تفترض السلطات الإيرانية أنها بقرارها تعيين موعد لانتخاب خلف للرئيس إبراهيم رئيسي يمكنها تحويل الأنظار عن أسئلة أساس حول الحادثة التي أودت بحياة الرئيس ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان ومسؤولين آخرين، لكن الأمر لا يبدو بمثل هذه السهولة، إذ إنه مع كل يوم يمر تزداد الأسئلة إلحاحاً حول حقيقة ما جرى لمروحية الوفد الرئاسي العائد من افتتاح سد مشترك مع أذربيجان على نهر آراس الحدودي الفاصل بين البلدين.
لا يقتصر طرح الأسئلة والتساؤلات على أوساط الإقليم ودول العالم وصحافتها، وإنما يطاول فئات وشرائح واسعة في إيران نفسها، فما جرى لم يكن أمراً يمكن المرور عبره وتجاهله، على رغم أن إيران شهدت حوادث مماثلة في السابق ذهب ضحيتها رؤساء وقادة في الثورة التي تزعمها الإمام الخميني وكان وريثه المرشد علي خامنئي شاهداً عليها.
لقد بدا منذ الإعلان الأول عن فقدان المروحية الرئاسية أن القيادة الإيرانية بزعامة خامنئي كانت تتوقع المصير المأسوي للرئيس ووزير خارجيته. ففي رسالته الأولى إلى الإيرانيين ظهر أن خامنئي كان ملماً بمقتل “خادم الشعب”، لذلك دعا إلى “عدم القلق على البلاد، فلن يكون هناك أي اضطراب. والدولة لن تتأثر”.
على الفور تحرك نائب الرئيس محمد مخبر فأمر بعقد اجتماع لحشد كافة الجهات لمتابعة وضع الرئيس، لكن الاضطراب كان واقعاً وتعددت التسريبات الرسمية حول ما جرى. مدير مكتب رئيسي غلام حسين إسماعيلي الذي كان في الوفد على متن مروحية أخرى روى أن اتصالات جرت مع الطائرة المنكوبة بعد أن أعطى قائدها أمراً بالارتفاع فوق السحاب.
جاء في روايته أيضاً أنه تحدث مرتين مع إمام جمعة تبريز بعد سقوط المروحية، وكان الإمام حياً بين الأشجار. وكرر وزير الطرق والتنمية مهرداد بازرباش رواية مشابهة، لكنه نفى أن يكون وإسماعيلي في المروحية الأخيرة من الموكب، وإنما كانا في مروحية المقدمة.
أثارت تلك الروايات دهشة واستغراباً فتساءلت صحيفة “هم ميهن” الإيرانية، “إذا كان إسماعيلي تحدث مع إمام جمعة تبريز مرتين فلماذا لم يعثر على الطائرة خلال ست ساعات قبل حلول الظلام”؟ ثم ستأتي رواية أخرى عن استبدال بازرباش وعبداللهيان مقعديهما لتزيد في الغموض.
ذكر موقع إيراني قريب من السلطة أنه “لو بقي عبداللهيان في المروحية التي كان فيها ولم يطلب من وزير الطرق بازرباش أخذ مكانه إلى جانب رئيس الجمهورية لنقاش موضوع مهم لكانت صورة المشهد مختلفة وأقل قسوة، لكنه القدر الذي يؤمن به الراحلان في صيغته الدينية”.
بقي بازرباش حياً بالصدفة، وكان على عبداللهيان أن يقضي حتفه بسبب “الموضوع المهم” الذي سيناقشه مع رئيسه، والذي لا يتحمل نصف ساعة من الانتظار.
إذا صحت رواية استبدال المقاعد هذه فهي في أقل الحالات خرقاً لبروتوكول تنقل المسؤولين، وفي تفسير آخر، كتبه محلل تركي، هي أمر متعمد كي يقضي الاثنان معاً في “مروحية الموت”.
سارعت القيادة الإيرانية فور اكتشاف الضحايا إلى تحديد موعد ومكان إقامة مراسم التشييع والدفن في تظاهرات مماثلة لتلك التي شهدتها جنازة قاسم سليماني. لم يظهر أن التحقيق في الواقعة يرتدي أهمية أولى. كان ملء الفراغ هو الشغل الشاغل فجرى تحديد موعد لانتخاب رئيس جديد في الـ28 من يونيو (حزيران) المقبل وسارت الأمور كما وعد خامنئي قبل إعلان موت “الخادم” رسمياً بساعات.
أمر آخر انشغلت به القيادة الإيرانية وهو الرد على إعلان تركيا أن إحدى مسيراتها “أكينجي” هي التي حددت موقع الضحايا، كان الإعلان التركي بمثابة فضيحة للتطور التقني والحربي الذي تنسبه إيران إلى نفسها، وتسبب في ردود غاضبة في طهران التي نفت بلسان هيئة الأركان فيها أن تكون المسيرة التركية قد كشفت عن مكان سقوط المروحية، وإنما كشفته مسيرة إيرانية عادت على عجل من مهمة فوق المحيط الهندي.
افتخرت تركيا بـ”أكينجي” ومخترعها صهر الرئيس رجب أردوغان تلحوق بيرقدار، وأثنى أردوغان شخصياً على هذا الإنجاز، لكن ما ضاعف في التوتر الإيراني هو ما نشره الإعلام التركي، وبعضه عن لسان مسؤولين من شكوك حول مقتل الرئيس الإيراني وصحبه.
النائب السابق المقرب من أردوغان ياسين أقطاي لم يستبعد “عملية اغتيال” وكتب عن” غرابة” سفر كل هذه الشخصيات في مروحية واحدة. ويذهب أقطاي أبعد من ذلك ليقول إن “نية الاغتيال كانت مبيتة”، مضيفاً أنه إذا كانت هناك “عملية اغتيال فإن احتمال حدوثها من الداخل سيكون أعلى بكثير”.
كثرت التحليلات عن احتمالات قتل مرتبطة بالتمهيد لخلافة خامنئي، وتحدث كثر عن مرحلة مستقبلية يكون فيها رئيسي مرشداً وعبداللهيان رئيساً للجمهورية. كان رئيسي الذي لقب يوماً بـ”جزار طهران” لمساهمته في إعدام ألوف المعارضين في ثمانينيات القرن الماضي، زبدة ما يمكن للتيار الأصولي أن يقدمه للمنصب الإداري الأول.
وكان عبداللهيان ممثلاً ممتازاً للحرس الثوري على رأس الدبلوماسية الإيرانية. في عهدهما جرى تحقيق ما منعت حكومة حسن روحاني من تحقيقه، بحسب ما قال جواد ظريف في مذكراته. لقد تمكن رئيسي وعبداللهيان على العكس من “توحيد الدبلوماسية والميدان”، باتت السياسة الخارجية في خدمة “الحرس الثوري” و”فيلق القدس”، مع الاحتفاظ بتلك المساحة الرمادية في العلاقة مع الخارج غير المسموح بها في علاقات القوى بالداخل، وفي لحظة ما بدا وكأن عبداللهيان حل محل سليماني، ولكن بصفته وزيراً للخارجية لا جنرالاً يوزع المهام على الأنصار والمنظمات التابعة.
في هذا السياق نظر ثنائي رئيسي- عبداللهيان لسياسة التوجه شرقاً نحو الصين وروسيا من دون إقفال الباب أم استمرار التواصل مع أوروبا وأميركا. بل إنه، وفي مصادفة مثيرة، حرصت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة قبل ثلاثة أيام من مصرع رئيسي وعبداللهيان على الإعلان أن المحادثات الإيرانية – الأميركية “عملية مستمرة”، واجتماعات مسقط “لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة”.
لم يكن مألوفاً في الأدبيات الإيرانية أن يجري الحديث عن العلاقة مع أميركا على هذا النحو، لكن أشياء أخرى في السياق، حصلت بقيادة حكومة رئيسي أوحت ببدايات نهج جديد في السياسة الخارجية الإيرانية. لقد تحسنت العلاقة بين إيران ودول الخليج في ظل هذا النهج، واستبدل العداء والاستنفارات الحدودية مع أذربيجان، التي نفذها الحرس الثوري بجهود لإرساء علاقات ودية.
خلال رحلته الأخيرة لافتتاح السد مع نظيره الأذري إلهام علييف قال رئيسي: علاقاتنا علاقة قرابة لا جيران، وسيتم تحويل حدودنا إلى حدود للأمل والفرص. رئيسي كان وعبداللهيان قصدا باكستان في وقت سابق لتأكيد علاقات التعاون بعد مغامرة “الحرس الثوري” في قصفها.
تعد صحيفة “أرمان أمروز” الإصلاحية أن إيران في عهد رئيسي وضعت حداً “للازدواجية في السياسة الخارجية”، وتضيف، “أن وجود دبلوماسي ميداني على رأس وزارة الخارجية، يتمتع بعلاقات وثيقة مع قادة الميدان الإيرانيين وآخرين مثل ’حزب الله‘ وغيره في المنطقة، هو ما منح هذه الرؤية نتائج جيدة”.
لم تتمكن السلطة الإيرانية من تقديم أجوبة شافية حول حادثة الطائرة الرئاسية، فبينما طالبت تركيا بأجوبة، عدت روسيا بلسان إعلامها مقتل رئيسي خسارة للسلام في القوقاز. ثم جاء الرئيس فلاديمير بوتين ليعلن أن الطائرتين الناجيتين في موكب الرئيس كانتا من صنع سوفياتي.
لا يكفي كل ذلك لتحميل العقوبات الأميركية مسؤولية سقوط طائرة الرئيس وصحبه، ولا توضح تصريحات قادة سلاح الطيران الإيراني عن كفاءة الطيارين الذين قضوا في الحادثة الأسباب الفعلية لما جرى. كما أن بيان هيئة الأركان الأول عن التحقيق لا يقدم أجوبة شافية. لقد حرصت الأركان الإيرانية على القول إن أثار رصاص لم تظهر على المروحية، وإن مسيرة إيرانية هي التي اكتشفت موقع سقوط مروحية الموت.
لكن لماذا تحدث بيان الأركان عن رصاص يلاحظ؟ سؤال من أسئلة ستبقى في انتظار أجوبة ربما لن تأتي إلا بعد تبلور طبيعة التركيبة القيادية التي ستخلف رئيسي والمرشد معاً.