دفعت خطوة كوريا الشمالية الاستفزازية، بإعلانها تفجير قنبلة هيدروجينية، إلى إعلان كل من وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري، والصيني وانغ يي، أن بلديهما أحرزا تقدماً غير مسبوق في اتجاه استصدار قرار جديد في مجلس الأمن الدولي ضد بيونغ يانغ، وبرنامجها النووي.
وصرّح الوزير الصيني، في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأميركي في مقر الخارجية الأميركية: “تمّ إحراز تقدّم كبير في مشاوراتنا، ونحن نبحث في إمكانية التوصّل إلى اتفاق على مشروع قرار، والتصويت عليه في المستقبل”. وأكّد كيري: “كانت المشاورات بنّاءة للغاية في الأيام الأخيرة. ليس هناك أدنى شك في أنه إذا ما تمّ إصدار قرار، فإن هذا القرار سيذهب أبعد من أي قرار آخر، سبق أن أصدره مجلس الأمن الدولي بحق النظام الستاليني وبرامجه النووية والصاروخية”.
وللتوكيد على أهمية هذا اللقاء الصيني – الأميركي، قال المتحدث باسم الأمن القومي الأميركي “نيد برايس”، في بيان أصدره بعد اللقاء بين السفير الصيني وسوزان رايس، مستشارة الأمن القومي للغرض عينه، “إن الرئيس الأميركي (باراك أوباما) انضم للاجتماع، وصرّح أنه يتطلّع إلى استقبال نظيره الصيني، شي جين بينغ، الذي سيحضر قمة نووية، تستضيفها واشنطن يومي 31 مارس/ آذار الجاري و1 إبريل/ نيسان المقبل. وأكد أوباما أنه “مهتم بإقامة علاقة دائمة وبناءة ومثمرة بين الولايات المتحدة والصين”.
وفي رأي خبراء متابعين لـ”المسألة الكورية الشمالية”، وفي طليعتهم الأميركي من أصل لبناني، روي جورج حدشيتي، أن واشنطن وبكين تبدوان أكثر جدّية من أي وقت مضى في وضع حدّ نهائي لهذا التمادي النووي الجنوني لكوريا الشمالية، المهدّد، ليس المصالح الأميركية فقط، وإنما مصالح الصين وروسيا وأوروبا، بل العالم بأسره، وأنه بدأ العدّ العكسي لاتخاذ خطوات تنفيذية رادعة، من شأنها شلّ فاعليات هذا البلد الاستبدادي الغامض على نحو متكامل، وإطاحته من داخله، عبر سياسة مراكمة التعفّن الداخلي فيه حتى الانفجار، وربما بمساعدة من الدولتين الحليفتين الداعمتين له: روسيا والصين”.
ولمّا سألته عن سبب هذه الجدّية الصينية غير المتوقعة (كان ماراً عبر بيروت التي مكث فيها ثلاثة أيام، في طريقه إلى كوريا الجنوبية)، وخصوصاً أنها تترافق مع تنسيق غير اعتيادي مع واشنطن، أجاب: “طفح كيل حلفاء هذا البلد التقليديين أخيراً، قبل أعدائه التقليديين. فبيونغ يانغ تتصرف كالطفل المدلل مع الصين وروسيا، ترتكب كبائر المحرمات، من دون أن تخطرهما بها إلا بعد فوات الأوان”.
ربما كان صحيحاً ما استخلصه الخبير الأميركي، روي حدشيتي، فهو ينطبق، مثلاً، على الخطوة الاستفزازية التي أقدمت عليها كوريا الشمالية في السادس من يناير/ كانون ثاني الماضي، والمتمثلة بتفجيرها قنبلة هيدروجينية، قالت عن نتائجها إنها “ناجحة”. أغضب هذا الأمر الصينيين والروس جداً، فصدرت عنهما مواقف إدانات رسمية شديدة اللهجة، حتى قبل أن تصدر عن أي جهات رسمية عدوّة لبيونغ يانغ. فالولايات المتحدة شكّكت، مثلاً، بنجاح تجربة القنبلة الهيدروجينية، وإن أقرّت بحدوثها وإدانتها بالطبع، بُعيد بكين وموسكو، في محاولةٍ منها للتهوين من شأنها، لحسابات محض داخلية أميركية هنا، فضلاً عن حسابات أخرى مهمة، تتعلق بتطمين حليفيها المركزيين في آسيا: اليابان وكوريا الجنوبية.
وكان الكونغرس الأميركي قد صوّت بالإجماع تقريباً، أي بغالبية 408 أصوات (عارض نائبان) لمصلحة النص الذي يجعل إلزامياً تطبيق العقوبات القائمة ضد أي شخص، أو شركة تساعد نظام بيونغ يانغ، ولا سيما في مجال شراء مواد لصنع أسلحة تدمير شامل.
وفي السابع من فبراير/شباط الماضي، عاد فارتفع منسوب الاستفزاز الكوري الشمالي إلى ذروته، لدى الأعداء والأصدقاء معاً، حين أعلنت وكالة الأنباء الكورية الشمالية عن إطلاقها صاروخاً (لم تقل إنه بالستي) يحمل على متنه قمراً صناعياَ. وقد أقام في مناسبة إطلاقه الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، حفل عشاء، احتفاء بالعلماء والفنيين والمسؤولين كافة، الذين شاركوا في عملية إطلاق الصاروخ، وقال: “مهمتكم تأتي في زمن معقد، يتطاير فيه الشرر من عيون القوى المعادية أكثر من أي وقت مضى من أجل خنق كوريا الشمالية”.
هزات أرضية صينية
ويظل حدث إطلاق الصاروخ الكوري الشمالي أقل أهمية وخطورة من حدث إطلاق بيونغ يانغ القنبلة الهيدروجينية الشهر الماضي، والتي أحدثت هزاتٍ أرضية في مدن صينية حدودية عدة، منها يانجي، هوتشون وشانغ باي في إقليم جي لين، ما اضطر السلطات الصينية إلى إجلاء السكان، على جناح السرعة، بعد ظهور تشققات في مبانٍ عديدة.
وكان “المعهد الأميركي للجيولوجيا” أكّد في مرحلة أولى أن “زلزالاً بقوة 5.1 درجات على مقياس ريختر وقع على مقربة من مركز للتجارب النووية في منطقة كيلغواي الكورية الشمالية، حيث أجرت بيونغ يانغ تجارب نووية سابقة، مبدياً خشيته من تنفيذها تجربة نووية جديدة، بعد ثلاث تجارب نووية سابقة في السنوات 2006 و2009 و2013 حتّمت فرض عقوبات دولية عليها.
وكانت الصين من أولى الدول التي استنكرت الفعل الكوري الشمالي، وقالت، على لسان هويا شونيينغ المتحدثة باسم خارجيتها: “تعترض بكين بحزم على التجربة النووية الكورية الشمالية التي تجاهلت معارضة المجتع الدولي، وتحضّ بقوة بيونغ يانغ على احترام التزامها بنزع السلاح النووي، ووقف أي عمل يزيد الوضع سوءاً”.
أما روسيا فقد اعتبرت الحدث الكوري الشمالي “يشكّل انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن الدولي”. وأعلن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، “الرئيس فلاديمير بوتين أمر بأن تدرس بعناية كل المعلومات المتأتية من محطات المراقبة، بما في ذلك معلومات المحطات الزلزالية، وبتحليل الوضع إذا ما تأكد حصول التجربة”.
السؤال الآن، هل ستمضي الصين (مفوضة من حليفتها روسيا) والولايات المتحدة في إجراءاتهما لوضع حد نهائي وقاطع، هذه المرة، ضد هذا البلد النووي الذي يتحدّى الجميع، خصوصاً بعد كل القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي، وبينها البيان الذي صدر بإجماع الدول الـ15 في المجلس، ما قبل الشهر الفائت؟
يبدو أن الصين جدية للغاية، في أمر إقرار عقوبات رادعة بحق جارتها “المارقة” كوريا الشمالية. لكن، شريطة عدم تهديد أمنها وأمن روسيا معها، إذا ما قرّرت الولايات المتحدة نشر منظومة صواريخ “ثاد” المتطورة جداً في كوريا الجنوبية. والظاهر أن المفاوضات بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة بدأت قبل الإعلان الرسمي عنها، بحسب تصريح لمصدر حكومي كوري جنوبي في العاصمة سيول، أفاد “بأننا أبلغنا روسيا والصين ببدء المفاوضات مع واشنطن، بخصوص نشر منظومة الدفاع الصاروخية، قبل الإعلان الرسمي عنها”.
أخذت الصين هذا التهديد الأميركي، عبر لسان الناطق الكوري الجنوبي، على محمل الجد، (على الرغم من أن واشنطن حرصت على القول إن المنظومة الجديدة لا تشكّل تهديداً لبكين وإنها موجهة حصراً للخطر الصاروخي من كوريا الشمالية) وأنها ستبدأ التفاوض على نحو مختلف هذه المرة مع واشنطن حول الترسانة النووية الكورية الشمالية الجديدة والوصول، بالتأكيد، إلى قاسم دولي مشترك، يهدئ من قلق الجميع في شبه الجزيرة الكورية وخارجها.
ويقر المخطّطون العسكريون الأميركيون بأن كوريا الشمالية تمتلك القنبلة النووية، ولديها 300 رأس حربي نووي، فضلاً عن مخزون احتياطي هائل من الأسلحة الكيماوية الحيوية، والمتوزعة على كل فيلق من فيالقها العسكرية الذي ينظم بدوره لأن يكون لكل فوج عسكري فصيله الكيميائي الخصوصي.
ولدى الجيش الكوري الشمالي تحصينات تحت الأرض، لا تقدر على اختراقها القنابل الذكية النووية أيضاً. ولديه أكثر من عشرة آلاف وسيلة تقنية حربية غير مصرّح عنها تحت الأرض، مخصصة لمواجهة أي محتل يظن أنه انتصر عليه.
وقد فكّر الأميركيون، أكثر من مرة، بمغامرة ضرب هذا البلد، ووضعوا خططاً عسكرية عدة لذلك، كان جديدها خطة أعدها وزير الدفاع الأميركي الأسبق، وليم بيري، لكنهم أحجموا عنها لأسباب عدة، ليس منها حسابات روسيا والصين فقط، بل قوة هذا البلد “الذي لا يستعرض من دون جدوى”، بحسب وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد، والذي كان صرّح للإعلام الأميركي “كوريا الشمالية بلد جبلي محصّن للغاية، ووسائله الدفاعية متماهية بجغرافيته الاستثنائية”. وأردف يقول إن العسكر الكوريين الشماليين “يستخدمون الألياف الضوئية تحت الأرض للاتصال العسكري، وبالتالي، فإنه يستحيل نشر وكلاء التجسس في دولتهم، لأنهم متحسبون لأدنى إشارة، وحتى للهواء نفسه، في السلم أكثر من الحرب”.
كيسنجر والمسألة الكورية
وتتوافق وجهات خبراء ومنظّرين استراتيجيين كبار في شأن المسألة الكورية الشمالية، وفي طليعتهم وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، الذي كان زار الصين في العام 2014 وروسيا في 2016 وقابل رئيسي البلدين بصفته مواطناً أميركياً، لا بصفته مسؤولاً رسمياً مكلفاً بمهمة معينة. وقد استقبله الرئيس الصيني، شي جين بينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استقبال رؤساء الدول. ولم يرشح عن الزيارة شيء، إلا تعليق ألكسي توتانوف، وهو خبير روسي في شؤون شبه القارة الكورية، حين سأله كاتب هذه السطور عن الموضوع، فأجاب: “أهم ما بحثه كيسنجر مع المسؤولين في روسيا قضايا تتعلق بأوكرانيا وسورية وكوريا الشمالية. وفي ما خصّ القضية الكورية، تطرّق كيسنجر إلى مدى جدّية المواقف الصينية والروسية تجاه كبح جماح كيم الثالث (الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ إيل) وأن هذا العجوز الأميركي لا يزال متشدداً في آرائه، على الرغم من تجاوزه التسعين عاماً”.
والحقيقة أن الشأن الكوري الشمالي كان قد استغرق كثيراً من وقت ثعلب السياسة الخارجية الأسبق كيسنجر، وكتاباته وتحليلاته، فقبل عشر سنوات، كان قد كتب مقالة وزّعها منبر “تريبيون ميديا سيرفيسيز” جاء فيها: “السبيل الرئيس لتحقيق تقدم في القضية الكورية الشمالية المعقدة، يتمركز حول ضرورة التعاون بين واشنطن وبكين، غير أن بكين لم تكن راغبة في الضغط على بيونغ يانغ، ليس بسبب ادعاء بعضهم بأنها غير مبالية إزاء حيازة كوريا الشمالية أسلحة نووية، أو أن لها مصلحة في شعور الولايات المتحدة بالقلق، وإنما بسبب أن للصين مصالح في شمال شرق آسيا، أكبر بكثير من مجرد وقف المشروع النووي لبيونغ يانغ”.
وسوف تبقى كوريا الشمالية، في كل الأحوال، عصا غليظة بيد الصين وروسيا، تهشّان بها على كوريا الجنوبية واليابان، وسائر دول نفوذ الولايات المتحدة المتعاظم في آسيا، ومنطقة الباسيفيك تحديداً، حيث نقلت وتنقل الولايات المتحدة حاملات طائراتها وغواصاتها النووية إلى بحر الصين الجنوبي، فهناك على ما يبدو “تُشكل آسيا – الباسيفيك فرصة القرن الحادي والعشرين لنستمر في قيادة العالم” على حد تعبير هيلاري كلينتون في مقال شهير وتأسيسي لها بعنوان: “عصر أميركا الباسيفيكي”.
ولا دواء مع كوريا الشمالية، إلا بتركها للتعفّن الذاتي، فهو السلاح الأمضى والأنجح، الذي يدفع بشعبها إلى الانفجار الشامل على سلطته الديكتاتورية الشاملة.
أحمد فرحات
صحيفة العربي الجديد