الباحثة شذى خليل*
أصبحت روسيا مؤخرًا أكثر صراحة بشأن رغبتها في إضعاف هيمنة الدولار الأمريكي في النظام المالي العالمي، وخاصة ضمن مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا). باعتبارها دولة مُعاقبة بشدة بسبب الحرب المستمرة في أوكرانيا، تبحث روسيا عن بدائل للنظام القائم على الدولار، وتسعى لتطوير بنية مالية تحمي اقتصادها من الضغوط الخارجية. وفي هذا السياق، تقترح روسيا إنشاء نظام مالي متعدد العملات للدول الأعضاء في البريكس، يهدف إلى التحرر من قيود الدولار والنظام المالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة حاليًا.
الدافع وراء اقتراح روسيا هو حاجتها للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية التي أضعفت قدراتها المالية. فقد جمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأصول الأجنبية الروسية وطردوا البنوك الروسية الكبرى من نظام SWIFT، وهو بنية تحتية مهمة للمدفوعات الدولية. في ظل هذه القيود الاقتصادية، تسعى روسيا لحماية نفسها عبر تقليل اعتمادها على الدولار وبناء نظام بديل لمعالجة المدفوعات عبر الحدود.
سيُمكّن النظام المقترح دول البريكس من إجراء المعاملات باستخدام العملات المحلية، متجاوزًا الأنظمة التقليدية للدفع الدولي المعتمدة على الدولار. يشمل هذا التحول استخدام تقنية دفتر الأستاذ الموزع (DLT) مثل البلوكتشين لإجراء هذه المعاملات. من خلال إلغاء الشبكات المصرفية المراسلة وتجاوز الفحوصات الامتثالية المرتبطة بالرقابة المالية الأمريكية، يمكن لدول البريكس توفير مليارات الدولارات سنويًا. وقد يؤدي ذلك إلى تقليل التكاليف وتسريع وقت معالجة المدفوعات عبر الحدود، حيث تشير التقديرات إلى توفير يصل إلى 15 مليار دولار سنويًا، وفقًا لتقرير صادر عن وزارة المالية الروسية وبنك روسيا.
التأثيرات المحتملة للاقتراح
تغيير في ديناميكيات التجارة العالمية: إذا نجحت دول البريكس في تنفيذ النظام المالي المقترح من روسيا، فقد يشهد النظام التجاري العالمي تحولاً كبيرًا بعيدًا عن المعاملات المعتمدة على الدولار. تمثل دول البريكس بعض أكبر الاقتصادات في العالم، وقد يجذب هذا النظام المالي المتماسك دولًا أخرى للانضمام إليه، مما يضعف تأثير الدولار في الأسواق العالمية.
تأثير على القوة الاقتصادية للولايات المتحدة: يسمح النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار للولايات المتحدة بممارسة سيطرة كبيرة على التمويل الدولي. إذا تمكنت دول البريكس من بناء نظام مالي متعدد العملات، فقد يقوض ذلك قدرة الولايات المتحدة على استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة للسياسة الخارجية. وإذا تم تقويض دور الدولار كعملة احتياطية عالمية، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف القوة الاقتصادية الأمريكية وقدرتها على فرض العقوبات بشكل أحادي.
نمو بدائل العملات الرقمية: يمكن أن تظهر تقنية دفتر الأستاذ الموزع والعملات الرقمية كبدائل قابلة للتطبيق للنظم المالية التقليدية. من خلال تجاوز الأنظمة المصرفية المركزية، يمنح هذا النموذج اللامركزي دول البريكس مزيدًا من الاستقلالية في تعاملاتها المالية، مما قد يضع سابقة عالمية لمجموعات إقليمية أخرى.
مراكز لتجارة السلع: يشمل اقتراح روسيا أيضًا إنشاء مراكز لتجارة السلع الأساسية مثل النفط، الغاز الطبيعي، الذهب، والقمح داخل دول البريكس. سيسهم ذلك في تحويل السيطرة على تجارة الموارد إلى دول البريكس، مما يعزل اقتصاداتها عن التأثير الأمريكي ويسمح لها بتسوية التجارة بالعملات المحلية بدلاً من الدولار.
دور الولايات المتحدة: مقاومة أم ضعف؟
تدرك الولايات المتحدة التداعيات الواسعة النطاق لاقتراح روسيا، ومن المحتمل أن تقاوم أي محاولات تقلل من تأثير الدولار. حاليًا، يتم تسوية أكثر من 58% من المدفوعات الدولية و54% من فواتير التجارة الخارجية بالدولار. هذه الهيمنة لا تمنح الولايات المتحدة تأثيرًا اقتصاديًا لا مثيل له فحسب، بل تعزز أيضًا دورها القيادي في التجارة العالمية.
في هذا السياق، من المحتمل أن تتبنى الولايات المتحدة استراتيجيات مختلفة لمواجهة المبادرة الروسية، والتي قد تشمل:
الضغط الدبلوماسي: قد تستخدم الولايات المتحدة تحالفاتها مع دول البريكس الأخرى، مثل الهند والبرازيل، التي لا تزال تستفيد من النظام المالي القائم على الدولار، لإقناعها بعدم الالتزام الكامل بالخطة الروسية.
الحوافز الاقتصادية: قد تقدم الولايات المتحدة حوافز مالية أو تعزز اتفاقيات التجارة مع دول البريكس لضمان استمرار اعتمادها على النظام المعتمد على الدولار.
إجراءات تنظيمية مضادة: قد تقدم الولايات المتحدة قوانين أو عقوبات أكثر صرامة تستهدف أي مؤسسات مالية تشارك في شبكة الدفع التابعة للبريكس، خاصة إذا كانت هذه المعاملات تهرب من العقوبات الحالية.
ومع ذلك، ستعتمد قدرة الولايات المتحدة على مواجهة هذا الاقتراح على مدى وحدة دول البريكس في التزامها بالابتعاد عن الدولار. إذا تبنت دول البريكس هذا البديل بشكل كامل، فقد تواجه الولايات المتحدة تحديات كبيرة في الحفاظ على هيمنة الدولار.
الخلاصة: بداية لعالم مالي متعدد الأقطاب؟
قد يؤدي اقتراح روسيا لإنشاء نظام مالي جديد لدول البريكس إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الاقتصادية العالمية، مما يخلق عالمًا ماليًا متعدد الأقطاب حيث لم يعد الدولار هو العملة المسيطرة الوحيدة. على الرغم من أن الخطة تواجه تحديات كبيرة، بما في ذلك تردد بعض أعضاء البريكس في التخلي الكامل عن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، فإن الاقتراح يمثل محاولة واضحة لتحدي النظام الحالي.
بالنسبة للولايات المتحدة، يشكل هذا الاقتراح تهديدًا مباشرًا لنفوذها الاقتصادي على المسرح العالمي. ويبقى السؤال ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن من مواجهة هذه الجهود بفعالية، ولكن خطوة روسيا تشير إلى تحول نحو نظام مالي عالمي أكثر تفتتًا، حيث يتعرض التفوق الذي يتمتع به الدولار لمزيد من التساؤل.
وحدة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية