الباحثة شذا خليل*
يبقى القطاع المصرفي العمود الفقري للنظام المالي في العراق، إذ يتركز نشاطه على استقطاب الودائع وتقديم القروض. ورغم أن الحكومة العراقية والبنك المركزي تبنّيا في السنوات الأخيرة استراتيجية تقوم على تعزيز الشمول المالي وتوسيع استخدام الدفع الإلكتروني لزيادة حجم التعاملات المصرفية، إلا أن النتائج جاءت معقدة. فرغم النمو الملحوظ في حجم التعاملات الإلكترونية، لم تنعكس هذه الزيادة إيجاباً على قيمة الودائع في المصارف الحكومية والخاصة، بل سجلت تراجعاً حاداً.
تشير بيانات البنك المركزي العراقي إلى أن حجم الودائع في المصارف الحكومية انخفض بنسبة 11.3% خلال النصف الأول من 2025 مقارنة بالنصف الأول من 2024، بينما سجلت المصارف الخاصة انخفاضاً بنسبة 7.18% مقارنة بالربع الثاني من 2024. وما تزال الودائع الجارية تمثل الحصة الأكبر من إجمالي الودائع، حيث بلغت نسبتها 84% في المصارف الحكومية و76% في المصارف الخاصة، أي بمعدل عام بلغ 82.23% على مستوى القطاع المصرفي ككل. كما تحتفظ المصارف الحكومية بالهيمنة على السوق، إذ تستحوذ على نحو 85% من إجمالي الودائع، مقابل 15% فقط للمصارف الأهلية والتجارية والإسلامية والفروع الأجنبية مجتمعة.
هذا التركّز الشديد يعكس هشاشة البنية المصرفية، ويؤكد أن الاعتماد على المصارف الحكومية وحدها يحد من ديناميكية السوق ويضعف قدرة القطاع الخاص على النمو والمنافسة. من الناحية العلمية، فإن أي اقتصاد يسعى إلى التكامل يحتاج إلى توزيع متوازن للموارد المالية بين القطاعين العام والخاص، إضافة إلى تطوير أدوات تمويل حديثة تربط المصارف بالقطاعات الإنتاجية.
وضع سوق العراق للأوراق المالية
يُفترض أن يشكل سوق العراق للأوراق المالية مكملًا للقطاع المصرفي من خلال تقديم فرص استثمارية ذات مخاطر أعلى لكنها بعوائد أكبر. غير أن أداء السوق في 2025 عكس أزمة ثقة عميقة. فقد تراجعت قيم التداول الشهرية بنسبة 38% في النصف الأول من 2025 مقارنة بعام 2024، وبلغت أدنى مستوياتها في يونيو 2025 عند 22 مليار دينار فقط، وهو أدنى مستوى خلال عامين.
وتكمن إحدى المشكلات البنيوية في تركيز التداول بيد خمس شركات فقط من أصل 104 مدرجة، إذ تستحوذ على أكثر من 85% من حجم التداول. ومع انسحاب المستثمرين الأجانب، فقد السوق أحد أهم محركاته التي كان يُعوّل عليها لفتح أبواب الاستثمار الخارجي.
التحديات والفرص
يعاني كل من القطاع المصرفي وسوق الأوراق المالية من مشكلات هيكلية مرتبطة بفقدان الثقة، التركز الشديد، وضعف التنويع. تراجع الودائع في البنوك، إلى جانب هبوط التداول في البورصة، يعكس فقداناً مزدوجاً للثقة في كلا القطاعين. لكن من الناحية العلمية، تمثل هذه التحديات فرصاً للإصلاح عبر:
توسيع الشمول المالي الحقيقي، بحيث لا يقتصر على الدفع الإلكتروني، بل يشمل أدوات ادخار واستثمار مبتكرة.
مراجعة تنظيمية شاملة للبورصة لتعزيز الشفافية وتشجيع إدراج شركات جديدة من قطاعات متنوعة.
تقوية القطاع الخاص المصرفي لخلق توازن مع المصارف الحكومية، بما يدعم التنافسية.
نحو اقتصاد متكامل
إن تكامل القطاعين المصرفي والمالي يمكن أن يشكل ركيزة أساسية لتحول اقتصادي في العراق. فالمصارف، رغم كونها أكثر أماناً وأقل ربحية، توفر قاعدة الاستقرار والسيولة، بينما يوفر سوق الأوراق المالية مجالاً لتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية ذات العوائد المرتفعة. وإذا ما أُعيد تنظيم القطاعين ضمن إطار اقتصادي منسجم يقوم على الشفافية والتنوع، فإنهما سيكملان بعضهما البعض ويشكلان منصة لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية.
ومن خلال الموازنة بين الأمان المصرفي وفرص النمو في سوق الأوراق المالية، يستطيع العراق بناء اقتصاد متكامل يعزز الثقة، يشجع المشاركة المجتمعية، ويؤسس لاستقرار اقتصادي طويل الأمد.
وحدة الدراسات الاقتصاد / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
