مع تتالي الاعتراف الدولي بفلسطين دولة في المحيط الإقليمي والدولي، وفي إطار خطوات متسارعة للقيام بذلك على المستويات المختلفة، فإن السؤال: هل سيؤدي هذا الأمر إلى إيجاد دولة فلسطينية وفقاً لسياسة الأمر الواقع؟ بخاصة أن الأمر يراه البعض له دلالات رمزية في المقام الأول، وليس إجراء حقيقياً ربما يستكمل في سياقات محددة، بخاصة مع تمسك الجانب الفلسطيني بوضعه وتحديد حدود كيانه في ظل تعنت إسرائيلي كامل، والمضي في مساره مع استكمال مشروع الاستيطان بالكامل.
ويشار إلى أن فلسطين تعد حالياً دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، مما يعني إمكانية مشاركة ممثليها في جلسات الجمعية العامة، وامتلاك مكاتب داخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك. واستناداً إلى منح الجمعية العامة للأمم المتحدة فلسطين وضع دولة مراقبة عام 2012، فقد انضمت بذلك إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، وهي المحكمة الدولية الدائمة الوحيدة المتخصصة بمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب.
واقع متغير
ويحمل اعتراف إسبانيا والنرويج بفلسطين دولة دلالات معينة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، إذ إن الأولى استضافت قمة مدريد مطلع التسعينيات، والثانية كانت موقع مفاوضات أوسلو السرية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وأنتجت بالفعل السلطة الفلسطينية على الأرض بمقتضى “أوسلو السياسية”، إضافة إلى “أوسلو الاقتصادية”، ممثلة بالفعل في اتفاق باريس الاقتصادي، الأمر الذي يشير إلى أن تتالي الاعتراف الدولي من دول أخرى يؤكد أن الأمر يمضي في صالح القضية الفلسطينية، ويؤدي إلى تبعات مهمة على المستوى الرمزي لا القانوني المنشئ للدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية.
لكن يبقى السؤال: هل تستوفي الأراضي الفلسطينية المعايير القانونية الخاصة بالتعريف القانوني للدولة؟ ويؤيد البعض ذلك على أساس توافر الشروط الموضوعية، فيما يرد البعض الآخر بأنها لا تستوفي المعايير المدرجة في اتفاق مونتيفيديو، ويرفض أنصار المؤيدين الاعتماد على التعريف الذي وضعته الاتفاقية، مؤكدين أنه يجب على الفلسطينيين المطالبة بدولتهم من خلال بوابة الاعتراف الدولي.
ويرى الجانب الفلسطيني أن البقاء في جزء من الأرض الفلسطينية لا يلغي المطالبة بكيان أوسع بنص القرار 181 القاضي بإعلان دولتين على الأرض: دولة يهودية، وأخرى عربية، وهو القرار الذي أسس وأكد وجود إسرائيل، ولا يمكن لإسرائيل التذرع بعدم تأثيره أو التسليم بوجوده.
وهنا، يبدو أننا أمام موقف فلسطيني آخر يطالب بدولة مستقلة على جزء من الأرض التاريخية، وفق نص القرارات الدولية، وفي هذا الإطار تتشاطر كل من حركة “حماس” والسلطة الفلسطينية وممثلتها حركة “فتح” في هذا الإطار، إذ قبلت “حماس” بحدود يونيو (حزيران) 1967، وسلمت بها في تعديلات الميثاق، ومن خلال رؤية موثقة رسمياً، وأغلقت الباب أمام رواية فلسطينية من النهر إلى البحر، التي قد كانت مطروحة، كذلك اعترفت حركة “فتح” بأن إنشاء الدولة الفلسطينية سيجري وفق مقاربة دولية ونصوص الشرعية الدولية، ومراجعة للمصالح الكبرى الحاكمة، وارتكاناً إلى نص القرار 242 و338، إضافة إلى مبادلة الأرض مقابل السلام.
توجه مختلف
وفي سياق ما يجري، أعلن وزير الخارجية البريطاني، ديفيد كاميرون، أن بلاده تدرس الاعتراف رسمياً بدولة فلسطينية، وربط ذلك بإنهاء دور حركة “حماس” من غزة أولاً، وإقامة حكومة فلسطينية في غزة والضفة الغربية، وكذلك وضع خطة ملموسة لإصلاح السلطة الفلسطينية ودعمها، وخطة أخرى لإعادة بناء غزة، إضافة إلى حل الدولتين. كما طلب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من وزارة الخارجية مراجعة الخيارات السياسية في شأن الاعتراف الأميركي والدولي المحتمل بدولة فلسطينية بعد انتهاء الحرب بين إسرائيل و”حماس”.
وفي مقابل ذلك الطرح الفلسطيني يأتي الموقف الإسرائيلي، الذي يعمل في مساحات كبيرة من المواقف الرافضة قيام الدولة الفلسطينية، ويراوغ في مساحات الدولة الثنائية القومية أو الدولة المتعددة الأقطاب أو الدولة الواحدة أو الدولة الموقتة التي يمكن أن توجد كمرحلة استثنائية، قبل أن تتشكل أركانها ودعائمها المختلفة.
وإزاء ذلك، فنحن أمام موقفين متناقضين، بخاصة أن الطرف الأميركي هو الآخر مسلم تماماً بضرورة أن توجد الدولة من خارج إطار الأمم المتحدة، ومن خلال المفاوضات الدولية، وبالعمل المشترك إسرائيلياً وفلسطينياً، وبدعم المجتمع الدولي، أما الدخول إلى أروقة مجلس الأمن أو أي صيغة أخرى من خلال البنود الاستثنائية الممنوحة للجمعية العامة، ومنها صيغة “متحدون من أجل السلام” أو غيرها أو صلاحيات الأمين العام للأمم المتحدة سيواجه برفض دولي تقوده الولايات المتحدة، وهو ما جرى، أخيراً، في محاولة فلسطينية مدعومة من الجزائر، الدولة العضو في مجلس الأمن، وأحبطته الولايات المتحدة مباشرة.
وعليه، فسيظل موقف إسرائيل مطروحاً من خلال رفض الحكومة الإسرائيلية أي صيغة في هذا الإطار، وكل ما يطرح بمنح الجانب الفلسطيني سلطة منفردة أو حكم ذاتي أكبر من حكم منفرد على مساحة من الأرض الفلسطينية، كما هو جار وأقل من دولة كاملة السيادة، وإن خلت من القيام بدور مركزي أو لديها قوات مسلحة أو قدرات عسكرية، وهو ما دعت إليه بعض الدول العربية، منها مصر، التي طالبت بدولة منزوعة السلاح، تعيش إلى جوار الجانب الإسرائيلي، وهو ما رفض إسرائيلياً، إذ لا يوجد في الفكر السياسي الإسرائيلي إيمان ولو مبدئي، للقبول بوجود دولة للشعب الفلسطيني.
إشكاليات قائمة
ويظل السؤال: هل يؤدي مزيد من الاعتراف الدولي إلى واقع جديد أم سيبقى الأمر في إطاره في ظل السلطة الراهنة للشعب الفلسطيني؟ وهي السلطة التي يراها البعض كيان أدى إلى انقسام الوطن الفلسطيني إلى شطرين، مما يعوق بالفعل تمدد السيادة الفلسطينية على كل ربوع الوطن الفلسطيني، ويقلل من طرح وطن متماسك، وفي ظل مخاوف حقيقية من أن خيار حل الدولتين بات صعب التحقق، بخاصة في ظل الممارسات التي يقوم بها الجانب الإسرائيلي، واستئناف سياسة الاستيطان، والعمل على ضم الأراضي ومصادرتها بصورة كبيرة، مما أدى إلى تهويد الأراضي الفلسطينية، ويهدد بإيجاد كيان فلسطيني جرى تحجيمه في سياق محدد، ومن خلال مساحة الأراضي الفلسطينية، في ما وراء الجدار العازل، باعتباره أرضاً فلسطينية، ما ينظر إليه البعض بأن محدداً رئيساً لحدود الدولة الفلسطينية المقبلة.
وتأسيساً على ذلك الواقع وعلى رغم مما يجري من حالة زخم سياسي حقيقي داعم للقضية الفلسطينية بمزيد من الاعتراف الراهن والمحتمل لمزيد من الدول المؤيدة الحق الفلسطيني فإن الأمر لن يتم إلا في سياق دولي مرتبط بالمفاوضات المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لتحديد شكل الدولة الفلسطينية وحدودها، وتخومها والتنسيق السياسي والأمني، وغيرها من الإجراءات والتدابير التي يجب العمل عليها، حددتها اتفاقية أوسلو بمراحلها بالكاملة، وكذلك في سياق ما جرى عبر مهام ومسؤوليات للمناطق الزمنية. مما يؤكد أن التفاوض بين الطرفين قد يؤدي إلى تماسك ما قد يجري الاتفاق عليه.
لكن، تبقى الإشكالية الحقيقية مرتبطة بدلالات معينة وممكنة، ومنها الانتقال من الدلالات الرمزية إلى الواقعية عبر ضغط دولي، أو من خلال مؤتمر دولي كبير، بعد أن تتوقف الحرب في قطاع غزة، ومن خلال مقترحات الحل في غزة وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
وفي نهاية المرحلة، سيحدث الإقرار بشكل الدولة الفلسطينية ومسارات وجودها على الأرض، بمدى القبول الإسرائيلي بما يمكن أن يوجد دولة في نهاية المطاف معترف بها دولياً بعد بعض الإجراءات والتدابير القانونية والسياسية والاستراتيجية المتعارف عليها، وباعتباره الحل الحقيقي لا الرمزي، بخاصة أن التطورات الراهنة قد يجري الاستثمار في تفاصيلها وتحويلها من كونها رمزية إلى واقعية، وعبر خطوات مرحلية وتنفيذية بالفعل، الأمر الذي يؤكد جدية المجتمع الدولي في إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية، بخاصة أن الولايات المتحدة ستظل ممسكة بقواعد التحرك، وسترفض التعامل من منطلق آخر، وعلى رغم مما يصرح به المسؤولون الأميركيون، الذين يرون أن الأمر يجب أن يجري في سياق منضبط.
وفي كل الأحوال، فإن الاعتراف بدولة فلسطينية من شأنه أن يمنح الفلسطينيين مزيداً من السلطات السياسية والقانونية، فضلاً عن رمزية الخطوة بما يمهد الطريق أمام اعتبار أخذ إسرائيل أراضي فلسطينية أو ضم بعضها إليها احتلالاً. كما أن الاعتراف بدولة فلسطينية سيكون وسيلة للقول إن المجتمع الدولي يقبل مشروعية القضية الفلسطينية في سياق احتلال إسرائيلي عسكري طال أمده. مع التقدير بأنه وعلى رغم أن الاعتراف بدولة فلسطينية سيجلب مزايا قانونية وبعداً رمزياً، فإن هذا الاعتراف لن يغير أي شيء على أرض الواقع على الفور، وفي ظل وجود عراقيل كثيرة أمام تحقيق حل الدولتين، إذ تبدو قضية اللاجئين عصية على الحل، في ظل عجز السلطة الفلسطينية عن فرض حل متفق عليه في شأنها على فلسطينيي الشتات أيضاً، وإلى جانب حق العودة، لا يوجد توافق داخلي فلسطيني حول القضايا الكبرى التي يجب حسمها في أفق اتفاق مع إسرائيل حول حل الدولتين.
الخلاصات الأخيرة
آن الأوان للمجتمع الدولي أن يتعامل بجدية مع المشهد الفلسطيني – الإسرائيلي، ونقل مساحات المواجهة إلى مساحات للتوافق، والانتقال تدريجاً مثلما جرى في “أوسلو” إلى الاعتراف بحق الدولة الفلسطينية في الوجود الدولي بدلاً من استمرار الجهود المبعثرة، التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من تكريس سياسة الأمر الواقع، مما قد يضر الوضع الفلسطيني، ولا يخدمه بالفعل، وفي ظل حالة جمعية لدى الدول الكبرى في العمل معاً لدعم الحق الفلسطيني، ومواجهة المد الإسرائيلي الراهن والرافض تماماً تقبل مناقشة فكرة حل الدولتين، وإن كانت بعض الشواهد ستمضي وفقاً للتطورات الجاري التعامل معها في سياق الترتيبات الأمنية، إلى تأكيد أن ما تقوم به إسرائيل في حكم القطاع سينعكس بالفعل على الأراضي الفلسطينية لاحقاً.
ومن ثم، فإنه والتفافاً على الدوران في حلقة مفرغة فإن إسرائيل قد تقبل بذلك، وتحت ضغط دولي أميركي على وجه الخصوص ومع إعادة ترتيب الداخل الإسرائيلي. وبصرف النظر عن استمرار الأحزاب اليمينية في الحكم، فإن فرص التعامل من أجل إنشاء دولة فلسطينية سيظل قائماً ومطروحاً من أجل استقرار الإقليم، لأن البديل سيكون مزيداً من التوتر والصراع، وحالة من عدم الاستقرار بالإقليم بأكمله، مما سيؤثر في المصالح الراسخة للدول الكبرى، كما أنه سيؤدي إلى مزيد من الارتدادات السلبية اقتصادياً واستراتيجياً وسياسياً.