بعد غياب دام 24 عاما حل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضيفا على رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي قال لبوتين في رسالة شكر على السيارة الليموزين الروسية الفاخرة التي أهداها له بوتين في شهر فبراير/ شباط الماضي، إن كوريا الشمالية رفيق سلاح لا يُقهر لروسيا. وتأتي الزيارة على وقع الحرب في أوكرانيا ووجود توترات عسكرية تشهدها الحدود بين الكوريتين. وقد أثارت الزيارة الكثير من القلق في الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة مع التوقيع على وثيقة التعاون الاستراتيجي بين البلدين. فما أهمية الزيارة في هذا التوقيت؟
عند تقدير الموقف الاستراتيجي لاية دولة، فإن من العناصر الأساسية المهمة التي يُنظر إليها هو مدى حجم ما تمتلك من تحالفات، وروسيا بحاجة ماسة إلى تحالفات قوية. صحيح لديها ست دول تتبعها، لكن في بعض الأحيان تنشق عنها في اتخاذ مواقف لأسباب مختلفة ولديها فقط بلاروسيا. قد يقول البعض لديها الصين، لكن الصين ليست دولة تحالف بل دولة شراكات اختيارية.
فقد الغرب كل أوراق الضغط على موسكو وبيونغ يانغ ولم تعد لديه سوى الورقة العسكرية، فالعقوبات المفروضة على روسيا وكوريا الشمالية حتى الآن غير ناجحة
هنا تبرز كوريا الشمالية كحليف قوي لروسيا، خاصة أنهما في حاجة إلى بعضهما بعضا. إذن السبب الرئيسي للزيارة والمرتبط بالتوقيت هو أنه مع العقوبات القاسية التي أثرت على القدرات العسكرية الروسية، ومع مساعيها للتقدم التكتيكي الذي يتم الآن في أوكرانيا، فإنها تسعى بسرعة كبيرة وقبل الإمداد الغربي الموعود به للقوات الأوكرانية، لإنشاء تحالف قوي مع كوريا الشمالية، لتجهزها بالمعدات والذخائر المتوفرة لديها بكثرة. وهنا لا بد من القول إن أول اتهام أمريكي لكوريا الشمالية، بإرسال قذائف مدفعية لروسيا كان بعد 7 أشهر من بداية الحرب في أوكرانيا، ثم عادت الاتهامات الأمريكية لتكون أكثر شدة في الفترة الأخيرة، قائلة إن 10000 حاوية قذائف مدفعية كورية وصلت إلى روسيا وكذلك صواريخ باليستية.
أما ما ستحصل عليه كوريا الشمالية فيمكن القول إن اتفاقية التعاون الاستراتيجي التي تم التوقيع عليها مع روسيا هي في غاية الأهمية، فالتبادل التجاري بين موسكو وبيونغ يانغ متواضع جدا ولا يتجاوز 600 مليون دولار سنويا، على الرغم من أنها جار جغرافي لروسيا. كما أن بيونغ يانغ تراهن على الموقف الروسي في عدم الاستمرار بالالتزام بالعقوبات الدولية المفروضة عليها، خاصة أنه ليس من باب الصدفة استخدام روسيا حق النقض الفيتو أثناء التصويت الأخير في مجلس الأمن، حول تمديد صلاحيات اللجنة الخاصة بالعقوبات الدولية على كوريا الشمالية، فالضغوطات الغربية على روسيا وإمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا تدفع لاتخاذ مواقف إيجابية مع كوريا الشمالية. إن القلق البالغ الذي قوبلت به زيارة بوتين إلى كوريا الشمالية من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مرده إلى أن الزيارة بالأساس هي رسالة مزدوجة إلى كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، خاصة أن هذه الأخيرة دخلت على خط تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وزار رئيسها كييف الشهر الماضي. كما أن شروع روسيا بدعم كوريا الشمالية، يعني أن موازين القوى في شبه الجزيرة الكورية سوف يتغير. وهذه الورقة التي تستخدمها الآن موسكو هي بالأساس موجهة ضد كوريا الجنوبية، وهي ورقة قوية جدا، حيث إن تفسيرها سيكون أن دعم أوكرانيا سيقابله دعم كوريا الشمالية، وهذه معادلة صعبة جدا لسيؤول، كما أنها ورقة ضغط على الولايات المتحدة تقول، إذا كنتم تضغطون على خاصرتنا في أوكرانيا فتذكروا أن بإمكاننا أن نضغط نحن أيضا على خاصرتكم الرخوة في شبه الجزيرة الكورية. وهنا يضع بوتين معادلة جديدة في العلاقات الأمريكية الروسية. لكن قد يرى البعض بأن بوتين يجازف بالمزيد من العقوبات الغربية على هذا الموقف، خاصة أن القلق الأكبر من الزيارة سيأتي من أهم حلفاء واشنطن، وهما كوريا الجنوبية واليابان المجاورتين لروسيا. لكن آخرين يرون العكس من ذلك ويقولون إن هاتين الدولتين هما من تُجازفان في اتخاذ العقوبات ضد روسيا من دون مبرر. فإذا كان الغرب يقول إن الحرب في أوكرانيا هي حرب في أوروبا، وفيها تهديد كبير للأمن القومي الأوروبي، فما هو التهديد الذي يأتي من الحرب في أوكرانيا لليابان مثلا؟ وهل هذه الحرب تهدد كوريا الجنوبية؟ وعليه فإن الاستنتاج المنطقي لموقف هاتين الدولتين من روسيا هو أنه مجرد استجابة للضغوطات الأمريكية من دون مراعاة لمصالحهما. وإذا كان تعزيز التعاون العسكري بين موسكو وبيونغ يانغ ينظر اليه الغرب من منظور الحرب الأوكرانية، وكيف سيعزز هذا التحالف من القدرات العسكرية لروسيا، للاستمرار في مواصلة انتصاراتها في أوكرانيا والحيلولة دون أن يحقق الغرب أي نصر عسكري على موسكو، فإنه أيضا يمكن النظر إليه من منظور آخر وهو أن الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث الماضية، أنشأت وعززت ما يعرف بالتحالف ثلاثي الأطراف بينها وبين كوريا الجنوبية واليابان ضد روسيا، حتى إن طوكيو عدّلت من استراتيجيتها الأمنية كي تتناسب مع حالة العداء ضد روسيا.
لكن قد يقول قائل إن ما يقوم به بوتين إنما هو عملية ملء الفراغ الذي تركته بكين في كوريا الشمالية، حيث إن هناك انزعاجا صينيا من تصرفات الرئيس الكوري الشمالي، ما أدى إلى حدوث مسافة في المواقف بينهما، لكن في الحقيقة أن مثل هذه المسافة كانت أيضا قائمة بين موسكو وبيونغ يانغ قبل سنوات، لكن اليوم وفي ضوء الحرب في أوكرانيا، وجدت روسيا نفسها مضطرة للاقتراب من كوريا الشمالية، ليس فقط في مسألة التزود بالقذائف والصواريخ البالستية وحسب، بل هي ورقة مهمة على المستوى الجيوستراتيجي في الصراع مع الغرب والولايات المتحدة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات الروسية مع كوريا الشمالية ليست وليدة الظرف الحالي، بل هي قديمة جدا. فقد لعب الاتحاد السوفييتي السابق دورا مهما جدا بعد الحرب العالمية الثانية في مساعدة كوريا الشمالية على قيام الدولة وتسليحها، بينما الولايات المتحدة واليابان دعما كوريا الجنوبية. وها هي روسيا اليوم تقول إنها تحترم العقوبات الأممية على كوريا الشمالية، لكنها في الوقت نفسه تُلمّح إلى أن هذا الموقف قد يتغير إذا استمرت واشنطن وحلفاؤها خاصة الآسيويين، اليابان وكوريا الجنوبية، في النهج المضاد لها.
لقد فقد الغرب كل أوراق الضغط على موسكو وبيونغ يانغ ولم تعد لديه سوى الورقة العسكرية، فالعقوبات المفروضة على روسيا وكوريا الشمالية حتى الآن غير ناجحة، والدليل أن روسيا استطاعت خلال العامين الأخيرين من التغلب على العقوبات وما زال اقتصادها صامدا رغم تكاليف الحرب. كما أن الكثير من الشركات الأوروبية بدأت تتحايل على العقوبات وتُصدّر منتجاتها إلى روسيا، بل حتى الورقة العسكرية لم تعد تنفع، فالمعارك في شرق أوكرانيا وجنوبها باتت تميل إلى القوات الروسية.