في الواقع، منذ احتضنت تركيا المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وقطعت علاقاتها بالنظام السوري، عملت على تحقيق هدفين أساسيين. العمل على إسقاط النظام السوري، بدعم المعارضة السورية، والضغط من أجل إقامة منطقة أمنية عازلة، والعمل لاستجلاب موقف دولي للتدخل العسكري. عدم السماح ببلورة مكون كردي مستقل عن المعارضة السورية، ومحاولة دفع الكرد للانضمام إلى العمل المسلح من أجل أسقاط النظام.
التطلع التركي هذا، رافقه سعي دائم إلى إيجاد واقع أمني – عسكري على الحدود، من خلال الدعوة إلى إقامة منطقة أمنية عازلة، تكون بمثابة مأوى للنازحين السوريين من جهة. ومن جهة ثانية، منطلقاً للمعارضة السورية المسلحة بغطاء جوي، يشل قدرة طيران النظام، إلا أن المساعي التركية هذه لم تلق تجاوباً من الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. وجاء التدخل العسكري الروسي في سورية ليجعل من الصعب تحقيق هذا الهدف. وبسبب ذلك كله، تعقدت الأزمة السورية أكثر، ولم يسقط النظام، بل بدعم من حلفائه (إيران – حزب الله – روسيا…) صمد كل هذه السنوات، ونجح في البقاء، مستفيداً من سياسة الانكفاء الأميركية التي اتبعها الرئيس، باراك أوباما، واستثمرها الروس، فيما استفاد الكرد من استنزاف النظام عسكرياً، وسحب قواته من المناطق الكردية، في إقامة إدارة ذاتية، لها مؤسسات عسكرية وأمنية وإدارية واقتصادية، وفي فرض وقائع على الأرض، أثمرت انتصارات ضد داعش، حتى باتوا قوة يُحسب لهم الحساب، ويتنافس الأميركيون والروس على التحالف معهم، وتقديم الدعم لهم. وبفضل ذل: كله، بات الكرد قوة حقيقية على الأرض، بعد أن كانوا مهمشين طوال العقود الماضية. وعليه، باتت تركيا تحس بخشية كبيرة من تعاظم نفوذ الكرد في شمال سورية، وتطلعهم إلى السيطرة على مناطق غرب الفرات، إذ ستجعل مثل هذه السيطرة، للمرة الأولى، مناطقهم متصلة جغرافياً، على شكل كيانٍ، يمتد من أقصى شرق سورية إلى عفرين، على
مشارف بحر الأبيض المتوسط، مروراً بالقامشلي وتل أبيض وكوباني… وبالتالي، ستجد تركيا حدودها الجنوبية أضحت مع كيان كردي في شمال شرق سورية، يستكمل ملامحه على الأرض، على غرار ما جرى لإقليم كردستان العراق. ولعل ما زاد من المخاوف التركية هنا، أن حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني هو صاحب هذا المشروع، وهي تعتقد أن قيادة حزب العمال الكردستاني التي تتخذ من جبال قنديل مقراً لها تقف وراء ذلك كله، بيد أن ما يؤرق تركيا أكثر ليس الصعود الكردي فحسب، وإنما إحساسها العميق أن حليفتها التاريخية، أي الولايات المتحدة الأميركية، هي التي تقف وراء ذلك، وأن الهدف النهائي من هذا الصعود الكردي هو إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، ستكون الخاسر الأكبر منها تركيا، وهو ما تقول أنقرة، إنها لن تقبل به، مهما كلفها الأمر، بما يفتح ذلك الباب أمام سيناريو التدخل العسكري. وكانت تركيا قد أعلنت، في الأيام الماضية، أنها أرسلت كاسحات ألغام إلى الحدود السورية، لنزع الألغام هناك. ومع هذا الإعلان، جرى حديث قوي عن عملية عسكرية على الأبواب، تأخذ الملاح التالية:
القيام بعملية عسكرية محدودة، وتحديداً في منطقة جرابلس، نظراً لأهميتها الأمنية في منع إقامة تواصل جغرافي بين المناطق الكردية، وبما يشكل هذا التدخل رسالة دعم للفصائل السورية المسلحة، كالجيش الحر وجيش الفتح وكتائب السلطان مراد للتحرك في مواجهة التقدم الكردي. إيجاد أرضية للوجود العسكري التركي في المنطقة الحدودية، ومحاولة جلب دعم أطلسي لهذه الخطوة، بهدف إحداث واقع أمني جديد على شكل رسالة حاسمة للكرد بأن تركيا لن تسمح بإقامة كيان كردي. وأن تمهد هذه الخطوات لإقامة منطقة أمنية عازلة، إذ ترى تركيا أن تداعيات التدخل العسكري الروسي لن تثنيها عن هذا الهدف.
وعليه، ثمّة اعتقاد أن هذا السيناريو بوشر به عملياً على الأرض، من خلال الإجراءات الأمنية في المنطقة الحدودية، وتحديداً المناطق الجغرافية التي سيدخل إليها 20 ألف جندي، وهي بطول نحو مائة كيلومتر وعمق 35 كيلو متراً، تمتد من منطقة جرابلس إلى أعزاز، بهدف قطع الطريق أمام المشروع الكردي، كما تقول. وعلى الرغم من محاذير كثيرة من التدخل العسكري، ثمّة من يرى أن تركيا ستقوم بعملية عسكرية محدودة في المنطقة المذكورة، بهدف تحقيق أمرين أساسيين. الأول: قطع الطريق أمام قوات “سورية الديمقراطية” من التمدد غرباً، أي الحؤول دون وصول الكرد إلى منطقة عفرين، نظراً لأن مثل هذا الوصول سينعكس بشكل كبير على الوضع الكردي في الداخل التركي، حيث تصاعدت حدة الحرب بين حزب العمال الكردستاني والجيش التركي. الثاني: الحد من تداعيات التدخل العسكري لروسيا، ومحاولتها مع النظام استعادة المناطق التي سيطرت عليها المعارضة السورية في الشمال، وذلك يعني تعبيد الطريق أمام إقامة المنطقة الآمنة تحت عنوان تنظيف المنطقة من داعش. وهنا، قد تجد تركيا دعماً من حليفتها الولايات المتحدة، لطالما حددت الأخيرة أولويتها تجاه الأزمة السورية بمحاربة داعش أولاً.