حبس الإيرانيون أنفاسهم يوم الاثنين الماضي، كما جيرانهم، بينما كانت عمليات البحث والإنقاذ مستمرة في منطقة وعرة تتبع إقليم أذربيجان الشرقية – شمال غربي إيران – حيث كانت مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي، الذي كان برفقة وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان وعدد من رفاقهما قد فقدت منذ عدة ساعات. وبعد عمليّات بحث مضن في ظل ظروف طقس غير ملائمة، ومشاركة الجيش وأجهزة عدة، أعلنت السلطات رسمياً عن العثور على ركاب الطائرة الذين وافاهم الأجل نتيجة تحطم طائرتهم أثناء رحلة أقلتهم في طريق عودتهم من زيارة إلى جمهوريّة أذربيجان المجاورة.
دراما الغياب والظهور ونظريات المؤامرة
فور إعلان مصدر رسمي إيراني عن فقدان إحدى ثلاث مروحيات كانت تقل الموكب الرئاسي، دون الحسم بشأن هوية ركابها، دخل الإيرانيون والعالم في ما يشبه مسلسلاً درامياً عن غياب محتمل للرئيس، ومن ثم وجود آمال باحتمال نجاته، لا سيّما وأن الإعلان الأوليّ تحدث عن هبوط اضطراري، لا سقوط.
وكما هو متوقع، وفي موازاة بطء التقدم في عمليّات البحث عن الطائرة، انطلقت في بعض وسائل الإعلام، لا سيما إعلام الدرجة الثانية عبر مواقع الإنترنت، وكذلك فضاءات تطبيقات التواصل الاجتماعي تفسيرات عدة للحادث، سمتها الغالبة التفكير المؤامراتيّ، الذي يسقط هموم وأشواق الشخص ذاته على الحدث المستقل عنه كليّة.
البعض تحدّث عن مؤامرة أمريكيّة – غربيّة نفّذت بواسطة صاروخ متطور وبتقنيات تشويش وتحكم متقدم بالاتصالات في المنطقة.
وقال هؤلاء إن مباحثات سرية بين الولايات المتحدة وإيران في مسقط (عُمان) الأسبوع الماضي بشأن الملف النووي الإيراني انتهت دون احراز تقدم بعد تصادم وجهات النظر وتعنت الفريقين في مواقفهما. وللتأكيد على هذه النظرية زعم البعض أن حالة الطقس لم تكن بذلك السوء الذي وصفته الأجهزة الإيرانية، بل وجزمت أن «الدنيا (كانت) ربيع والجو بديع».
آخرون تحدثوا عن تورط الموساد الإسرائيلي في عمليّة معقدة جاسوسية الطابع، تبدأ من باكو (جمهورية أذربيجان) ولا تنتهي في تل أبيب، وزعموا أن الأيادي الخفيّة عبثت بمعدات الطائرة، وربما زرعت فيها قنبلة موقوتة تسببت في تحطمها لاحقاً. واستدل هواة نفخ قدرات الموساد على تورط صاحبهم في الحادث من المواجهة الأخيرة بين الطرفين بعد استهداف الإيرانيين لإسرائيل مباشرة بالدرونات والصواريخ البالستية رداً على قصف طائرات الكيان العبري لمقر يتبع السفارة الإيرانية في العاصمة السوريّة دمشق، واضطرار الإسرائيلي تحت ضغوط الحلفاء الغربيين ولمصلحة عدم توسيع دائرة الحرب الدائرة في غزّة إلى «بلع الموس» والاكتفاء بهجوم رمزي، اعتبر الإيرانيون أنه وكأنه لم يحدث. ولذا فإن تصفية الرئيس الإيراني هي طبق الانتقام البارد الذي جهزه الموساد ليكون الرد الفعلي على تجرؤ إيران على قصف الكيان.
طبقة أخرى من الجمهور – لا سيما في أوساط الإيرانيين المعارضين المقيمين في الخارج – نظرّت لاعتبار حادث سقوط الطائرة جزءاً من صراع متوتر ومستمر بين الأجنحة المحافظة وتلك الإصلاحيّة في قلب المنظومة الحاكمة في طهران. وقال هؤلاء إن رئيسي أصبح فعلياً رجل إيران القوي، والمرشح الفعلي والأساسي لخلافة الإمام الخامنئي في منصب المرشد العام الذي بلغ من العمر عتياً، وإن التخلص من الرئيس من خلال اختراق فنيّ لمروحيته سيمنع وصوله إلى المنصب الأعلى في النظام الإيراني الحاكم خلال السنوات المقبلة، حيث سيتمتع عندها بصلاحيات واسعة تمكنه – وهو رجل القانون قوي الشكيمة – من إطلاق جمهورية ثالثة مغايرة في توجهاتها للجمهوريتين السابقتين (الخميني الأولى والخامنئي الثانية) وأقل ميلاً لخوض النزاعات في الإقليم، وهو ما قد لا تتفق عليه بعض الرؤوس الحامية في النظام. واستدل بعض أصحاب هذه النظرية بتجاهل السلطات الإيرانية (المزعوم) لعرض روسيّ بتقديم مساندة تقنية متطورة للعثور على المروحية المفقودة، وفسروا ذلك بخشية المتآمرين من داخل النظام بأن يتمكن الروس بقدراتهم المتقدمة من الكشف عن مسببات حادثة السقوط.
والتحق بأصحاب نظرية المؤامرة الداخلية هذه فريق يقول إن الفاعلين قد يكونوا جهات من داخل النظام متعاطفة مع المعارضة الإيرانية في الداخل نجحت في تحقيق اختراق لدائرة أمن الرئيس.
وبالطبع، فقد ظهر منظرون ممن رسموا سلسلة متصلة من كل هؤلاء المتآمرين المحتملين. فلم لا يكون القاتل أمريكيا – إسرائيلياً تقاطعت أهدافه مع طموحات أطراف من داخل النظام – لا تريد جمهورية ثالثة يقودها رئيسي – واخترقت من قبل متعاطفين مع المعارضة الإيرانية في الداخل؟
بين عقل المفتش «كولمبو» و«شفرة أوكام»
يبدو منطق أصحاب هذه التفسيرات لحادثة مروحية الرئيس الإيراني أقرب ما تكون إلى منطق تفكير محققي الجرائم – على نسق المفتش «كولمبو» في المسلسل ذائع الصيت – والذين ينطلقون عادة في بحثهم عن القاتل من السؤال حول الجهة المستفيدة من تغييب الضحية. على أن هذا النهج في البحث يفترض مسبقاً أن ثمّة جريمة وقعت بالفعل، ولذلك فقد يقصّر – في حال غياب معلومات أو أدلة تنفي حدوث جريمة – عن البحث في مبررات أخرى موضوعية قد تكون تسببت بمقتل الضحية دون أن تكون نتاج فعل جرميّ بالضرورة. ولعل الأنجع في حال المروحية المشؤومة التي استقلها الرئيس الإيراني اعتماد مبدأ (شفرة أوكام)، حيث تكون أبسط الحلول عادة وأقلها تعقيداً هي الحل الصحيح ما لم يتعارض ذلك بالطبع مع معطيات مؤكدة تذهب عكس ذلك.
وفي الواقع، فإن الرئيس استقل طائرة هليكوبتر أمريكيّة الصنع «بيل 212» يزيد عمرها عن ضعف المعدل العالمي لأعمار الطائرات من فئتها وسجلت آلافاً مؤلفة من ساعات الطيران الجوي، وهي حالة عامة تعكس تقادم معدات الطيران، التي تمتلكها إيران، سواء في أسطولها المدنيّ أو العسكري أو ذلك الذي تديره فرق الإنقاذ بسبب الحصار الأمريكي / الغربي الصارم المفروض على تصدير التكنولوجيا والمعدات وقطع الغيار إلى نظام طهران.
وفوق ذلك لم تكن ظروف تحليق مروحية الرئيس مثالية على الإطلاق، إذ شرعت الطائرة العتيقة في مواجهة قاسية مع طقس لا يرحم بينما تحلق فوق تضاريس وعرة غارقة في ضباب كثيف.
ولذلك، وفي ظل غياب معطيات مثبتة أخرى، فإن ما أودى بالمروحية كان على الأرجح خطأ تقنياً بالنظر إلى قدم الطائرة – التي استخدمت نماذجها المختلفة في حرب فيتنام خلال سبعينيات القرن الماضي – كما ندرة قطع الغيار بسبب العقوبات الغربية على المؤسسات الإيرانية، بما في ذلك ضوابط التصدير على معدات الطيران – والمصممة تحديداً لإحباط جهود تجديد إيران لأسطولها البريّ أو العسكريّ، ومنعها من الحصول على قطع الغيار، أو عقود خدمات الصيانة -. وبحسب الخبراء فإن ظروف التشغيل يجب أن تؤخذ دائماً بعين الاعتبار عند كل رحلة بما في ذلك بالطبع الطقس والصيانة.
وقد سارعت «بيل تكسترون، الشركة الأمريكية التي صنعت المروحية المتورطة في حادث وفاة رئيسي لإخلاء مسؤوليتها عبر بيان قالت فيه: «إن بيل لا تقوم بأي أعمال في إيران، وهي لا تقدم خدمات الدعم لأسطول طائرات الهليكوبتر التي تمتلكها».
وتحافظ إيران، على تحليق طائراتها عبر مزيج من قطع الغيار المهربة، وأحياناً من منتجات الهندسة العكسية، ومع ذلك من الجليّ أن العقوبات الأمريكيّة – الدولية تمنع الإيرانيين من تحسين مستويات أمان السفر في الطائرات المروحية، ما قد يعني ببساطة أن هذه الحادثة الأخيرة ليست سوى الجريمة الأحدث التي ترتكبها الإمبراطورية الأمريكية ضد الشعب الإيراني من خلال الحصار ضمن قائمة طويلة من الجرائم.