يجب عدم الثقة في الأحزاب العقائدية ودعاواها بأن جدارها التنظيمي والأيديولوجي حديدي ولا يمكن اختراقه أو تفكيكه، فهذه الوحدة وهمية، والشواهد كثيرة لدى أحزاب العالم العربي والعراق بصورة خاصة. فهذا حزب البعث حكم في العراق لمرتين؛ الأولى كانت لتسعة أشهر عام 1963 خسر فيها الحكم نتيجة صراع جناحيه اليساري المتمثل بعلي صالح السعدي والمحافظ اليميني متمثلا في حازم جواد، واستغل العسكر ذلك الخلاف ووثب على السلطة بقيادة عبدالسلام عارف بإصدار البيان رقم واحد.
ثم عاد هذا الحزب عام 1968 ببيان رقم واحد آخر لكنه خسر سلطته أيضا نتيجة حرق حلبة الصراع من قبل صدام حسين قبل نزول أبطالها المغامرين للساحة، لكن البيان رقم واحد الذي أطاح بحكمه هو صواريخ “كروز” الأميركية التي دكت القصر الجمهوري ببغداد والإذاعة والتلفزيون ومراكز الاتصالات والقيادة لتتبخر جميع وسائل صدام الاحترازية التي كان يتحدث حولها في الاجتماعات الخاصة حين كان يقول “لن أسمح لمن يحمل في جيبه البيان رقم واحد بأن يأخذ الحكم مني، ولن أسمح بتكرار تجربة انقلاب حافظ الأسد على صلاح جديد خلال حكم حزب البعث في دمشق عام 1971”.
والمثال الثاني هو حزب الدعوة الإسلامي الحاكم الفعلي في العراق منذ العام 2005 ولحد اليوم، فقد عاش انشقاقات قاسية منذ انشقاق مؤسسه محمد باقر الصدر. ولم يأت هذا الحزب للحكم عبر ورقة صناديق الاقتراع بعد أن أصبحت الانتخابات نكتة يتندر بها الحكام أنفسهم في جلساتهم الخاصة. فمن أدخلهم المنطقة الخضراء هم الأميركان بالتعاون مع الولي الفقيه في طهران، وهذه المنطقة أصبحت رمزية السلطة والحكم الحالي ومن يحرسها هم عساكر السفارة الأميركية في بغداد.
دائما لا يُكترث بمن على الواجهة الانقلابية، فالفاعلون الحقيقيون يظلون خلف الستار، هكذا تقول لعبة الانقلابات خاصة في كل من سوريا والعراق، اليوم انتهى شوط المغامرات الفردية، وأصبح رموزها جزءا من التاريخ.
ما يمكن حدوثه اليوم في العراق من سيناريو متوقع هو “البيان رقم صفر” وهو نتاج صراع يحتدم حاليا في بغداد، يتبلور من خلاله البحث عن البطل “الشيعي المنقذ” وهنا تكمن الأزمة، كل واحد من أقطاب التكتل الشيعي يعتقد أنه سيكون قادرا على تمثيل صورة “البطل الشيعي الرمز”. مقتدى الصدر يعتبر نفسه هكذا، وعمار الحكيم كذلك في تراتبية “مقدّسة” تم تعميقها سياسيا في ضمير الجمع الشيعي داخل العراق.
الشعب اليوم مُخدر ومُغيّب بسبب هول الصدمة. صدمة الاستبداد واغتيال الحرية، وصدمة الانفلات والفوضى والتطرف المذهبي والقومي وسيادة السلاح في الشارع. والأميركان المالكون لأقوى مفاتيح سلطة بغداد (العساكر والمخابرات وشبكة هائلة من المخبرين المخترقين لأعلى مرافق الأحزاب والسلطة).
من يذيع البيان رقم صفر في العراق، المثقفون المشتتون الضائعون ما بين ماض يساري أو قومي ملتبس، وحاضر طائفي منبطح سحبهم نحو موائد الانتفاع الذاتي ولا يهمّهم أن يمارسوا لعبة التسبيح لرجال الدين صباحا، وفي المساء يتسامرون بينهم على أنخاب النفعية المادية، والاحتفال بالفوز بردم الهوة ما بين المثقف ورجل الدين “المذهبي الطائفي” ليمثلوا أرخص دور لم يلعبه قبلهم مثقفو العراق عبر قرون من الكلمة والموقف الصادق والمشّرف. لقد سقط “وعاظ الطائفية” في مستنقع تجار الكلمة المساندين لتجار السياسة بعد مغادرتهم موقع التنوير والوفاء للشعب والوطن، ولن يتمكنوا من الاقتراب من قدرة البوح بالبيان رقم واحد الإنقاذي ليظلوا في قاع البئر.
نحن في بلد تحوّل فيه رجل الدين إلى سياسي، والتاجر والسارق وناهب المال العام إلى سياسي، والمثقف المأجور إلى مستشار لرجل الدين اللاعب بالسياسة، وهذه النتيجة على مرارتها، لكنها مفيدة لكي يصبح طريق الإنقاذ مُعبّدا وسهلا أمام الخيّرين المحبين للعراق وهم كثر.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية