بدأت هياكل السلطة التقليدية في الشرق الأوسط تتداعى ممّا يمهد الطريق لمجموعات وتهديدات جديدة بالظهور من تحت الأنقاض. ونتيجة لذلك، سوف تضطر الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في استراتيجيتها بالمنطقة. كما مكنت نكسات القاعدة من ازدهار الدولة الإسلامية، لذلك سوف تتحرك الجماعات الإرهابية الأخرى لملء الفراغ الناجم عن تهاوي الدولة الإسلامية في نهاية المطاف.
وبعد سنة واحدة من العمليات العسكرية ضد داعش، والمعروفة باسم عملية “الحل المتأصل”، لم تكن الولايات المتحدة قادرة على تنفيذ ضربة قاضية ضد تنظيم الدولة الإسلامية التي نصبت نفسها كقائد للقضاء عليه. وقد تم شن غارات جوية يومية، ولكن كان هناك القليل على صعيد الدعم الأرضي الفعلي رغم أنه ضرورة حتمية لهزيمة عدو مثل داعش، بحسب ما يروّج إلى ذلك الخبراء العسكريون. وغذى عدم النجاح المحيط بالحملة الاعتقاد بأن الولايات المتحدة أصبحت الآن جزءا من المشكلة، بل وأصبح يصب في اتجاه القول بأن واشنطن تمضي تدريجيا نحو الانسحاب من الشرق الأوسط وتفتح المجال لبدائل أخرى تحل محلها.
وفي العراق يبدو أن القوى السياسية في هذا البلد بدأت تستشعر نهاية الدور الأميركي أو على الأقل رغبتها في الحد من حضورها بالمنطقة، وظهر ذلك في البيان الذي صدر في الحادي عشر من أكتوبر الماضي وفيه قالت علية نصيف، عضو البرلمان العراقي، “الأمريكان خدعونا على مدى السنوات الـ12 الماضية”. وانتهى البيان إلى أن “القوى السياسية يجب أن تتحمل اليوم مسؤولية وطنية وتاريخية، كما يجب علينا أن نستثمر الفرصة التاريخية للشعب العراقي في السماح لروسيا بشن الهجمات المباشرة ضد داعش”. ما يعني أن الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة الأميركية (مثال ذلك حكومات العراق ما بعد 2003) في طريق البحث عن تحالفات جديدة على حساب واشنطن.
ومختلف هذه المعطيات جعلت من الوجود الأميركي في المنطقة محل جدل بين الباحثين والمتابعين، حيث يرجح البعض أن واشنطن لا يمكنها مغادرة البيت الذي عملت لسنوات على إخضاعه إلى نظمها وتوجيهاتها عبر سياستها القائمة في الظاهر على ضمان المصالح المشتركة، فيما يرى آخرون أن الولايات المتحدة وعلى مر العقود الماضية كانت تطمح إلى خلق فضاء من الفوضى يجعل من إمكانية سيطرة قوة بعينها على المنطقة دونها مهمة صعبة إن لم نقل مستحيلة.
الولايات المتحدة تفتقر إلى أدوات دبلوماسية وسياسية واقتصادية كافية للتأثير على الاتجاهات السياسية والإقليمية
المخاوف من الإرهاب
من العوامل التي قد تحمل الولايات المتحدة الأميركية على البقاء في منطقة الشرق الأوسط هاجس الإرهاب والخوف الدائم من أن ينتقل خطره إلى عمق البيت الأميركي. وفي دراسة لمركز ستراتفور للدراسات الاستراتيجية والأمنية، تشير إلى أن الولايات المتحدة لم تفهم التهديد الذي يشكله الإرهاب الذي تتعرض له حتى 11 سبتمبر 2001.
ففي أعقاب هذه الهجمات أدرك زعماء الولايات المتحدة أن الجماعات الإرهابية يمكن أن تستهدف بنجاح وتقتل أعدادا كبيرة من المواطنين الأميركيين على الأراضي الأميركية. ولمنع تكرار وقوع هجوم على مقاس 9/11، أطلق الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش هجوما واسع النطاق ضد الجماعات الإرهابية في جميع أنحاء العالم حتى أنه سمّاها “الحرب العالمية على الإرهاب”.
لكن هذه الحروب التي أطلقها البيت الأبيض كانت لها عواقب وخيمة على الإدارة الأميركية من جهة وعلى الدول التي تم غزوها تحت مظلة الحرب على الإرهاب من جهة أخرى، ولا سيما العراق وأفغانستان، وهي عواقب مازالت تلقي بظلالها حتى اليوم. ويرى محللون أن النتائج السلبية التي تراكمت بفعل السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة الأميركية إبان فترة احتلال العراق، جعلت أوباما يتصرف بحذر شديد في سياسته الخارجية، حيث قرر تحويل سياسة واشنطن الخارجية إلى سياسة المتفرج أو المتدخل عن بعد بدلا الانسياق المتسرع والمتهور وراء الأحداث مثلما كان ذلك حاصلا خلال فترة حكم جورج بوش الابن.
وبهذا تغيرت استراتيجية مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة وأصبح الهدف الجديد، بحسب مركز ستراتفور، هو سحب جميع القوات التابعة للولايات المتحدة وحلفائها واستبدالها بمساعدات عن بعد. وأصبحت المساعدات المالية وتبادل المعلومات الاستخباراتية والدعم اللوجستي أدوات الغرب الأولية لبسط نفوذه على الأرض. لكن هذا الموقف مني بالفشل أيضا، حيث تدهور الأمن في أفغانستان والعراق وغادر الموظفون الأجانب دفعة واحدة، كما أن اندلاع الحرب الأهلية في سوريا المجاورة مكن تنظيم القاعدة في العراق من التحول في البداية إلى الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام ثم إلى الدولة الإسلامية.
ومع ذلك، لا تزال واشنطن تبحث عن التوازن المثالي بين غزو واسع النطاق وفك الارتباط بالكامل. وحتى الآن، فإن محاولة إعادة الانخراط في العراق وسوريا والدعم القتالي إما أنهما حققا نجاحا محدودا أو فشلا بشكل صريح. وقد استعادت القوات الأميركية المدعومة من الغرب بعض الأراضي في العراق خلال العام الماضي في ظل بعض المكاسب التي تحققت تدريجيا وكانت مكلفة. وكلما تواصلت معركة الولايات المتحدة ضد الإرهابيين الذين يرغبون في مهاجمتها، كلما تواصل البحث عن وسائل لمكافحة فعالة لأعدائها دون تجاوز لقدراتها. ولكن دون أن تجازف باتخاذ القرار القاضي بانسحابها التام من المنطقة التي ستبقى رغم مشاكلها وعللها بمثابة الفضاء الاستراتيجي لعدة اعتبارات أخرى أهمها مخزون الثروات الطبيعية فضلا عن الموقع الجغرافي.
فرضية المغادرة
رغم الأحداث الكبرى التي استجدت في مناطق مختلفة من المنطقة وفي دول أخرى من العالم على غرار ما جد في بعض دول الربيع العربي وما يحصل في أوكرانيا، ورغم تبخر حلم حل القضية الفلسطينية على أساس الدولتين وتزايد الأعمال الإرهابية وانتشارها، إلا أن موقف الولايات المتحدة الأميركية ما يزال يراوح مكانه وبقيت واشنطن مترددة، معلنة بذلك عن حقبة جديدة من الأدوار الأميركية في المنطقة والتي سيعقبها حتما التوجه إلى مناطق جديدة أهمها جنوب شرق آسيا.
وقد ظهرت بوادر هذا التوجه مبكرا مع أول زيارة قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى جنوب شرق آسيا مع انطلاق ولايته الثانية، كما سبق أن أعلنت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة سنة 2010، عن الاستدارة نحو الشرق الأقصى في الاستراتيجية الأميركية، معتبرة أن العقد القادم هو “عقد آسيوي”. وتعود إرهاصات هذا التوجه إلى عام 2010، فبعد أشهر قليلة من انسحاب القوات الأميركية من العراق، صرح أوباما في نوفمبر 2011 بأن “الولايات المتحدة ستلعب دورا أكبر وذا أمد طويل في تشكيل مستقبل هذه المنطقة”، (جنوب شرق آسا). وصرح مستشار الأمن القومي توماس دونيلون بأن سياسة أوباما الآسيوية لا تعني التركيز على شؤون القارة الآسيوية فحسب، بل أيضا إعادة توزيع أولويات السياسة الأميركية داخل القارة عبر التركيز أكثر على جنوب شرق آسيا، وإعادة توزيع أولويات السياسة الخارجية الأميركية في مناحيها، الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، على دول شرق وجنوب شرق آسيا.
النتائج السلبية لسياسة واشنطن إبان فترة احتلال العراق، جعلت أوباما يتصرف بحذر شديد في سياسته الخارجية
ولم يعد البترول بمثابة الحافز الذي لا يمكن مقاومته لدفع الولايات المتحدة إلى الاهتمام بالمنطقة. فإنتاج النفط الأميركي قد بلغ معدلات قياسية في السنوات ومرشح لمزيد من الارتفاع لا سيما بعد اكتشاف النفط الصخري في أميركا، كما مكنت تكنولوجيا الاستخراج المستحدثة شركات النفط الأميركية من زيادة الإنتاج بنسق قياسي أدى إلى تخفيض اعتمادها على استيراد النفط وبخاصة من الشرق الأوسط.
وفي شهر مارس الماضي صرح وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، بأن الولايات المتحدة ليس لديها أي استراتيجية للشرق الأوسط، في حين وصفت صحيفة “واشنطن بوست” سقوط مدينة الرمادي بأنه لم يكن نتيجة ديناميات عراقية داخلية، بل من تبعات استراتيجية الولايات المتحدة في الخارج.
ويقول المحلل الأميركي ستيفن والت، إن المصالح الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط لم تتغير كثيرا منذ عقود رغم انتهاج الولايات المتحدة أساليب مختلفة تبعا للظروف المتقلبة. وقد كان من الواضح أن هناك تفضيلا للحقائق الاستراتيجية على التطلعات الأخلاقية، كما يتضح ذلك مثلا من خلال تسامح الولايات المتحدة مع الأنظمة الاستبدادية أو دعم إسرائيل التي تقوم باحتلال الضفة الغربية وقمع حقوق الفلسطينيين بشكل متزايد. ويضيف، أنها أفضل وسيلة لتحقيق الأهداف.
ومن جانبه يقول المحلل براين كوتلس من مركز التقدم الأميركي، إن الولايات المتحدة بقيت القوة العسكرية المهيمنة في المنطقة ولكنها تفتقر إلى أدوات دبلوماسية وسياسية واقتصادية كافية للتأثير على الاتجاهات السياسية والإقليمية، كما أن الديناميات الإقليمية الجديدة كشفت حدود فعالية سياسة الولايات المتحدة في الاعتماد على الأدوات التقليدية للسلطة مثل الجيش والمخابرات.ويضيف كوتلس، أن السياسة الأميركية تفتقر إلى الذكاء والفعالية في الوقت الحاضر رغم إشراكها لسلطاتها المتعددة، سياسيا واقتصاديا.
ويؤكد كوتلس أن المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط الآن يتضمن عددا من الجهات الفاعلة، غير الحكومية، لديها تأثير واسع النطاق أكثر مما كانت عليه في أوقات سابقة، ولذا فإن واشنطن لن تكون قادرة على إملاء سياستها أو السيطرة على الأحداث ما لم تدرس معظم الحكومات الرئيسية في المنطقة ما تقوله الولايات المتحدة أو تفعله بشكل وثيق، وهي بصدد اتخاذ خطوات فعالة ستشكل مسار السياسة الأميركية في وقت لاحق. ويؤمن كوتلس بأن الولايات المتحدة يجب أن تستفيد من التعاقدات الدبلوماسية لصياغة سياسة أكثر حكمة.
صحيفة العرب اللندنية