اقتراحات الإصلاح في العراق بين الممكن والمجدي

اقتراحات الإصلاح في العراق بين الممكن والمجدي

0,,18622081_303,00

تزامنت عناصر عديدة في كشف مأزق الاقتصاد العراقي إلى العلن. فاستشراء الفساد حفّز حراكاً مدنياً للخروج إلى الشارع وإعلان مطالبته بضرورة وضع حد لحجم هذه الظاهرة ومدى انتشارها في كل مرافق الدولة. وكشف بدء السعر العالمي للنفط رحلة نزول غير مسبوقة وتأثيراتها المباشرة على إيرادات الحكومة، عن مدى عجز القطاعات غير النفطية التي أهملت على مدى أكثر من عشر سنوات، عن توفير موارد أخرى غير النفط يعتمد عليها الإنفاق الحكومي. وبسبب الوضع الأمني غير المنضبط واحتلال داعش لأجزاء من العراق والحرب بينه وبين الحكومة، لم يكن العراق في وضع يستطيع فيه الاقتراض بسهولة من أسواق المال العالمية.

وعندها توالت المقترحات من جهات متعددة عما يمكن أن تفعله الدولة لمعالجة الأزمة، وأظهر العديد من الاقتراحات -باستثناء بعضها- وعياً واضحاً بأبعاد المشكلة لكن الوعي بحلولها كان أقل بكثير، فهناك خلط بين طبيعة الحلول المقترحة، أي القصيرة والمتوسطة والطويلة الأمد من جهة، ومن جهة أخرى بين ما يمكن أن تنفذه الدولة وبين ما يصعب تنفيذه في الظروف الحالية لتركيبة الحكومة السياسية القائمة والتي تجعل العديد من الاقتراحات الجوهرية المهمة تصطدم بمصالح أصحاب النفوذ. أضف إلى ذلك أن بعض المقترحات، سواء اقتصادية أو سياسية أو قانونية جاءت بعيدة من الواقع، كالمطالبة بتشجيع السياحة وعودة الكوادر العراقية المقيمة في الخارج.

إن إهمال القطاعات غير النفطية لأكثر من عقد من السنوات تلت الحصار الاقتصادي الذي استمر لأكثر من ثلاثة عشر عاماً لا تمكن معالجته بسهولة وسرعة. وإن عدم الانتباه إلى هذه الحقيقة قد يربك السلطة التنفيذية ويجعلها تدخل في متاهات القرارات الاقتصادية المتناقضة وتلك التي لا يمكن تنفيذها وأخرى قد تكون مناهضة لاحتياجات الظروف السائدة.

ففــي ضـــوء الموارد المالية المحدودة وغياب دور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي يجب أن تكون المقترحات الاقتصـــادية محددة وواضحة وتتجنب العموميات والمقترحات الفضـــفاضة، فالقول مثـــلاً إن على الدولة إعادة النظر بدور الزراعة والصناعة، لا يجدي نفـــعاً في الوقت الحاضر، لكن الذي يجدي هو تحديد أين يجب تشجيع الصناعة وأين يجب تشجيع الزراعة، وكيف يصعب مثلاً في مجال الصناعة التحويلية في الظروف الحالية الـــدء بمشاريع صناعية من الصفر، فلا الدولة قادرة ولا القطاع الخـــاص -في ظل غياب الأمن- مستعد للمجازفة بأمواله. لكن هناك العديد من الشركات المختلطة بين القطاعيــــن العام والخاص والتي لها خلفية عميقة وكانت ناجحة في الفترة التي سبقــــت الاحتلال ولا تــــزال أبنيتها قائمة وموظفوها موـجودون لكنها لا تنتج، أو لا تنتج بما فيه الكفاية بسبب إهمالها من الحكومة مـــن جهــــــة، وإغراق الأسواق بالسلع المستوردة من جهة أخرى.

إن اهتمام الحكومة بهذه الشركات وتوفير المستلزمات الإنتاجية لها وحماية السوق المحلي قد يساعد على نفخ الحياة فيها مجدداً. كذلك الحال بالنسبة إلى الزراعة، فالعراق كان يحتل المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج وتصدير التمور. لكن الحروب المتعاقبة والإهمال أثر كثيراً بهذه الزراعة الحيوية. ويمكن العراق بجهود غير كبيرة أن يعـــيد لهذه الزراعة رونقها، خصوصاً وأن المعروف أن تربة العراق ومياهه يعطيان خصوصية لمذاق تموره غير متوافرة في تمور دول أخرى. وأظهر بعض الأرقام أن العراق يستطيع تحقيق بليوني دولار من تصدير التمور إذا حصلت الأخيرة على الاهتمام الكافي. أما الأنواع الأخرى من الزراعة، فتستطيع الحكومة تشجيع الزراعات التي لا تحتاج إلى مياه كثيرة بسبب مشكلة المياه الحالية في العراق والزراعات التي لا تعتمد كثيراً على مواد أولية مستوردة.

وتجدر الإشارة إلى أن في الظروف الصعبة التي يعيشها الاقتصاد العراقي لا بد للحكومة من أن تسعى جهدها لإدخال تحسينات ولو بسيطة على الوضع القائم بعد أن أثبتت عدم قدرتها على إدخال إصلاحات جوهرية ولو إن ذلك لا يعفيها من المسؤولية، كمحاربة الفساد واسترجاع المال العام المنهوب الذي لم يتحقق منه شيء. كما لا زالت مشكلة المصارف الخاصة كما هي. ولا يزال مزاد العملة اليومي قائماً على رغم انخفاض موارد الدولة من العملات الأجنبية ورغم تصريح العديد من المسؤولين والخبراء بأنه واسطة لتهريب الأموال تحت ستار استيرادات وهمية. كما قام البنك المركزي أخيراً بسك عملات ذهبية تذكارية وبيعها للجمهور في الوقت الذي لا تسمح فيه موارد العراق الحالية من العملة الصعبة واحتياطاته المتناقصة بخطوة كهذه.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض المعنيين بالشأن الاقتصادي في العراق من خبراء ومسؤولين حكوميين يتوهمون أن العراق يطبق حالياً نظام السوق وأنهم يتمسكون بهذه الميزة ولا يشجعون على تدخل الحكومة في الشأن الاقتصادي. وهذا بطبيعة الحال خطأ كبير. فمن جهة تحتاج إدارة ناجحة لنظام السوق إلى تبني سياسات اقتصادية تتميز بالمهارة والمهنية التي لا يبدو أنها متوافرة حالياً في العراق. كما أن إدارة اقتصاد مختلط أسهل بكثير من إدارة اقتصاد حر. ومن جهة أخرى، فإنه في أكثر الدول تطبيقاً لنظام السوق، تلجأ الحكومات أثناء الحروب والظروف الاقتصادية الصعبة إلى التدخل بشكل مباشر في الإدارة الاقتصادية حتى لا تخرج الأمور عن سيطرتها وتؤدي إلى نتائج كارثية.

ذكاء مخلص الخالدي
نقلا عن الحياة