في بدايات الثورة السورية، رفع متظاهرون لافتة تعتذر من شهداء الجزائر، لأن أعداد شهداء سورية ربما يتجاوزون، مستقبلاً، شهداء الجزائر المليون ونصف المليون شهيد. حينها استغرب جزائريون من هذه “المبالغة” كثيراً. ثم ظهر أن السوريين استلهموا بالفعل دروس الشهادة من الثورة الجزائرية في أقدس تجلياتها، لكنهم فشلوا، إلى حد كبير، في استلهام دروس الوحدة والنصر منها، فكان ذلك أخطر ما يمكن أن يحدث لأي ثورة شعبية، دفعت كل هذه الضريبة الغالية من الدماء والتشريد واللجوء.
وعلى الرغم من الفوارق الجوهرية بين الثورتين، الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي والسورية ضد الطغيان والدكتاتورية الداخلية، إلا أن حجم التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الجزائري في الماضي، وما يقدمه الشعب السوري من تضحياتٍ كبيرة اليوم، يجعل ضرورياً البحث عن الدروس الكبيرة لإعادة تقويم الثورة السورية التي استكملت عامها الخامس من خلال مسار ثورة الجزائر التي انتصرت، في النهاية، بعد سبع سنوات ونصف السنة من الثورة المسلحة (1954/1962)، علماً أن كلا الثورتين ترتكزان على ذاكرة دموية من مجازر مروعة متشابهة (مجازر سطيف وخراطة سنة 1945 في الجزائر، ومجازر حماة 1982).
وإذا كانت الثورة السورية قد استلهمت دروس الشهادة والتضحية، إلا أنها أغفلت بشكل خطير دروس الوحدة والتخطيط والتنظيم التي امتازت بها الثورة الجزائرية، والتي عملت، عبر التخطيط المحكم، على إنهاء الفرقة قبل انطلاق الثورة في الفاتح من نوفمبر/ تشرين ثاني 1954، من خلال تجاوز طموحات المصاليين والمركزيين، في حركة انتصار الحريات والديمقراطية، وإعلان ميلاد جبهة وجيش التحرير الوطني، إطاراً جامعاً لكل المؤمنين باستقلال الجزائر عبر الثورة والكفاح المسلح، بعيداً عن ترف المقاومة السياسية السلمية، التي ظل مصراً عليها كبار المناضلين الجزائريين، من أمثال الشيخ مصالي الحاج وفرحات عباس، وحتى بعض أعضاء جمعية العلماء المسلمين أنفسهم.
ما أغفلته الثورة السورية التي انطلقت عدة أشهر سلمية في البداية، هو التخطيط لمرحلة الثورة المسلحة، حيث انتقلت المواجهة العسكرية، في بداياتها، بعفوية من درعا إلى حمص إلى باقي المناطق السورية الأخرى، من دون أن توجد هيئة سياسية أو عسكرية موحدة، بل إن كيانات سياسية وفصائل عسكرية كانت تعلن الالتحاق بالثورة من دون قيادة واضحة، ما شكل، منذ البداية، حجر عثرة أمام تقديم الدعم الدولي اللازم، أو بالأصح، كان مبرراً لكي يتحجج أصدقاء سورية بأنهم لا يجدون جهة سورية، ممثلة لهذه الثورة، كما أدت إلى تعثر الحسم العسكري، والذي على الرغم من نجاحاتٍ واضحةٍ سجلت في السنوات الثلاث الأولى من الثورة، إلا أن النظام استطاع فيما بعد، بفعل الدعم الإيراني غير المحدود، والتدخل الروسي فيما بعد، أن يحجّم هذه الانتصارات.
ما قامت عليه الثورة الجزائرية في الماضي كان ينبغي أن يكون مرجعاً أساسياً اليوم للثورة
“المفاوض الجزائري في إيفيان كان يفرض شروطه بوحدة الصف ولغة الرصاص على فرنسا”
السورية، ومن ذلك رفضها المطلق كل الكيانات السياسية والعسكرية خارج إطار جبهة وجيش التحرير الوطني، من منطق أن الفرقة لن تؤدي سوى إلا الفشل، حيث اضطر الثوار الجزائريون إلى مواجهة المصاليين (نسبة إلى المناضل مصالي الحاج، أب الحركة السياسية الجزائرية) بالسلاح، بعد أن رفض هؤلاء الالتحاق بالثورة، واعتبروا أنفسهم الأحق بإطلاقها، وقد أسس المصاليون في مواجهة جبهة وجيش التحرير الوطني، الحركة الوطنية الجزائرية، لتكون تنظيماً سياسياً وعسكرياً موازياً ومعادياً لجبهة وجيش التحرير الوطني.
وكانت هذه الحركة في بعض المراحل والمناطق، وخصوصاً في ساحة المهجر في الأراضي الفرنسية، أخطر على الثورة من الجيش الاستعماري نفسه، حيث اندلعت مواجهاتٌ مسلحةٌ ضخمة بين الطرفين، حصل إثرها الجانب المصالي على دعم عسكري ولوجستي فرنسي واضح، بهدف القضاء على الثورة الجزائرية، مع زرع الفتنة والبلبلة في صفوف المواطنين وتشكيكهم في المجاهدين، ما أدى إلى مجازر كانت مروّعة، قادها العميل محمد بلونيس، فيما يعرف بمجزرة ملوزة وغيرها، غير أن انتصار جيش التحرير الوطني الجزائري على هذه الحركة من البداية، وما حققته إثرها هجمات 20 أغسطس/ آب 1955 في الشمال القسنطيني، من نتائج باهرة على مستوى التخطيط العسكري، قبر مشروع زرع الفتنة التي عملت عليه فرنسا، ليلتحق بعدها، بفترة وجيزة، أغلب المترددين والمشككين في نجاح ثورة الشعب، ومن أبرزهم فرحات عباس الذي حل حزبه الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، والتحق أتباعه جماعياً بالثورة بداية العام 1956، كما التحقت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالثورة رسمياً فبراير/ شباط 1956، على الرغم من أن الشيخ البشير الإبراهيمي، أحد عمالقة هذه الجمعية الإصلاحية الكبيرة، قد دعا للالتفاف بالثورة بعد انطلاق ثورة نوفمبر بـ 14 يوماً.
ولم يكن لتخاذل الشيوعيين بعدها أي أثر على وحدة الثورة الجزائرية العظيمة وانسجامها، وما جعلها فوق الاختراق، أو احتمالية الفشل. النقلة النوعية التي حققتها الثورة بعد عقد مؤتمر الصومام داخل الأراضي الجزائرية المحرّرة في 20 أغسطس/ آب 1956، أين تم إقرار مبدأ القيادة الجماعية للثورة، وتحديد الأهداف السياسية، وتنظيم الثورة تنظيماً محكماً، كما أعطى للجبهة بناءها التنظيمي التسلسلي المتمثل في الهيئات التنظيمية العليا، المجلس الوطني للثورة، لجنة التنسيق والتنفيذ، مع تدعيم النشاط السياسي والدبلوماسي للثورة الجزائرية، ما سمح بإعلان الحكومة الجزائرية المؤقتة قبل أربع سنوات من تحقيق الاستقلال.
وللأسف، لم يتوفر للثورة السورية العفوية التي واجهت أعظم طغيان داخلي بطابع طائفي مقيت كل هذا التخطيط والتنظيم والوحدة، وبقيت الأخطاء تتراكم، نتيجة التدخلات الخارجية، والولاءات، ونتيجة الفيتو الروسي، والتواطؤ الأميركي الذي تحول، فيما بعد، إلى تآمر واضح، خدمة للمصلحة الصهيونية، ونتيجة للتشابك العرقي والطائفي الذي يميز الفسيفساء السورية.
ما بقي أن مفاوضات جنيف ومساعي الأمم المتحدة بقيادة ستيفان دي ميستورا، لحل الأزمة السورية، لن تكون “إيفيان أخرى”، كالتي أدت إلى تحقيق الاستقلال الجزائري، ذلك أن المفاوض الجزائري في إيفيان كان يفرض شروطه بوحدة الصف ولغة الرصاص على فرنسا القوة العظمى، ومن ورائها الحلف الأطلسي، بينما تجد الهيئة العليا للمفاوضات السورية المنبثقة عن مؤتمر الرياض، وعلى الرغم من أنها حققت خرقاً هائلاً في منظومة الفرقة والتشتت، نفسها واقعة تحت ضغوط التوافق الروسي الأميركي وإملاءاته، بعيداً كل البعد عن طموح الثورة والشعب، وبعيداً حتى عن رغبات النظام.
إن خمس سنوات من الفصائلية المقيتة هي التي جعلت صوت الجيش الحر اليوم نشازاً، وجعلت من علم الثورة، حتى في حواضر المعارضة نفسها أيام الهدنة، غير مرغوب فيه أمام راية جبهة النصرة، بينما ظل صوت جيش التحرير الجزائري مجلجلاً في الأوراس، وظلت رايته مقدسة، إلى أن فهم ديغول، وأقر بالهزيمة.
أما وقد أعلن الدب الروسي، أخيراً، انسحابه الجزئي من سورية، وهو نصر عظيم بكل المواصفات لهذه الثورة التي ولدت يتيمةً إلا من أهلها، إلا أن يستوعبوا دروس الثورة الجزائرية، وأن يحوّلوا الاجتماع الطارئ لكبرى الفصائل السورية (أحرار الشام الإسلامية وجيش الإسلام وفيلق الشام وفصائل في الجيش السوري الحر)، إلى مجلس عسكري موحد فعلاً لقيادة مرحلة النصر، وحينها لن يكون في وسع العالم كله إلا أن يذعن، ومعه سيدرك بشار وبوتين وخامنئي أن اللعبة قد انتهت.
دروس الثورة الجزائرية للسورية
حسّان زهار
العربي الجديد