كان بإمكان حادثة سقوط المروحية أن تمر بلا تأثير، وأن لا تسيطر على وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية الاجتماعية، لولا أنه كان على متنها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي تدخل بلاده مع الغرب في حالة من التصعيد والاندفاع المتبادل نحو حافة الهاوية.
جعل ذلك التساؤلات تتعاظم حول ما إذا كان «تدخل ما» قد تسبب في ذلك الحادث، خاصة وأن صورة الصواريخ الإيرانية، التي توجهت نحو الأراضي المحتلة بأعداد كبيرة قبل أسابيع ما تزال عالقة في الأذهان. تصريحات وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، الذي اتهم فيها الولايات المتحدة بالتسبب في الحادث زادت الأمر التباسا، على الرغم من أن مقصد ظريف كان أن العقوبات الغربية، خاصة الأمريكية، وحرمان إيران من تجديد أسطول طائراتها المدنية، أو من الحصول على قطع غيار مناسبة، كان هو السبب الرئيس للحادث، الذي لم يكن فريدا من نوعه بالكامل، إلا على مستوى الشخصيات، التي كانت تستقل الطائرة هذه المرة. الولايات المتحدة بدورها لم تظهر الكثير من الحزن على وفاة الرئيس الإيراني، الذي ظلت تعتبر أنه كان من رعاة الإرهاب، بل اتهمت واشنطن بالتقاعس عن تقديم النجدة، حينما طلبت طهران منها المساعدة والتدخل لإنقاذ الطائرة.
كشف ذلك الحادث، الذي ربطه المؤمنون بنظرية المؤامرة، بحوادث أخرى من قبيل الضربات داخل إيران، أو ما حدث سابقا من تسريب لمعلومات نووية، أو من اغتيال لأسماء ذات أهمية علمية أو عسكرية، عن وجود خلل في المنظومة الأمنية الإيرانية، كما كشف أن هذه الدولة التي يمضي البعض لاعتبارها أهم قوة إقليمية، ليست بحجم الدعاية، وأنها تعاني من عدة مشكلات في ما يتعلق بالأمور الفنية والتكنولوجية. الأكيد أن التميز في صناعة طائرات الدرون، لا يعني بالضرورة القدرة على صناعة طائرات مدنية، كما أن الوصول لمستوى الطموح النووي لا يعني النجاح التقني في عملية بسيطة كعملية البحث عن طائرة. على الرغم من مرور أسبوع على الحادثة، إلا أن الأسئلة، التي طرحها الخبراء منذ اليوم الأول ما تزال بلا إجابة، فهل يعقل أن إيران لا تملك طائرات استطلاع، وكيف عادت طائرتان مرافقتان واختفت طائرة الرئيس في غيابة الأجواء الصعبة، بل كيف تختفي طائرة تقل رئيس البلاد بهذه البساطة ومن دون إعطاء إشارة؟ هذه الأسئلة كانت تحير المتابعين، لأنها تقود إلى فرضيتين، فإما أن إيران، التي يتنقل رئيسها، كما أظهرت تفاصيل الأحداث، بمروحية من طراز قديم، هي مجرد فقاعة، وأنها لا تنجح إلا في صناعة بعض الأسلحة والصواريخ، وإما أن هناك تورطا داخليا في ذلك الحادث، ساهم في تعطيل النظام، الذي كان يمكنه أن يساعد في إنقاذ الطائرة، أو على الأقل الإرشاد إلى مكانها. احتمالية التورط الداخلي ما تزال مطروحة، سواء بالقول إن هناك أطرافا داخلية لها مصلحة في إزاحة رئيسي، أو بمعنى أن هناك عملاء متوزعون في مرافق حساسة، ما يمكن أن يكون سهّل اختراق أجهزة أجنبية كالموساد الإسرائيلي للحلقة الأمنية المحيطة بالرئيس. فرضيات المؤامرة ذكّرت بدائرة الأعداء الكثر، من الذين لهم مصلحة في توجيه مثل هذه الضربة الموجعة والمحرجة، في الوقت ذاته، للنظام، فبالإضافة إلى الأمريكيين والإسرائيليين، وبعض دول المنطقة، يمكن أن تتوجه الأنظار أيضا إلى حالة الاحتجاج والرفض الداخلية المتنامية، التي تتسع من خلال مشاركة مكونات عدة لم تدخر وسعا في التعبير عن رفضها لنظام الولي الفقيه بشكله الحالي. حالة المعارضة الساخطة هذه ظهرت في المقاطعة الواسعة للانتخابات، التي بات أغلب الشباب يؤمنون بأنها لن تأتي بجديد، كما ظهرت في الاحتفالات وإطلاق الألعاب النارية في بعض مناطق إيران فرحا بالخبر. المعارضون، وإن كانت أعدادهم في ازدياد، خاصة مع تزايد القمع السياسي والاجتماعي، الذي كان وصل قمته في أحداث التظاهرات المرتبطة بمقتل الفتاة مهسا أميني، إلا إن إمكانية اختراقهم لبنية النظام تظل محدودة. جعل هذا المحللين يميلون أكثر لمناقشة ما إذا كان هذا الأمر ناتجا عن صراع أجنحة متنافسة في قلب المؤسسة الحاكمة. على المستوى السياسي، وبفضل البنية غير التقليدية للنظام، فإنه لم ينتج عن غياب الرئيس إبراهيم رئيسي، ارتباك كبير، فالرجل كان يمثل، كما سابقيه، سياسات المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي سيحرص على إيجاد البديل المناسب بعد انتهاء فترة قصيرة من الرئاسة المؤقتة تخلفها انتخابات مبكرة.
ما يجعل تحليل حادثة مثل حادثة سقوط مروحية رئاسية صعبا، هو أننا لا ننطلق إلا مما يُسمح لنا بمعرفته، وهي معلومات أشبه بجبل الجليد، الذي لا يظهر منه سوى رأسه وقمته
حقبة رئيسي، التي بدأت في عام 2021 كانت مزيجا من التصعيد والتهدئة على المستوى الإقليمي، حيث كان من أبرز ما فيها إعادة العلاقات الإيرانية السعودية، وإعلان استعادة التبادل الدبلوماسي بين البلدين. أنهى ذلك سنوات من الجفاء والعداء البارد، لتشهد طهران زيارة مهمة لوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في يونيو/حزيران 2023 بعد عقد من الغياب، وهو ما اعتبر بمثابة فتح صفحة جديدة مع البلد، الذي ظل ينظر إليه كتهديد. نظر كثير من الفاعلين في المنطقة لتلك الخطوة آنذاك بترحاب، آملين أن تكون المنطقة بهذا قد دخلت في مرحلة جديدة من التهدئة تنتهي فيها دوامة التآمر وعهود الحروب بالوكالة، خاصة ما يتعلق بالدعم الإيراني لميليشيات الحوثي اليمنية. شملت هذه المصالحة دولة الإمارات أيضا، فتم الإعلان عن عودة السفراء، كما شهد البلدان تبادلا لزيارات رفيعة المستوى.
يقول أحد السيناريوهات إن اتجاه رئيسي نحو التطبيع والتهدئة مع الجوار، يمكن أن يكون دفع بعض المتشددين للتفكير في إزاحته. هذا السيناريو يتجاهل حقيقة أن رئيسي هو جزء من أولئك المتشددين، فهو من أكثر المقربين للمرشد الأعلى، كما أنه ابن «الحرس الثوري» وجزء من المنظومة السياسية والأمنية الصلبة للنظام. إلى جانب ذلك، فإن رئيسي لم يكن على الدوام رجل تهدئة، فعلى المستوى الداخلي لم يدخر الرجل وسعا في سبيل كبح المظاهرات الغاضبة، وإعادة الهيبة للحجاب، الذي يحافظ عليه المؤمنون بجمهورية الولي الفقيه، كرمز للدولة والنظام، حيث تم في عهده تكثيف المراقبة بعد فترة من التساهل، كما تمت الاستعانة بكاميرات الشارع وببرامج خاصة لكشف «المتفلتات».
على المستوى الخارجي كانت «إيران- رئيسي» جزءا من التصعيد، الذي شهدته المنطقة منذ عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث دخلت، عبر أذرعها التقليدية، مع الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في عدد من المواجهات.
أبرز تلك المواجهات كان التهديد المتصاعد لجماعة الحوثي اليمنية للملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن، وهو ما ردت عليه الولايات المتحدة ودول حليفة معها بتوجيه ضربة استراتيجية، أو هكذا أريد لها أن تكون، إلى اليمن. إيران قامت أيضا بتوجيه ضربة إلى أربيل في كردستان العراق استخدمت فيها صواريخ باليستية معلنة أنها استهدفت «مراكز تجسس وتجمعات لمجموعات إرهابية». ما يجعل تحليل حادثة مثل حادثة سقوط مروحية رئاسية صعبا، هو أننا لا ننطلق إلا مما يسمح لنا بمعرفته، وهي معلومات أشبه بجبل الجليد، الذي لا يظهر منه سوى رأسه وقمته، فهل يظن أحد أنه إذا تم التوصل لضلوع جهة معادية في هذا الحادث، فإنه سيتم مشاركة تفاصيل ذلك مع الجميع؟