يحرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الجمع بين الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان واستضافة لقاء مصالحة بينهما في العاصمة الروسية. لكن اللقاء ليس هدفا في حد ذاته؛ إذ يسعى بوتين من ورائه إلى استغلال انشغال الغرب بأزمات أخرى وبشواغل داخلية لترتيب نفوذ روسيا في أكثر من منطقة وتأمين مصالحها ببناء التحالفات، سواء في الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى أو أفريقيا.
ويسعى الرئيس الروسي إلى ترتيب عالمه مستفيدا من الانشغال الأميركي بموضوع الانتخابات الذي بالأساس سيربك الإدارة على مدى أشهر، وقد أصبح أكثر إرباكا الآن بانسحاب الرئيس جو بايدن من السباق، وفوضى فرنسا وتلمّس حكومة عمالية خطاها في بريطانيا بعد سنوات طويلة قضّتها بعيدة عن الحكم، وضعف ملموس من الطرف الألماني.
◄ بوتين يستفيد من انشغال أميركا بالانتخابات وفوضى فرنسا وتلمس حكومة عمالية خطاها في بريطانيا وضعف ألماني
وناقش الرئيس الروسي مع نظيره السوري مجموعة كبيرة من القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط، منها احتمال عقد اجتماع بين الأسد وأردوغان بالرغم من أن دمشق مازالت تضع شروطا لعودة العلاقات مع أنقرة، من بينها الانسحاب التركي من الأراضي السورية، لكن مصالح موسكو وحساباتها الإقليمية تحتم التقريب بين الخصمين الأسد وأردوغان والانتقال إلى مرحلة ما بعد العداء الذي تشكل عقب التدخل التركي في الحرب الأهلية السورية.
ومن شأن التحالف التركي – السوري أن يساعد موسكو على تخفيف النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة وخاصة في سوريا، حيث يهدد ما كسبته روسيا من التدخل في الحرب السورية عام 2015 ودعمها بقاء الأسد.
وضمن التوازن الإقليمي تعمل روسيا على بناء علاقات اقتصادية متينة مع العراق ودول الخليج وإنشاء تحالفات تقوم على المصالح المتبادلة والعلاقات الندية، مستفيدة من الشكوك التي تحيط بأداء الولايات المتحدة في المنطقة وارتباك إستراتيجياتها، خاصة في فترة حكم بايدن.
ونجحت روسيا في استثمار غضب عدة دول أفريقية على فرنسا والولايات المتحدة، وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، لبناء تحالفات جديدة من خلال عمليات الدعم الأمني الذي تتولاه مجموعة فاغنر ليتطور لاحقا إلى دعم دبلوماسي ووعود بتقديم مساعدات اقتصادية إلى الدول التي شهدت انقلابات عسكرية مناوئة للغرب مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، والقائمة يمكن أن تتسع لتشمل دولا أخرى.
وفي أوكرانيا، التي خطط الغرب لأن يجعل منها معركة استنزاف لروسيا، نجحت موسكو في تحقيق مكاسب ميدانية ودبلوماسية أهمها أن الأوكرانيين أنفسهم باتوا يلمحون إلى الرغبة في الحوار مع روسيا لإنهاء الحرب بعد تضاؤل الدعم الغربي، وخاصة من جانب الولايات المتحدة التي نقلت اهتمامها إلى غزة وحولت خطط الدعم من أوكرانيا إلى إسرائيل.
وردا على سؤال عما إذا كانت روسيا مستعدة لإجراء محادثات مع أوكرانيا، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف الخميس للصحافيين “روسيا بشكل عام منفتحة على عملية التفاوض. لكن علينا أولا أن نفهم مدى استعداد الجانب الأوكراني لهذا الأمر ومدى حصول الجانب الأوكراني على الإذن بذلك من المسؤولين عنه”.
وتُظهر المصالحة التي يحرص بوتين على رعايتها بين الأسد وأردوغان، في حال نجاحها، مدى أهمية الدور الذي يريد الرئيس الروسي أن تلعبه بلاده في أكثر من منطقة وتستعيد به النفوذ الذي كانت تتمتع به في عهد الاتحاد السوفياتي.
ويلاقي الحرص الروسي على المصالحة تفهما من الأسد الذي يجد في الغطاء الروسي للمفاوضات فرصة لاستعادة أراضيه وتقوية سلطته، ومن أردوغان الذي عبر أكثر من مرة عن رغبته في لقاء الأسد والتوصل إلى تسوية.
ويريد الرئيس التركي، الذي يقضي آخر ولاية رئاسية له، أن ينهي مرحلة التوترات التي صنعها بنفسه في المحيط الإقليمي (العربي والغربي) حتى لا تبقى لعنة الأزمات تطارد حكمه لعقود. وفي الوقت الذي تطورت فيه العلاقات مع دول الخليج ومصر والولايات المتحدة واليونان تبقى الأزمة السورية هي العقدة التي يمكن أن تؤثر على صورة أردوغان على المدى البعيد داخل تركيا وخارجها.
◄ روسيا نجحت في استثمار غضب عدة دول أفريقية على فرنسا والولايات المتحدة، وخاصة في منطقة الساحل والصحراء، لبناء تحالفات جديدة
وكان واضحا أن لقاء بوتين والأسد مهمّ؛ فقد بحثا التصعيد في الشرق الأوسط، بحسب بيان صدر عن الكرملين صباح الخميس، أرفقه بمقطع فيديو من اللقاء.
ونقل البيان عن بوتين قوله للأسد خلال اللقاء “لدينا فرصة للحديث عن منظومة علاقاتنا بأكملها”.
وتابع بوتين “أنا مهتم جدًا بمعرفة رأيكم حول كيفية تطور الوضع في المنطقة ككل، والذي يميل، لسوء الحظ، إلى التفاقم، وهذا ينطبق أيضًا على سوريا بشكل مباشر”.
ووفق الكرملين، قال بوتين للأسد “آمل أن نتمكن من مناقشة علاقاتنا التجارية والاقتصادية أيضًا.. وهناك اتجاهات واعدة فيها”.
من جانبه قال الأسد إن زيارته “تتزامن مع الذكرى الـ80 لإقامة العلاقات بين البلدين”. وأضاف “مر بلدانا خلال العقود الماضية باختبارات صعبة للغاية”.
وتابع “حافظت العلاقات بين بلدينا على الثقة (المتبادلة)، وهذا مؤشر على نضج شعبينا”، وفق المصدر ذاته.
كما قال “في ظل الأحداث التي يشهدها العالم أجمع والمنطقة الأوراسية، فإن اجتماعنا (…) يعتبر بالغ الأهمية لمناقشة تفاصيل تطورات الأوضاع، والآفاق والسيناريوهات المحتملة”.