لا يمكن للمراقب إلا أن ينظر بعين الشك إلى مسار العلاقات بين روسيا والمملكة العربية السعودية. المراقب السعودي سيجد في التواصل بين الرياض وموسكو مظاهر عرضية لا تتّسق مع الثقافة السياسية التي اعتمدتها المملكة منذ القمّة الشهيرة التي جمعت الملك عبدالعزيز بالرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في عام 1945. والمراقب الروسي سيرى في الظاهرة طقسا يشبه تمارين العلاقات العامة، حيث لا تاريخ مشتركا يمكن الوثوق بأعمدته.
تغيّرت موسكو وتغيّرت الرياض. لم يعد الكرملين يتحرك وفق قواعد الاتحاد السوفييتي، ولم تعد الرياض أسيرة ثوابت الحرب الباردة. تسعى روسيا إلى النهوض من كبوة سببها سقوط الإمبراطورية السوفييتية، فيما السعودية منخرطة بورشة كبرى لإعادة قراءة المشهد الدولي برمته، والتموضع وفق شروط مستجدة لا سابق لها في تاريخ المملكة.
في طبيعة العلاقات الجديدة بين روسيا والسعودية اعتراف مشترك بأمرين:
*الأول، إقرار الرياض بأن روسيا قوة عظمى تعود إلى الساحتين الدولية والإقليمية، وتطل مباشرة على منطقة الشرق الأوسط، وتفرض أجندتها، لا سيما من خلال الميدان السوري، دون إهمال تقدمها وإنجازها اختراقات لافتة مع عدد من دول المنطقة، لا سيما مصر وإيران.
*الثاني، إقرار موسكو بأن السعودية باتت “الطرف الأساسي” الذي يقود الوجهة العربية في ملفات ساخنة متعددة، لا سيما ذلك المتعلق بالمواجهة مع إيران.
ومن تلك الندّية التي يتعامل بها الطرفان، تبرز حاجة مشتركة للتكامل والتواصل، لا التصادم والتنافر. ولا شك أن تلك “الحكمة” الهابطة تعود إلى ورشة تموضع جبارة يقوم بها الطرفان، كل لأسبابه، ولمآلات مختلفة، لكن نجاح هذه الورشة وذلك التموضع يحتاج إلى حوار وتنسيق وتكامل، ذلك أن كل فريق يملك من القوة والنفوذ ما يمكنّه من تعطيل أجندات الطرف الآخر.
يذهب زهير بن فهد الحارثي، عضو مجلس الشورى السعودي، في حديثه لـ “العرب” إلى شرح مقاربات الرياض الجديدة، يقول “إن السياسة السعودية الجديدة ترى أن اختلاف وجهات النظر إزاء قضية معينة مع أي دولة لا يعني القطيعة معها، فما بالك بروسيا التي عادت اليوم للقطبية وباتت تلعب أدوارا مؤثّرة في الملفات الملتهبة“.
عبّرت موسكو عن غضب في شأن ما اعتبرته “مؤامرة سعودية أميركية” للتأثير على أسعار النفط. أدلت إيران بدلو مشابه، واضعة شكواها في خندق واحد مع الشكوى الروسية. نفت الرياض بالمنطق والحجج والأرقام والوقائع تعجّل الروس في الحكم على ظاهر الأمور، وتمسكت بتواصل مع موسكو، دون طهران، للخروج بحلول تنعش سوق الهيركاربونات في العالم. وكان أن فهم الروس من جديد الرقم السعودي الصعب وراحوا يقاربون المملكة في هذا الملف.
لكن للسعودية موقف حازم حاسم في الملف السوري يتناقض في الشكل والمضمون مع ذلك الذي تتبناه روسيا. موسكو تدافع علنا، بالسياسة والعسكر، عن النظام السوري في دمشق، فيما الرياض ما انفكت تكرر لازمة لم تتبدل في معارضة الحكم في دمشق، والدعوة إلى رحيلة عبر المفاوضات، وإلا عبر الحلّ العسكري. لكن المفارقة هذه المرة في طبيعة العلاقة الجديدة بين روسيا والسعودية، تكمن في حرص البلدين على تنمية علاقاتهما في ميادين عديدة، وفي إرادتهما على التعايش رغم الخلاف. تعمل الرياض وموسكو على تدعيم مسار علاقاتهما باتجاهات استراتيجية متينة، رغم الأورام الحميدة والخبيثة التي قد يتسبب بها تناقض البلدين في مقاربة بعض الملفات الساخنة، لا سيما تلك التي في سوريا، كما تلك المتعلقة في علاقات روسيا مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
السعودية باتت الطرف الأساسي الذي يقود الوجهة العربية في ملفات ساخنة متعددة
المقاربة الخليجية لروسيا
سال حبر كثير واكب زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لروسيا. وفي ما قيل هناك وفي ما وقّع من اتفاقات وفي ما حُكي عن زيارة قريبة للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز لموسكو لتتويج هذه العلاقات، ما استشرف انقلابا تاريخيا في العلاقات الروسية السعودية. بيد أن بواطن الأمور طفت على سطحها وكشفت عن معوقات مازالت تربك وتيرة العجلة المتصاعدة، دون أن توقف دورانها.
ذهبت موسكو مذهب الرياض في ورشتها اليمنية ولم تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن ضد القرار 2216 الذي منح السعودية شرعية التدخل على رأس تحالف عاصفة الحزم هناك. ولئن اعتُبر السلوك الروسي في الملف اليمني مناقضا لموقف ومصالح إيران، فذلك أن موسكو سجّلت تباينا عن طهران بين ما تعتبره روسيا مصالح منطقية لإيران وأخرى لا منطق لها وتتجاوز الحدّ المقبول. في ذلك أفرجت موسكو أيضا عن حرص على عدم تهديد أمن المملكة ودول الخليج، فاتحة أبواب الانفتاح على المزاج الخليجي برمته.
وتتأسس عقلية المقاربة الخليجية لروسيا أيضا، على مواقف مشتركة تقرّب موسكو ومعظم الدول الخليجية مع القاهرة منذ تحوّلات ما بعد حكم الإخوان، كما تتأسس هذه العقلية، بالنسبة إلى السعوديين، مع فلسفة جديدة تروم تحالفا قد يجمع السعودية مع روسيا وفرنسا في زمن أول، وقد يتمدد ليشمل الهند وباكستان وتركيا في زمن لاحق.
في هذا الصدد يرى ماجد بن عبدالعزيز التركي، رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية الروسية في الرياض، أن ما يعزز هذا التوجه هو “قراءة الموقف الفرنسي من خلال حاجة فرنسا للمزيد من الاستثمارات المشتركة مع السعودية، وكذلك للغاز الروسي، ولا سيما أنها شريكة في استثمارات شركة غازبروم الروسية بنسبة 24 بالمئة في سيبيريا، إضافة إلى أن فرنسا تعاني من الأزمات الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي، ولن تكون أميركا عونا لها في هذا الاتجاه، كما أن حلف الناتو تحوّل إلى عبء اقتصادي وأمني وسياسي لدول الاتحاد الأوروبي، حيث أن لدى عدد من دول الاتحاد الأوروبي شعورا بأن الوضع الحالي للناتو يخدم التحركات الأميركية بدرجة أكبر من المصالح الأوروبية، وبالفعل بدأت بعض هذه الدول تتلكأ في دفع التزاماتها”.
في هذا يلاحظ الحارثي أن “اللافت أن الرياض باتت لا تضع بيضها في سلة واحدة رغم علاقتها التاريخية والاستراتيجية مع واشنطن. وأن علاقتها المميزة مع فرنسا والآن مع روسيا تدخل ضمن معادلة موازين القوى التي أصبحت ضرورة بعد تراجع الدور الأميركي المؤثر”.
يذهب التركي أبعد من ذلك في الكشف عن حوافز العلاقة بين الرياض وموسكو، يقول “لا شك أن المتغيرات الإقليمية تأتي كعامل رئيسي في الاتجاه الجديد للتقارب السعودي الروسي، وخاصة التحوّلات المتسارعة في الاتجاه الأميركي بشأن ملفات المنطقة، تحت مفهوم الأمن الأميركي الاستراتيجي الجديد، حيث لم يعد خافيا الاتجاه الأميركي نحو تمكين إيران إقليميا، ونتذكر هنا تصريح الرئيس أوباما (نتطلع لإيران كقوة إقليمية فاعلة). والأكثر حيرة التجاهل الأميركي عن قصد للسيطرة الإيرانية الكاملة على جنوب العراق وتحول العراق برمته إلى كتل طائفية. نتذكر قرار الكونغرس للإدارة الأميركية بالتعامل مع العراق على أنه ثلاث دويلات على أسس طائفية: شيعية في الجنوب، وسنية في الوسط، وكردية في الشمال. بمعنى أن العراق في المستقبل القريب، والقريب جدا، سيكون البوابة الرئيسية للقلق الأمني الخليجي.
ويأتي الملف السوري بتداعيات جديدة لم تتجاهل فيها الإدارة الأميركية دول الخليج فحسب، بل وحتى فرنسا، ورسمت سيناريو المستقبل السوري في سياق الأمن الأميركي الجديد من البوابة الإيرانية، وطبعا الإسرائيلية ضمنا، بحيث حولت مشروع الهلال الشيعي، كمشروع إيراني، إلى مستطيل شيعي طائفي تديره إيران، يشمل جغرافيا ثلاث دول (العراق، سوريا، لبنان)، ولم تتضح النية الأميركية إلى الآن بشأن الأردن، وإن كان الأردن، جغرافيا، في وجهة النظر الأميركية، حزاما أمنيا إقليميا لإسرائيل”.
في هذا يعبرّ فهد الحارثي، وهو أيضا أكاديمي متخرّج من الجامعات البريطانية، عن خيبة الأمل السعودية إزاء سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما في تناوله لشأن العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي وأمنها الإقليمي، كما تعامله المتراجع مع علاقات تاريخية بين الولايات المتحدة والمملكة قائلا “السعودية تشعر أن البيت الأبيض خذلها في أمرين؛ الأول، الملف السوري بعد استخدام النظام للسلاح الكيماوي، والآخر مقدار التهافت على إيران واخترال المشكلة معها فقط في الملف النووي دون الأخذ بعين الاعتبار أساليبها العدوانية وتدخلاتها السافرة”.
لكن الحارثي يؤكد مع ذلك “أن العلاقة مع واشنطن تاريخية واستراتيجية، كون قاسم المصلحة المشتركة هو من حمى هذه العلاقة رغم ما مرّت بها من عواصف واهتزاز“. ويرى أن الفتور مع واشنطن “مؤقت نظرا لسياسة الرئيس الحالي، وهي سياسة لم تعد تكترث بما يحدث في المنطقة ولا ترغب في التدخل، بل حتى تنازلت عن دورها لأطراف أخرى فاعلة في الساحة”.
ويضيف الحارثي أن “الخلل في رؤية الرئيس وليس في محددات السياسة الأميركية الخارجية. وأتصور أن ديناميكية العلاقة وحيويتها ستعودان مع الرئيس الجديد بغضّ النظر عن انتمائه الحزبي“.
عهد جديد
المراقبون الروس يتعاملون بجدية مع عملية التقارب الجارية ببطئ لكن دون توقف بين بلادهم والسعودية. يعتبر سيرجي جونييف (سبوتنيك) “أن تفاهمات كبيرة قد تحدث بين البلدين خلال الفترة المقبلة (…) ربما تكون محركا قويا لعهد جديد قد ينطلق”. يدعو إيغور زاريمبو (سبوتنك) إلى “أن نحصي المكاسب حتى الآن قبل أن نتطرق إلى اتفاقيه أهم وأشمل”، مضيفا أنه “بات من حق المواطن السعودي أن يتخيل أن دولة مثل روسيا بنهضتها وتقدمها وريادتها تساعد بلاده في أمور مثل ذلك، وفي المقابل سنرى أن المواطن الروسي بوسعه التصور أن دولة مثل السعودية باقتصادها القوي أن تتعاون مع روسيا”. وربما أهم ما كتبته صحيفة كوميرسانت، في تعليقها على زيارة الأمير محمد بن سلمان، أنها زيارة “هدفها إزالة الجفوة والفجوة في العلاقات بين البلدين“.
عن هذه الفجوة، يتحدث ماجد التركي، وهو المتخرّج من الجامعات الروسية، ويكشف عن “غياب الوعيّ لدى الكثير من شرائح المجتمع السعودي بتفاصيل الشأن الداخلي الروسي وطبيعة صناعة القرار في روسيا، وغياب المعرفة الحقيقية بمكونات المجتمع الروسي المؤثر في التوجهات السياسية الروسية. ويقابل هذا، انحياز تاريخي تغلغل في الشعور الباطني لشريحة كبيرة جدا من المثقفين والإعلاميين وصنّاع القرار السعودي بحكم تعلمهم وارتباطهم بالغرب بل وثقافتهم الغربية – الأميركية، حتى أن الكثير منهم لا يجد وعيه وإدراكه خارج هذا الميدان”.
ويتخوّف التركي من “أن حركة الإسناد الشعبي والإعلامي للقرار الحكومي لن تكون بمستوى وعي الدولة وإرادتها والتحديات التي تتعامل معها، ويحتاج هذا وقتا وجهدا وعملا مضنيا، تدعمه نتائج إيجابية وفاعلة لمسارات التعاون والتقارب الثنائي، لذا لن يكون التقارب السعودي الروسي سهل المنال بالمستوى الذي يمكن الاعتماد عليه لمواجهة التحديات الإقليمية الراهنة والمستقبلية“.
لكن الحارثي، وهو المتابع لشؤون العلاقة بين بلاده وروسيا يقول إن “الروس متحمسون لتعزيز العلاقة مع السعودية ويرون أن العلاقة يجب أن تصل إلى مستوى الشراكة وليست فقط علاقة تبادلية. فالمقومات لكلا البلدين قادرة على أن ترتقي بالعلاقة، ويعتقدون أن تلك الإمكانات لم توظف كما يجب”.
وفي كشفه للهواجس الروسية يضيف الحارثي “هناك أيضا 23 مليون روسي مسلم يرتبطون روحانيا بالسعودية وهذا الملف مفصلي في الدفع باتجاه توطيد العلاقات ما بين البلدين. الروس حريصون على تطوير العلاقة مع الرياض وعلاقتهم جيدة بالإيرانيين وأكدوا أنهم مستعدون للقيام بأي محاولة للتقريب والتوسط ما بين الطرفين. كما أنهم يزعمون أن الأسد لا يعنيهم بقدر ما يهمهم أمنهم القومي. هناك 6000 روسي في داعش ما يعني ضرورة التدخل في سوريا للقضاء عليهم قبل أن يعودوا إلى روسيا. لدي قناعة بأن الروس أكثر صراحة ووضوحا من غيرهم. وتغيير مواقفهم ليس مستحيلا لأنهم براغماتيون في نهاية المطاف. المزيد من اللقاءات المباشرة والحوار والتواصل كفيل بتحقيق نتائج مدهشة“.
في الرياض، من يرى هذه الأيام أن الولايات المتحدة حليف كاذب وأن روسيا خصم نزيه. في ذلك أن السعودية تعتبر أن لروسيا خيارات خاطئة في الملف السوري خصوصا، لكنها خيارات واضحة بالإمكان التعرّف عليها والتعامل معها، فيما باتت طبيعة السياسات الأميركية مرتجلة عرضية غير قابلة للتوقع والاستشراف.
صحيفة العرب اللندنية