الباحثة شذا خليل*
”على مدار أكثر من أربعة عقود، شكلت إيران نموذجًا اقتصاديًا فريدًا تحت وطأة العقوبات الدولية والحصار الاقتصادي. منذ سقوط نظام الشاه عام 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية، واجهت طهران تحديات غير مسبوقة أجبرتها على إعادة صياغة فلسفتها الاقتصادية. ورغم تعاقب الأزمات وتذبذب العلاقات الدولية، تمكنت إيران من بناء ما يعرف بـ “الاقتصاد المقاوم”، الذي بات محورًا رئيسيًا في استراتيجياتها التنموية والسياسية.
من الثورة إلى العقوبات: تشكّل اقتصاد الأزمة
بدأت معاناة الاقتصاد الإيراني مع الحصار الدولي عقب الثورة مباشرة، عندما قامت الولايات المتحدة بتجميد أصول إيرانية قيمتها 12 مليار دولار في عام 1979، ردًا على أزمة السفارة الأمريكية في طهران. وفي الثمانينيات، فرضت واشنطن والأمم المتحدة سلسلة من العقوبات التي شملت حظر الأسلحة والتكنولوجيا والمواد الخام.
ومع تقدم البرنامج النووي الإيراني في مطلع الألفية، تشددت العقوبات أكثر، خصوصًا بعد إصدار مجلس الأمن قرارًا بفرض قيود صارمة عام 2006. بلغت الأزمة ذروتها مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، مما أعاد إيران إلى دائرة العزلة الاقتصادية وقطع الطريق أمام استثمارات كبرى في قطاعات الأدوية، السيارات، والطاقة.
الاقتصاد المقاوم: فلسفة الصمود والتكيّف
ردًا على هذه التحديات، طرح المرشد الأعلى علي خامنئي قبل نحو عقدين استراتيجية “الاقتصاد المقاوم”، التي تقوم على تقليص الاعتماد على الخارج وتعزيز الإنتاج المحلي. تشمل هذه الاستراتيجية:
استقلال الطاقة: بناء مصافي نفطية لتكرير الوقود محليًا وتصدير الفائض، ما خفف من تبعية إيران لواردات البنزين.
الأمن الغذائي: الاستثمار في محاصيل أساسية كـ القمح لتأمين احتياجات السوق الداخلية.
التكنولوجيا والدفاع: تطوير الطائرات المسيرة والصواريخ والأقمار الصناعية باستخدام قدرات محلية.
تنويع الشركاء التجاريين: إقامة شراكات جديدة مع الصين، الهند، تركيا والعراق، وتطبيق سياسة “النفط مقابل السلع” مع بعض دول الخليج.
نجاحات ملحوظة لكن بتكلفة باهظة
لا يمكن إنكار أن إيران حققت تقدمًا في بعض المؤشرات الاقتصادية، إذ بلغت قيمة تجارتها غير النفطية 130.2 مليار دولار في 2024، مع نمو الصادرات بنسبة 15.6%. كما تمكنت من تصنيع لقاحات محلية لمواجهة أزمة كوفيد-19، وأطلقت برامج فضائية بطاقات علمية وطنية.
ومع ذلك، فإن الصورة الكاملة تحمل العديد من التحديات:
تضخم مرتفع وصل إلى 45% أدى إلى ارتفاع الأسعار بنسبة 37%.
بطالة مرتفعة بلغت 25% نتيجة ضعف الاستثمارات الأجنبية.
تراجع العملة الوطنية إلى 42,000 تومان مقابل الدولار.
ركود اقتصادي مع نمو ضعيف لا يتجاوز 3.4%.
انعكاسات إقليمية ودولية
لم تتوقف آثار الاقتصاد الإيراني عند حدوده الجغرافية، بل تركت بصمة واضحة على:
أسواق الطاقة العالمية: تقلب صادرات النفط الإيرانية يؤثر على الأسعار العالمية بشكل مباشر.
أنماط التجارة الدولية: اتجهت إيران شرقًا نحو الصين والهند، ما أضعف جزئيًا هيمنة الغرب على سلاسل التوريد.
التوترات الجيوسياسية: بناء قاعدة صناعية وعسكرية محلية زاد من تعقيد التوازنات في الشرق الأوسط.
الخلاصة: نموذج مثير للجدل
رغم العقوبات الممتدة لأكثر من أربعة عقود، لم ينهَر الاقتصاد الإيراني، لكنه دفع ثمناً باهظاً للنجاة. نموذج “الاقتصاد المقاوم” مكّن طهران من تعزيز الاكتفاء الذاتي، لكنه قيّد النمو وعمّق معاناة الطبقات الفقيرة.
ومع استمرار الديناميكيات العالمية المتغيرة، تظل إيران لاعبًا اقتصاديًا إقليميًا مثيرًا للجدل، يقدم درسًا مهمًا لصناع القرار حول إمكانيات وحدود استراتيجيات الاكتفاء الذاتي في عالم مترابط اقتصاديًا.
وحددة الدراسات الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
