كثيرةٌ هي التحليلات التي تتحدث عن الإرهاب والعنف، آثاره، ومخاطره، جذوره، وسبل إفنائه ولجمه. غير أن المجال الأخطر الذي يمثّله الإرهاب على المنطقة والعالم، كونه يهدد قيم المدنيّة من جهة، ويُهَشّم كيانات الدولة.
حين بدأ تنظيم داعش استراتيجيته الإجرامية باغتيال رجال الأمن، سيراً على خطّ تنظيم القاعدة، كان يريد فتح جرح في جسم الدولة، بما يشكّل استنزافاً لها. وحين استهدف الحسينيات، والمساجد، والمؤسسات الرسمية، وخطط لاغتيال شخصياتٍ، إنما أراد إحراج الدولة. أينما يممت وجهك حول عمليّة إرهابية، سترى استهداف الدولة ماثلاً أمامك.
هذا التحدي لا بد من الوعي به وأخذه بعين الاعتبار. داعش، كما تستهدف الشخصيات والمعابد، فإنها تتجه لكيان الدولة، مستهترةً به، ومستنزفةً للخيرات والمنجزات، وباحثةً عن ضياع وتيه وانفلات، تبدأ من خلاله بما طرحه أبو بكر ناجي في كتابه (إدارة التوحش)، وهو اسم مستعار لمحمد خليل الحكايمة، ألّفه في كهوف تورا بورا، بإشراف شخصي من أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري.
وكانت الداخلية السعودية، أعلنت أن الكتاب من مراجع التنظيمات المتطرفة، وترجمتْه كليات عسكرية أميركية، لدراسة سلوك الإرهاب واستراتيجياته وخططه.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، كتب أوليفيه مونجان، في «اللوموند»، في 3 أكتوبر 2001، مقالةً عن «النحو الجديد للحضارات»، طرح فيها مجموعةً من الأسئلة والمقاربات، وما جاء فيه: «إن السؤال الذي يُطرح بكل وضوح، على الشكل التالي: هل الفعل الإرهابي في سبتمبر فرصة سانحة لتحقيق نوعٍ من الوعي؟».
ويضيف: «إن الإرهابي يرفض المواجهة، إنه يفرّ أمام الصراع، ولا يتوخّى سوى زرع عدم الاستقرار، إن خطابه ليس مجرّد كذب، حيث الدعوة إلى الحقد، إنها إرادة تتوخى جعل المعتدى عليه يتصرّف أيضاً كإرهابي».
بنهاية المطاف، العنف والإرهاب يتجه نحو تقزيم قيم المدنية، يريد في استراتيجيته بعث الطائفية، وإحياء القبليّة، ويحتقر الجوامع المجتمعيّة، والمفاهيم الوطنية، ونقاط الالتقاء البشريّة والإنسانية. إن التهشيم والتفريق والتشتيت، هي سبل المنظّمات العنفية، من أجل التمكّن من الواقع، حيث تغيب الدولة، ويحضر الخوف مع ذلك الظرف، لتبدأ حالة «إدارة التوحش» الكارثية الإجرامية.
إن تأمل الشهادات التي أدلى بها سكّان مناطق تغلغل داعش في سوريا والعراق، يجعلك تلمس بوضوح، حجم الخوف الذي يحبس الأنفاس، من إرهاب مليشيات الحشد الشعبي، وهو الدافع لبلع اللسان والتأقلم مع تنظيم داعش. إنه الخوف الذي يدار بالخوف، والإرهاب الذي يبرر للإرهاب، وهكذا لتكون الحياة جحيماً، والمجتمع غابة، والدولة مجرّد هشيم تذروه الرياح!
الرؤية الخليجية تجاه الإرهاب باتت واضحة، حكم على داعشي بالإعدام بالإمارات، الحكم على خليّة العبدلي بالكويت، الإعدام لـ 47 مجرماً إرهابياً في السعودية. هنا يتحقق مفهوم الدولة. جزء أساسي من عمل الدولة، تفويضها الاجتماعي، من أجل استخدام ما يسميه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر «العنف المشروع»، الذي يحمي الدولة، ويحمي قوّتها وهيبتها.
هذا العنف يصفه فيبر بـ «المعتبر شرعياً»، (أي قانونياً)، وهو ما يحمي المجتمع والدولة معاً. فالدولة بمفهومها العميق، يختبرها الواقع بتحدياتٍ وأحداث، وإن لم تواجهها بحزمٍ وعزم، تصاب بالترهل والذبول، وهذا وعي من دول الخليج، الطامحة إلى كسر ناب الإرهاب.
كل تشجيع للدولة ومفاهيمها ومؤسساتها، هو حالة حرب على الإرهاب، أولئك المحرّضون على دولهم، باسم الثورة، والحقوق، والدعاوى الإنسانية، ليسوا إلا الغطاء القانوني للإرهابيين، ولعلّ خطاب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، الأخير، كان واضحاً بعد مظاهرات تونس، قبل أيام، إنها مسيرات يغطيها داعش، وشعارات يرفعها باعة لأوطانهم.
كل قوة للدولة تعني ضمانة لمستقبل المجتمع، فلا يستفزّنكم الذين يجلبون بخيلهم ورجلهم، فالداء الأخطر الذي يسيطر على الخطابات الثوريّة خفّة العقل، وضياع الحكمة، وما أصدق ما قيل قديماً: «في آخر الزمان يُعرج بالعقول».
تركي الدخيل
صحيفة البيان