ينظر الغرب هذه الأيام إلى أي شيء يمسه فلاديمير بوتين على أنه سلاح، ويُفهم كل شيء يفعله تقريباً على أنه هجوم –وهجوم ناجح في أغلب الأحيان. وفي الحقيقة، يستطيع الكرملين أن يغير الحقائق على الأرض، وأن يصنع شبه اتفاقيات لوقف لإطلاق النار، وأن ينشئ مناطق للنفوذ أو أن يضغط على الدول الأخرى. وقد فعل ذلك في مولدوفا وجورجيا وأوكرانيا، وهو يقوم بتكرار النموذج نفسه الآن في سورية.
في الوقت نفسه، يمضي الغرب في إعلان نجاحات الكرملين واحداً بعد الآخر بطرق لا يستطيع الروس أنفسهم أن يروها. وتحت العنوان الافتتاحي “انتصار بوتين في سورية” على سبيل المثال، رأت صحيفة “وول ستريت جورنال” يوم 12 شباط (فبراير) أن المفاوضات يمكن أن “‘تجمد؛ الصراع وتثبته في مكانه، وهو تكتيك استخدمته روسيا لمصلحتها بعد غزو جورجيا في العام 2008، وفي اتفاق مينسك في العام الماضي حول شرق أوكرانيا”.
لكن روسيا لا تقوم بتحويل الأحداث لمصلحتها بالقوة الخام وحدها. فباستخدام سيطرته الكاملة على وسائل الإعلام الروسية وتوجيهها لنشر البلبلة في الغرب، تمكن السيد بوتين –بكلمات الصحفيين بيتر بومارانتسيف ومايكل وايس، من “تسليح” المعلومات. وفي تقرير نشره معهد روسيا الحديثة، ومقره نيويورك، في أواخر العام 2014، حدد الصحفيان كيف يقوم الكرملين باستغلال الإعلام، والتوترات العرقية، والتجارة والتحويلات المالية في الخارج، لتعزيز مصالحه وتحقيق غاياته.
ولنأخذ على سبيل المثال القصة الإخبارية التي بثها التلفزيون الروسي الذي تديره الدولة في كانون الثاني (يناير) الماضي عن قيام المهاجرين المزعوم باغتصاب فتاة ألمانية من أصول روسية في برلين. وبعد ذلك، قال المدعون العامون الألمان أن هذه المزاعم لم تتأكد، كما رفض وزير الخارجية، فرانك فالتر شتاينماير -المعروف عادة بأنه يزن كلماته بعناية كبيرة- القضية كلها ووصفها بأنها “دعاية”. لكن الإعلام الروسي نجح في تضخيم الحادثة بطريقة تجاوزت كل الحدود، مثيراً الاحتجاجات المناهضة للهجرة ومشاعر الاستياء بين ما يقرب من ستة ملايين شخص من المتحدثين بالروسية في ألمانيا.
كما يُنظر إلى موسكو على نطاق واسع بأنها “سلّحت” أزمة المهاجرين أيضاً. ويتفق العديد من المحللين ومسؤولي الحكومة –ومن بينهم أجهزة الأمن التركية- على أن موسكو لا تقوم فقط بإحباط سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وإنما تستهدف أعداء روسيا المفترضين أيضاً بخلقها عن عمد تدفقات إضافية من المهاجرين الذين ينتقلون عبر تركيا، ثم إلى دول الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف. وتتمثل استراتيجية السيد بوتين، كما قال السيناتور جون مكين مؤخراً، في “مفاقمة أزمة اللاجئين واستخدامها كسلاح لتقسيم التحالف عبر الأطلسي وتقويض مشروع الاتحاد الأوروبي”.
بالإضافة إلى ذلك، يجري استخدام المقترحات ببناء خط أنابيب جديد للغاز الطبيعي لتقسيم الاتحاد الأوروبي. وتعامل كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا خط أنابيب “نورد ستريم 2” كمشروع أعمال؛ بينما تعارضه كل من بولندا وسلوفاكيا وأوكرانيا بشدة. وتقول هذه الدول الأخيرة أن المشروع سيمكن موسكو من تجنب ضخ الغاز عبر دول أوروبا الوسطى، مما يحرمها من عائدات رسوم العبور، ويمكِّن موسكو من قطع إمدادات الغاز عنها من دون المساس بعملائها في أوروبا الغربية.
وفي الفترة الأخيرة، قام نائب المستشارة الألمانية، سيغمار غابريل، والذي يعمل أيضاً وزيراً للشؤون الاقتصادية والطاقة، بزيارة وارسو من أجل الدفع بالمشروع، حتى مع أن شريكته في التحالف الحاكم في ألمانيا، المستشارة أنجيلا ميركل، ما تزال تلتزم الصمت. ويقول الخصوم أن بناء خط أنابيب آخر هو أمر غير ضروري الآن، في حين يعمل مشروع “نورد ستريم 1” بنصف طاقته فقط. وما نزال في انتظار صدور حكم من بروكسيل بهذا الخصوص.
ترقى موهبة السيد بوتين في التعطيل والإزعاج وزرع الفوضى إلى نوع من “لمسة ميداس”. وقد جعلت منه هذه الموهبة خصماً قوياً في حرب روسيا الهجينة، التي تمزج بين القوة والتلاعب والاستغلال، حيث يمكن أن يكون كل شيء هدفاً وأن يكون كل شيء سلاحاً. كما أنها منحته أيضاً ما كان يحلم به منذ وقت طويل: اعترافاً غربياً بأن روسيا هي قوة لا يستهان بها ويجب أن يُحسب لها حساب.
كتب ميكافيللي “من الأكثر أماناً بكثير أن تكون مرهوب الجانب من أن تكون محبوباً”، وهي ملاحظة اعتنقها الزعيم الروسي وأجيال كاملة من أسلافه ووضعوها موضع القلب. وكما قال لي مسؤول روسي كبير: “إننا لسنا معروفين بأننا لطيفون أو أنيقون بشكل خاص. لكن ذلك جيد بالنسبة لنا طالما أن مصالحنا تُؤخذ على محمل الجد”.
وهكذا، لا تتمتع موسكو بحب الآخرين، وإنما يخشاها الآخرون. لكن انتزاع الأرض من الأمم الأخرى، وإفزاع جيرانك وزعزعة استقرار أعمالك وخصومك السياسييين ليست سياسات يمكنك الاحتفاظ بها إلى الأبد. وسوف تتحول هذه السياسات لتطارد موسكو ذات يوم.
تاريخياً، اعتبر حكام الكرملين دائماً بلدهم خط الدفاع الأول ضد ما نظروا إليه على أنه طمع الغرب بالتمدد أبعد بكثير من حدود روسيا. لكن موسكو جعلت الناس في الغرب يظنون أن سياساتها تنبع من اتجاه تحريفي عدواني، وليس من منطلق الدفاع. وهكذا، كان نجاحهم مليئاً بالمفارقات.
ربما لا يكون صحيحاً أن السيد بوتين يقوم عمداً بمفاقمة أزمة اللاجئين، أو أنه ليس هناك منطق اقتصادي سليم وراء إنشاء مشروع خط أنابيب “نورد ستريم 2”. ولكن، إذا كانت لديك سمعة تحويل كل شيء تلمسه إلى سلاح، فإن كل شيء تقوله وتفعله ربما يُفسر على أنه هجوم. وسوف تصبح عدو الجميع. وقد أصبح قادة روسيا بارعين جداً في لعبة إسقاط غموض ينطوي على مسحة من التهديد، بحيث أصبح من المستحيل عليهم الآن إقناع أحد بأن الروس ربما يريدون في بعض الأحيان القيام بعمل تجاري مربح فقط، بكل بساطة.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد