في جلسته المنعقدة الاثنين الماضي (10 يونيو/ حزيران 2024)، تبنّى مجلس الأمن بأغلبية 14 صوتاً وامتناع روسيا عن التصويت قراراً يتضمّن الخطوط العريضة لترتيبات يراها ضرورية لمساعدة الأطراف المُنخرطة في الحرب على غزّة في التوصّل إلى وقف تامّ لإطلاق النار (القرار 2735). ويبدو واضحاً أنّ مضمون هذا القرار لا يختلف كثيراً عما ورد في “خريطة الطريق”، التي سبق للرئيس الأميركي جو بايدن أن أعلنها في خطاب له من أمام البيت الأبيض (31 مايو/ أيار 2024). ووفقاً لهذا القرار، يمكن التوصّل إلى وقف نهائي للحرب عبر ثلاث مراحل، فَصَّل في تحديد الترتيبات التي ينبغي أن تتضمّنها المرحلة الأولى، واكتفى بالحديث عن الخطوط العريضة للترتيبات التي ينبغي أن تتضمّنها المرحلتَان الثانية والثالثة.
في الأولى، ومدّتها ستّة أسابيع، تشمل الترتيبات المُقترحة وقفاً تامّاً لإطلاق النار، وانسحابَ القوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة كافّة، وإطلاقَ سراح مُحتجزين لدى فصائل المقاومة الفلسطينة، خاصّة النساء والشيوخ والجرحى، وتسليم رفات القتلى والإفراج عن مئات المُعتقَلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وعودة النازحين الفلسطينين إلى منازلهم في جميع مناطق القطاع، بما في ذلك المنطقة الشمالية، وزيادة كمّية المساعدات الإنسانية بشكل محسوس وضمان وصولها وتوزيعها بطريقة فعّالة وعادلة على كلّ من يحتاجها. وينبغي خلال هذه المرحلة، أيضاً، إجراء مفاوضات بين الأطراف المعنية للاتفاق على تفاصيل الإجراءت المطلوبة للتوصّل إلى وقف دائم ونهائي لإطلاق النار. وفي حال ما إذا تطلّب الأمر فترة أطول من تلك التي تستغرقها هذه المرحلة، تنبغي مواصلة التفاوض، وتلتزم الأطراف المعنية المحافظة على الوقف التامّ لإطلاق النار طوال الفترة التي تستغرقها المفاوضات، كما تلتزم الولايات المتّحدة ومصر وقطر بالعمل على ضمان استمرارها إلى أن تكلّل بالنجاح.
المرحلة الثانية مدّتها ستة أسابيع أيضاً، تبدأ بوضع الاتفاق الخاصّ بالوقف الدائم لإطلاق النار موضع التطبيق، وتلتزم “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى بالإفراج خلالها عن الرهائن الأحياء المُتبقّين كافّة، بمن فيهم الجنود الرجال، كما تلتزم إسرائيل بسحب قوّاتها خارج القطاع. وقد حرص القرار على تأكيد موقف مجلس الأمن الرافض أيّ محاولة تهدف إلى إجراء تغييرات ديمغرافية أو إقليمية، بما في ذلك الأعمال التي من شأنها تقليص مساحته. وتتضمّن المرحلة الثالثة إعادة رفات جميع المُحتجزين الذين لقوا حتفهم في أثناء الحرب، والشروع في تنفيذ خطّة لإعمار قطاع غزّة، قد تستغرق سنوات عدّة. ولم يُغفل القرار، أيضاً، “إعادة تأكيد التزام مجلس الأمن الثابت برؤية حلّ الدولتَين، التي بموجبها يمكن لدولتَين ديمقراطيتَين؛ إسرائيل وفلسطين، أن تتعايشا معاً في سلام، جنباً إلى جنب، ضمن حدود آمنة ومُعترفٍ بها، وبما يتّفق مع القانون الدولي ومع قرارات الأمم المتّحدة ذات الصلة”، كما حرص القرار في الوقت نفسه على أن يُشير إلى “أهمية توحيد قطاع غزّة مع الضفّة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية”.
ينطوي القرار 2735 على ثغرة خطيرة، خلوّه من آلية تربط عضوياً بين المراحل الثلاث المُقترحة للتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار
كانت الولايات المتّحدة قد اضطرّت لتعديل المسودّة الأصلية لمشروع القرار، مرتَين على الأقلّ، لحشد أوسع تأييد دولي ممكن، وهو ما حدث، فقد وافقت جميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن على مسودّته النهائية، باستثناء روسيا الاتحادية، التي رأت أنّ الغموض ما زال يكتنف بعض مفرداتها. ومع ذلك، قرّرت في النهاية عدم استخدام حق النقض (الفيتو) ضدّ مشروع القرار، ومن ثمّ سمحت بتمريره إرضاءً للمجموعة العربية، التي أبدت استعدادها للموافقة عليه، واكتفت بالامتناع عن التصويت. ويتّضح من مداولات المجلس، التي استغرقت وقتاً طويلاً، أنّ الولايات المتّحدة أظهرت حرصاً شديداً على تحويل “خريطة الطريق”، التي سبق لبايدن أن أعلنها بنفسه، إلى قرار يصدر من مجلس الأمن، وعلى أن يحصل هذا القرار على أوسع إجماع دولي ممكن. ومع ذلك، لا تزال السياسة التي انتهجتها إدارة بايدن تجاه الحرب في غزّة تتّسم بقدر كبير من الارتباك والغموض والتناقض، فعندما طرح الرئيس بايدن مبادرته للمرّة الأولى، في 31 مايو/ أيار الماضي، قال إنّها “مبادرة إسرائيلية”، ما أوحى، آنذاك، بأنّها ولدت من رحم مفاوضات جرت بين الحكومتَين الأميركية والإسرائيلية. صحيح أنّ ردّات فعل إسرائيل تجاهها كشف عن وجود تباين كبير بينهما، غير أنّ إدارة بايدن أصرّت، رغم ذلك، على المُضي نحو وضع هذه المبادرة موضع التطبيق بتحويلها قراراً أممياً يصدر عن مجلس الأمن. وهنا، تتجلّى أكثر الأمور غرابة، فالقرار الذي أصدره مجلس الأمن، وهو في الأصل مشروع أميركي، تضمّن فقرة تقول: “يرحب مجلس الأمن بالعرض الجديد لوقف إطلاق النار، الذي أعلن عنه يوم 31/ 5 ووافقت عليه إسرائيل، ويناشد حماس أن توافق عليه”، ما يوحي أنّ الإدارة الأميركية تعمّدت إدراج هذه الفقرة في منطوق القرار لاستخدامها وسيلةً للضغط على “حماس”، ولإحراجها.
في تعليقه على قرار مجلس الأمن، قال مندوب إسرائيل في الأمم المتّحدة أنّ حكومته ستواصل الحرب إلى أن تتمكّن من تحقيق جميع أهدافها، وفي مُقدّمها استعادة الرهائن، وتدمير “حماس”، ومنعها من إدارة القطاع بعد توقّف القتال، وهو الموقف الذي تبنّاه معظم المسؤولين الإسرائيليين في المستويات كافّة، بدءاً برئيس الوزراء ببنيامين نتانياهو، وانتهاءً برئيس مجلس الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي يتلخّص في الإصرار على استمرار الحرب إلى أن تتمكّن إسرائيل من تحقيق “النصر المطلق”. صحيح أنّ الحكومة الإسرائيلية لم تصدر بياناً تُعلن فيه رسمياً رفض تنفيذ قرار مجلس الأمن، غير أنّ الدلائل كافّة تفيد بأنّ إسرائيل، وليس “حماس” أو فصائل المقاومة الفلسطينية، هي العقبة الحقيقية التي تحول دون التوصّل إلى وقف نهائي ودائم لإطلاق النار.
تصرّ “حماس”، ومعها الحق كلّه، على طلب ضمانات مكتوبة تحول دون تمكين إسرائيل من التحلّل من التزاماتها، والإفلات من العقاب
ينطوي القرار 2735 على ثغرة خطيرة، خلوّه من آلية تربط عضوياً بين المراحل الثلاث التي تتكوّن منها “خريطة الطريق” المُقترحة للتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار، فالانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية لا يحدث تلقائياً بمُجرّد وفاء مختلف الأطراف بالالتزامات الواقعة على عاتقها خلال هذه المرحلة، لكنّه يتوقّف على مفاوضات جديدة لا يستطيع أحد أن يتكهّن بنتائجها. ولأنّ المرحلة الثانية الأكثر أهمّية على الإطلاق، لأنّها التي يبدأ عندها التزام الأطراف المعنية بالوقف الدائم لإطلاق النار، كان من الضروري أن ينصّ القرار على أنّ وفاء الأطراف المعنية بالالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب المرحلة الأولى، وإقرار الوسطاء بذلك، يترتّب عنه، تلقائياً، الوقف الدائم لإطلاق النار. وهنا، ينبغي التسليم بأنّ لدى “حماس” وفصائل المقاومة الأخرى مخاوف مشروعة بسبب انعدام الثقة بالحكومة الإسرائيلية، خصوصاً أنّه سبق لهذه أن رفضت الاستمرار في المفاوضات واستأنفت الحرب عقب هدنة قصيرة، ومن ثمّ، من الطبيعي أن تخشى فصائل المقاومة الفلسطينية أن يتكرّر الشيء نفسه، وأن يكون الهدف الحقيقي لإسرائيل هو اختزال خريطة الطريق كلّها في مرحلة واحدة، هي الأولى، ما يعني عودة الأمور إلى نقطة الصفر. صحيح أنّ قرار مجلس الأمن ينصّ صراحة على أنّ وقف إطلاق النار يجب أن يستمرّ طالما استمرّت المفاوضات، لكن، من يضمن أن تحرص إسرائيل على مواصلة عملية التفاوض بحسن نيّة إلى أن يُتوصّل إلى الترتيبات كافّة، التي تُفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار؟ وما الذي سيمنعها من وقف هذه المفاوضات والادّعاء أنّ “حماس” لا تفاوض بحسن نية؟ لذا، تصرّ “حماس”، ومعها الحق كلّه، على طلب ضمانات مكتوبة تحول دون تمكين إسرائيل من التحلّل من التزاماتها، والإفلات من العقاب في الوقت نفسه، وهو نمط مُتكرّر في السلوك الإسرائيلي المُعتاد.
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إنّ المُعضلة الحقيقية التي تحول دون التوصّل إلى إنهاء الحرب المشتعلة في غزّة، رغم كلّ ما تسببت فيه من كوارث إنسانية غير مسبوقة، تكمن في الموقف المتناقض لإدارة بايدن، فهذه تتظاهر بالقيام بدور الوسيط، بل وتدّعي أنّها مُؤهّلة وقادرة على القيام به، لكنّها في الحقيقة تعي تماماً أنّها شريك أساس في هذه الحرب الإجرامية، ولولا إقدامها على فتح خزائن المال والسلاح على مصراعيها لتغرف منها إسرائيل ما تشاء، لما استطاعت إسرائيل مواصلة حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها على الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربية وقطاع غزّة. تستطيع إدارة بايدن وقف الحرب فوراً إن هي قرّرت الامتناع عن تزويد إسرائيل بالمال والسلاح، لكنّها لن تقوم بهذه الخطوة أبداً، لأنّها تتبنّى الأهداف نفسها التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها، حتّى لو اختلفت معها، أحياناً، بشأن الوسائل والأساليب. ولأنّه ليس لدى “حماس” وفصائل المقاومة ما تخسره، بعد ما لحق بالقطاع وبالشعب الفلسطيني من دمار، فمن مصلحتها إعلان موافقتها من حيث المبدأ على القرار الذي أصدره مجلس الأمن، مع الإصرار على إزالة ما يكتنفه من غموض قبل أن تعلن موقفها النهائي منه، وهذا ما فعلته بالضبط. ولا ينبغي على إدارة بايدن تفسير هذا الموقف الواضح بأنّه يعني رفضاً ضمنياً للانصياع للقرار، ما يعني تحميل “حماس” وفصائل المقاومة كامل المسؤولية عن استمرار القتال. وللأسف، يبدو أنّ هذا هو بالضبط ما يسعى إليه بايدن، الذي يواجه مأزقاً حقيقياً قد يكلّفه خسارة الانتخابات الرئاسية المقبلة.