة لا ينبغي أن تتجاوز حدها ولا أن تتحول إلى غاية بحد ذاتها، فهي مجرد أداة لتحقيق غاية أسمى فالغاية لا تبرر الوسيلة.
وصول أي دولة لأن تمتلك قوة كافية ورادعة ووقائية مرهون باستخدامها كل أنواع القوة بشكل تكاملي وإستراتيجي، ولذا على تركيا أن تدرك مكامن قوتها الاقتصادية والعسكرية والبشرية والثقافية والتاريخية والجغرافية والديمغرافية، وأن تستخدمها بشكل حكيم وعادل وفاعل.
يتطرق كالين لمفهوم القوة الحكيمة والفاضلة التي تلتزم حدودها وتتوخى تحقيق مصالح وخدمة قيم محددة، ويرى موضوع الأمن تشاركيًّا بين الدولة والمواطن، فالدولة تضمن الأمن والمواطن يثق بها. ويرى أن التوازن بين الأمن والحريات ركن رئيس في دولة القانون، ويدعو لتناول الأمن بمفهومه الشامل الذي يضمن الحريات ولا يقيدها، مستعينًا هنا بخلفيته الأكاديمية في مجال التاريخ والفلسفة والفكر الإسلامي ليستعين بمقولات من قبيل: “سد الذرائع” و “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”.
ويقرر أن المبدأ ذاته، التوازن بين الأمن والحريات وضمان الأمن للحريات حين يُتناول بمفهوم متكامل وإستراتيجي، ينطبق كذلك على النظام العالمي، حيث لا يمكن لبنية أمنية لا تضمن حرية الدول واستقلالها وسيادتها أن تنتج عدلًا وأمنًا وتنافسًا بنَّاءً على الساحة الدولية(14).
نقاش وخاتمة
يعد إبراهيم كالين، كما سَلَفه هاكان فيدان، من الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس التركي، وقد عمل مع سلفه لسنوات طويلة في عدة ملفات، ولم يُعرف أنه قام بتغييرات واسعة بخصوص الكادر البشري في جهاز الاستخبارات لدى تسلمه، ورغم ذلك يبدو أن له بصمة خاصة يريد أن يتركها على الجهاز وعمله بما يتناسب أكثر مع شخصيته وخلفيته، وكذلك بما يليق بالمئوية الجديدة للجمهورية التركية أو ما يطلق عليه أردوغان اسم “قرن تركيا”.
أولى الملحوظات هو توجه كالين لنوع من الانفتاح أو الظهور النسبيين، تأثرًا بشخصيته ومسيرته المهنية فيما يبدو، ويتبدى ذلك مثلًا في نشر كلمته في الاحتفالية وتحويلها لوثيقة منشورة، وتحديث موقع جهاز الاستخبارات وتفعيله، على عكس فيدان الذي تندر الإعلاميون أنهم سمعوا نبرة صوته لأول مرة حين رُشِّح لوزارة الخارجية بعد 13 عامًا متواصلة من قيادة الاستخبارات.
الملمح الثاني هو سعيه لأن يكون عمل جهاز الاستخبارات خاضعًا لرؤية علمية وإستراتيجية واعتماد المهمات التكتيكية على رؤية الصورة الأكبر عالميًّا وإقليميًّا، ومن شواهد ذلك إعلانه عن افتتاح “أكاديمية الاستخبارات الوطنية” في إطار جهاز الاستخبارات وعملها بشكل دوري على بعض الملفات بشكل علمي أكاديمي وقد نشرت أول تقرير لها عن حركات اليمين المتطرف في أوروبا.
بدا واضحًا أن كالين يسعى لتقديم عمل جهازه لتحقيق المصالح التركية فيما يطلق عليه “إطار أخلاقي-قانوني-سياسي”، وبشكل يسعى لتحقيق مصالح الشركاء والحلفاء والجيران على قاعدة الربح للجميع. ولذلك فقد كثرت في الوثيقة الإشارات الأخلاقية والقيمية ومصطلحات من قبيل الغايات السامية والقوة الحكيمة، والتأكيد على أن التقريب بين حقائق الواقعية السياسية والقيم أمر سياسي بقدر ما هو مبدئي.
بيد أنه لا ينكر بين طيات الوثيقة أن التحالفات والمبادرات المشتركة لا تغني أي دولة وتحديدًا تركيا عن العمل على تعزيز قدراتها الذاتية والسعي لتحقيق مصالحها بنفسها. بل إنه التقى مع أردوغان في مقولة: إنها تُستهدف من قبل بعض الأطراف لهذا السبب تحديدًا، حين أشار أردوغان لاستهداف بلاده إثر موقفها الرافض للعدوان على غزة على سبيل المثال(15).
أكدت الوثيقة أن سياسة تركيا الخارجية ليست في حالة انتقال من محور لآخر، بل عدم التزامها بمحور واحد على الساحة الدولية. إذ ذكَّر بأنها عضو فاعل في حلف شمال الأطلسي حيث تعمل لقوته واستمراريته ولها مساهمة فاعلة في كل عمليات اتخاذ القرار داخله “لكن التزامها بالحلف لا يحول دون انفتاحها على مبادرات إقليمية ودولية”. فهي كدولة مستقلة وذات سيادة تبحث عن مصالحها؛ الأمر الذي يلتقي مجددًا مع ما أسماه أردوغان “محور تركيا”(16).
من اللافت أن الوثيقة لم تعمد لترتيب التحديات الأمنية التي تواجهها تركيا كما جرت العادة، وإنما أشارت لحالة الترابط والتأثر وأحيانًا الاعتمادية بين مختلف التحديات. لا يعني ذلك بالضرورة أن مكافحة الإرهاب ومواجهة المنظمات المصنفة إرهابية وانفصالية لم تعد الأولوية رقم واحد للجهاز الأمني التركي، لكنها هنا تضعها ضمن رؤية أوسع وأشمل بما في ذلك متغيرات النظام العالمي والتطورات الإقليمية، ما يحيل على ضرورة انتهاج إستراتيجية أكثر شمولًا تتوزع على مجالات عدة وليس فقط الشق العسكري-الأمني.
كما تعزز الوثيقة الإطار النظري لما تنتهجه تركيا عمليًّا في السنوات الأخيرة من قبيل “الحرب الاستباقية” و”تجفيف منابع الإرهاب” من خلال العمليات العسكرية خارج الحدود في كل من سوريا والعراق. وتضع الاستخبارات الدقيقة المبنية على أسس سليمة وذات البصيرة الإستراتيجية والقدرة على التنبؤ أساسًا لكل نجاح للدولة بما في ذلك العمل الدبلوماسي نفسه إذ تقرَّر أنه “لا دبلوماسية فاعلة دون استخبارات سليمة”.
في الخلاصة، لم يعمد الرئيس الجديد لجهاز الاستخبارات التركي فيما هو معلن لتغييرات جذرية في الجهاز، لا على صعيد الكادر البشري ولا التقسيمات الإدارية. لكن سعيه واضح لترك بصمة جديدة على فلسفة تناول الجهاز للأمن وترتيب أولوياته وتحديد مجالات عمله الحالية وتلك التي سيحتاج ولوجها مستقبلًا، ضمن رؤية موحدة مع مؤسسات الدولة الأخرى لتحقيق تركيا أكثر قوة وردعًا وتحقيقًا لمصالحها الحيوية.