لا يكاد يمر يوم من دون حدث بارز في البادية السورية مترامية الأطراف والغنية بالموارد، والتي تعج بالفوضى، في ظل وجود أغلب الأطراف المنخرطة في الصراع السوري ضمن جغرافيتها، إذ تمتد إدارياً على العديد من المحافظات السورية. وتتكرر منذ سنوات أنباء عن مقتل العشرات من السوريين الباحثين عن فطر الكمأة في البادية السورية في ظل غموض يكتنف الجهات التي تقدم على قتل مدنيين يبحثون عن هذه الثمرة في فصل الربيع لبيعها في الأسواق، إذ إنها تشكل مصدر رزق لعدد كبير من العائلات التي تقطن على أطراف البادية. وتتجه أصابع الاتهام تارة إلى خلايا تنظيم داعش وتارة أخرى إلى المليشيات. ولا يُقتل جامعو الكمأة على يد مجموعات منفلتة في البادية فحسب، بل أيضاً بانفجار الألغام التي زُرعت على مدى سنوات الصراع من قبل أطرافه، خصوصاً من “داعش” الذي حوّل البادية السورية إلى معقل متنقل له منذ اندحاره في سورية والعراق خلال عامي 2018 و2019.
نشاط “داعش” في البادية السورية
وتنشط خلايا “داعش” على امتداد البادية السورية، التي تعادل مساحتها البالغة 75 ألف كيلومتر مربع نحو نصف مساحة سورية. ويتحرك التنظيم عبرها بكل يُسر، مستفيداً من التضاريس الصعبة، ومعرفة خلاياه لطبيعتها الجغرافية، كونه كان يسيطر على معظمها لمدة ثلاث سنوات. وكان العناصر يتنقلون من الموصل شمال العراق وحتى القلمون الشرقي في ريف دمشق.
وعقد النظام صفقة مع التنظيم في جنوب دمشق، في العام 2018 انتقل من خلالها آلاف العناصر من “داعش” إلى مواقع له في عمق البادية السورية التي تتوزع إدارياً على محافظات عدة، هي دير الزور، والرقة، وحلب، وحماة، وحمص، وريف دمشق، والسويداء.
ويضرب “داعش” أرتال قوات النظام ونقاطه العسكرية، فضلاً عن استهدافه المليشيات الإيرانية والمحلية التي تسانده. وقد وصلت هجماته أخيراً إلى أرياف الرقة الشرقي ودير الزور الجنوبي الشرقي، وحماة الشرقي. وعاود التنظيم أخيراً شن هجمات انطلاقاً من مواقعه في البادية ضد قوات النظام السوري والمليشيات الإيرانية، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على منطقة شرق نهر الفرات، ما يعني أن كل الحملات العسكرية التي قام بها النظام والإيرانيون على مدى السنوات الماضية لم تنجح في الحد من خطر هذا التنظيم الذي يفرض سيطرة شبه مطلقة على مساحة كبيرة من البادية، وخاصة في الليل “حيث تسكن قوات النظام والمليشيات الإيرانية وتتحرك خلايا التنظيم”، وفق مصدر محلي في منطقة تدمر تحدث لـ”العربي الجديد”.
وليس التنظيم وحده في البادية السورية، فالمليشيات الإيرانية تحتفظ بوجود قوي فيها، وخاصة في مدينة تدمر التي تقع في قلبها، والتي شهدت خلال سنوات وجود “داعش” في سورية معارك كبرى، كان للجانب الروسي دور بارز فيها، من خلال الطيران. ومنذ استعادة قوات النظام لتدمر للمرة الثانية في العام 2017 تحولت إلى منطقة نفوذ روسي وإيراني بشكل كامل، حيث مُنع أهلها من العودة إليها. وتسيطر على المدينة، المدرجة على لائحة التراث العالمي، مليشيات إيرانية أبرزها “فاطميون” و”زينبيون”، حيث تقطن عائلات مسلحي هذه المليشيات منازل هذه المدينة. وكان يقع بالقرب من المدينة أحد أسوأ سجون العالم والمعروف باسم سجن تدمر، حيث كان النظام يعتقل فيه معارضيه من مختلف التيارات السياسية، وارتكب داخله مجازر، لعل أبرزها التي جرت في العام 1980 بعد محاولة اغتيال تعرض لها رئيس النظام الراحل حافظ الأسد، حيث صُفي المئات من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين.
طهران تولي أهمية كبرى للبادية
وتولي طهران أهمية كبرى للبادية كونها تقع وسط الممر البري الذي أنشأته، والذي يبدأ من إيران ويمر بالعراق وسورية وينتهي على سواحل المتوسط. وتقع في البادية السورية وعلى أطرافها العديد من المطارات العسكرية التي يتخذ منها الإيرانيون مقرات تمركز رئيسية لقواتهم، أبرزها مطار “تي فور” (طياس) في ريف حمص الشرقي، وهو من أكبر المطارات العسكرية في سورية، وقد قصفته إسرائيل في فبراير/شباط وإبريل/نيسان 2018، وفي سبتمبر/أيلول 2020. وتضم البادية السورية ثروتين، هما الفوسفات والغاز اللذان يتمركزان خصوصاً في ريف حمص الشرقي الذي يعد اليوم منطقة نفوذ للروس والإيرانيين. وذهب الفوسفات كـ”غنيمة حرب لموسكو” نتيجة دعمها العسكري والسياسي اللامحدود للنظام. وكانت سورية قبل العام 2011 من أوائل الدول المصدرة لهذه المادة التي تدخل في إنتاج الأسمدة الفوسفاتية.
وكان رئيس النظام بشار الأسد أصدر قانوناً في 2018، صدّق بموجبه على عقد موقع بين “المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية”، التابعة للنظام، وشركة “ستروي ترانس غاز لوجستيك” الروسية، يسمح للأخيرة باستخراج خامات الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر وسط سورية، والتي تقدر احتياطاتها بـ1.8 مليار طن. وفي البادية ثروة كبيرة من الغاز، حيث تنتشر عشرات الحقول والآبار المهمة التي استعادها النظام من “داعش” في العام 2017، لعل أبرزها الشاعر جحار، والمهر، وجزل، وأبو رياح، وغيرها.
سعد الشارع: للبادية السورية أهمية كبرى كونها البوابة لمعظم المحافظات
بوابة لمعظم المحافظات السورية
وأوضح الباحث السوري، سعد الشارع، في حديث مع “العربي الجديد”، أن للبادية السورية أهمية كبرى “كونها البوابة لمعظم المحافظات السورية، دير الزور والرقة شرقاً، وحمص وحماة وسط البلاد، وحلب وإدلب شمالاً ودمشق والسويداء جنوباً”. ولفت إلى أنه “يمر في البادية السورية الطريق البري الوحيد الذي تسيطر عليه إيران بين العراق وسورية”. وفي الطرف الجنوبي الشرقي من البادية السورية، تقع قاعدة التنف، التي أقامها التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة أميركا في العام 2014، غرب الحدود العراقية بمسافة 22 كيلومتراً، وتبعد نحو 22 كيلومتراً عن الحدود السورية – الأردنية. وتنشط فصائل عدة تابعة للمعارضة السورية في المنطقة، اندمجت أخيراً في تشكيل واحد هو “جيش سورية الحرة”، الذي يتلقى دعماً من التحالف الدولي.
ويمنع التحالف اقتراب أي قوة معادية من محيط القاعدة بعمق 55 كيلومتراً، وهي باتت تُعرف اليوم بـ”المنطقة المحرمة”، إذ جوبهت محاولات قوات النظام دخولها أكثر من مرة خلال السنوات الماضية بالقوة. ويقع ضمن هذه المنطقة مخيم الركبان، الذي يضم آلاف النازحين السوريين، وجلهم من البادية، والذين يعيشون منذ عدة سنوات في ظروف إنسانية تكاد تصل إلى حدود الكارثة، بعد أن هربوا من بطش النظام وتنظيم داعش. وبرأي مدير مركز “الشرق نيوز” فراس علاوي، في حديث مع “العربي الجديد”، فإن البادية السورية “تشكل أهمية كبرى لأطراف الصراع كافة في سورية”. وأوضح أنها تقع “على امتداد الحدود السورية الأردنية”، مضيفاً: هي الممر البري للمشروع الإيراني من العراق إلى سورية ثم لبنان، ومن ثم فإن نجاح المشروع الإيراني في سورية والمنطقة يقوم على السيطرة على البادية.
فراس علاوي: البادية هي الممر البري للمشروع الإيراني من العراق إلى سورية ثم لبنان
وتابع: البادية السورية مهمة لطهران للضغط على الحكومة الأردنية، ما يعني أن هذه البادية أكثر أهمية لعمّان، فهي نطاق حماية للأمن الوطني الأردني. وبرأيه أيضاً فإن الولايات المتحدة تولي هي الأخرى أهمية للبادية السورية “كونها ميدانا واسعا لمحاربة تنظيم داعش من جهة، ومراقبة القوافل الإيرانية والممر البري الإيراني عبر منطقة الـ55 وقاعدة التنف من جهة أخرى”. وأشار إلى أن “داعش” يضع البادية السورية في مقدمة اهتماماته، فهي “منطقة عمليات صعب الوصول إليها من أطراف الصراع الأخرى، لذا تستقر خلاياه فيها منذ سنوات”، مضيفاً: هي مهمة للتنظيم كونها على اتصال جغرافي مع بادية الأنبار غربي العراق حيث تسهل عمليات تهريب السلاح والدعم اللوجستي.