تلقّى الجيش الأمريكي في أفغانستان ضربة جديدة خلال عملية لقواته الخاصة أدّت إلى سقوط العديد من الأمريكيين والأفغان بين قتيل وجريح وإلى تحطم طائرة هليكوبتر بانفجار قذيفة هاون على مقربة منها، بعد أن سبقتها حادثة مؤلمة أخرى في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي حين قصفت مقاتلات أمريكية مستشفى ميدانيا تديره منظمة «أطباء بلا حدود» لما يقارب 45 دقيقة فأحرقت مرضى في أسرّتهم وقتلت 19 شخصاً (منهم 12 من المنظمة نفسها) بينهم أطفال، وهو ما اعتبره مسؤولون في الأمم المتحدة أمراً يوازي جريمة حرب.
تجيء هذه الحادثة لتعيد مساءلة التدخل الأمريكي الطويل في أفغانستان والذي كان ردّا سريعاً على هجمات نيويورك 11 أيلول/سبتمبر عام 2001، فالهجوم حصل قبل انقضاء شهر على تلك الهجمات، في 7 تشرين الأول/أكتوبر في العام نفسه، وكان الهدف المعلن منه لتلك الحرب اعتقال زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن وقادة تنظيمه، وتدمير «القاعدة» كلّياً، وإقصاء نظام طالبان الذي كان يؤمن الملاذ الآمن لذلك التنظيم، واستند ذلك على قاعدة أعلنها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش وهي عدم التفريق بين المنظمات الإرهابية أو الدول والحكومات التي تؤويها أو تدعمها.
كان الاتحاد السوفييتي السابق قد خاض حربه الطويلة الخاصة أيضاً في أفغانستان وإن بمبررات مختلفة، وهي «دعم الحكومة الأفغانية الصديقة للاتحاد السوفييتي». دامت الحرب السوفييتية ـ الأفغانية 10 سنوات (من 1979 حتى 1989)، وأدت نتائجها إلى العدّ التنازلي لانهيار الاتحاد السوفييتي الذي زال قانونيا عام 1991، أي بعد سنتين من انهيار «الحكومة الأفغانية الصديقة» في كابول، وتم الاعتراف باستقلال الجمهوريات السوفييتية السابقة، واستقالة ميخائيل غورباتشيف وتسليمه السلطة للرئيس الروسي بوريس يلتسين.
ترابط تكرار الأمريكيين للتجربة المرّة في أفغانستان مع أفول الإمبراطورية السوفييتية (فالمتغطرسون لا يتعلمون من غيرهم) بل إنهم قاموا بمطّ حربهم المزعومة ضد الإرهاب لتبرير اجتياح العراق، الذي كان هدفاً كبيراً للدعاية التحريضية الإسرائيلية ومناصريها الكبار في الإدارة المحافظة الأمريكية، فيما كمنت إيران وهي تترقب بسرور كبير تحوّل أفغانستان والعراق إلى دولتين فاشلتين منتظرة وقوعهما كتفاحتين ناضجتين في سلّة نفوذها.
من نافل القول إن سياسات واشنطن الهوجاء لم تؤد إلى إنهاء تنظيم «القاعدة» بل إلى نشر موجات هائلة من التطرّف في العالم الإسلامي، وإلى تثبيت اختلال جيوسياسي هائل من «منجزاته الضخمة» ارتفاع مد التدخل الامبريالي الروسيّ، والإيراني، وتغوّل نظامي سوريا والعراق ضد شعبيهما، ولجوء الملايين إلى أوروبا وأنحاء العالم الأخرى، وظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي هو رد فعل ومرآة لكل هذه المظلوميات والفشل الرهيب والاختراق الاستخباراتي والتلاعب الدولي بمكوّنات المنطقة الاجتماعية والسياسية والإثنية والدينية.
وإذا أضفنا اندياح المسألتين الأفغانية والعراقية وتحوّلهما إلى آليّات ذاتية الدفع قابلة لتوليد المزيد من الأزمات والمساهمة فيها، كما يحصل في منطقة المشرق العربي وشمال إفريقيا، وآسيا الوسطى، وأوروبا، وباكستان والهند، والصعود المتزايد للصين باتجاه تحويل موقعها الماليّ والصناعيّ العالميّ إلى موقع عسكريّ من خلال السيطرة على بحر الصين الجنوبي (الذي تقارب التجارة العالمية فيه 5 ترليونات دولار سنويا) الذي تحاول بكين تكريس نفوذها الكامل عليه، فيما تحاول الولايات المتحدة (والفلبين) تحديه، وأضفنا فوق كل ذلك الانفجار السكّاني العالميّ وتدهور المناخ، نكون عملياً قد لخّصنا أزمات العالم المهولة المقبلة والتي لا تنفكّ دول مثل أمريكا وروسيا والصين على التعامل معها كما اعتادت أن تفعل حكومات العالم قبل عقود أو قرون رغم أن التحدّيات صارت أكبر من كل الحكومات وخطرها يعمّ كل البشرية.
الإنسانية، أكثر من أي وقت مضى، تركب مركباً واحداً وتحاول النجاة، ولكنّ من وصلوا البرّ يعتقدون، مخطئين، أن الطوفان لن يصلهم، وأن الضحايا، ليسوا أبناءهم وأقاربهم، وعليه… فليموتوا!
صحيفة القدس العربي