تفجيرات بروكسل والأخطاء الخمسة القاتلة

تفجيرات بروكسل والأخطاء الخمسة القاتلة

580

يضرب الإرهاب مرة أخرى في قلب أوروبا في ظل تأهب أمني قوى من السلطات الأمنية البلجيكية. إن إدانة عمليات القتل التي تطال المدنيين في بلجيكا والتضامن مع أهالي الضحايا واجب أخلاقي لا خلاف عليه، مثله مثل إدانة القتل في أي مكان سواء في فلسطين المحتلة أو العراق أو سوريا أو مصر أو أستراليا أو تركيا.

لكن الحقيقة التي لا يريد الغربيون سماعها هي أن تصاعد الموجة الحالية للعنف جاء في أعقاب إجهاض الثورات العربية من أجل الديمقراطية وبعد اتساع الحرب السورية.

فحسب جريدة النيويورك تايمز الأميركية فقد وقع 87 هجوما مسلحا نُسب إلى تنظيم الدولة، أو لجهة تحركت بوحي من التنظيم، خلال الفترة من سبتمبر/أيلول 2014 وحتى تفجيرات بروكسيل الأخيرة في 22 مارس/آذار. من هذه الهجمات 22 في أوروبا و6 في أميركا الشمالية و2 في أستراليا، أما البقية (57 عملا) فقد تمت في دول إسلامية وخاصة في ليبيا ومصر واليمن.

“ظلت معظم الشعوب العربية تناضل سلميا منذ عقود من أجل تغيير نمط الحكم المستبد المدعوم من الغرب والشرق، واستطاعت في 2011 إسقاط أربعة رؤساء فاسدين، وكانت هذه الشعوب تتطلع إلى أن ترفع القوى الغربية الفيتو المفروض من طرفها على حق شعوب المنطقة في التحرر”

وهذا يعني أن الثمن التي تدفعه المنطقة بعد احتراقها في أعقاب إجهاض ثوراتها وتحويل نضال شعوبها من أجل الحرية والكرامة إلى حرب على ما يسمى “الإرهاب” أكبر بكثير من الثمن التي يدفعه الغرب من ألسنة الحرائق التي وصلت إليه.

لقد ظلت معظم الشعوب العربية تناضل سلميا منذ عقود من أجل تغيير نمط الحكم المستبد المدعوم من الغرب والشرق، واستطاعت في 2011 إسقاط أربعة رؤساء فاسدين، وكانت هذه الشعوب تتطلع إلى أن ترفع القوى الغربية الفيتو المفروض من طرفها على حق شعوب المنطقة في التحرر.

لكن هذا الأمر لم يتحقق، وترتب على الثورات المضادة غلق المجال العام أمام الشباب ولجوء نسبة صغيرة منهم للجماعات العنيفة، ورغم تواضع قدرات التنظيمات العنيفة في مجال التجنيد والتعبئة فإن لعملياتها العنيفة الكثير من الآثار المدمرة.

لا خلاف أن جزءا من المسؤولية تتحمله القوى المحسوبة على الثورات العربية، فقد فشلت في التكتل خلف مشروع سياسي جامع ودخلت في استقطاب سياسي مدمر وأخفقت في مواجهة خصوم الثورة في الداخل والخارج.

وكان لضيق أفق التيارات السياسية المصرية على وجه التحديد النصيب الأكبر من المسؤولية هنا نظرا لثقل التأثير المصري في المجال العام العربي. ففشل هذه التيارات وتسابقها على التحالف مع مؤسسات الدولة العميقة قبل وبعد 30 يونيو/حزيران 2013 فتح المجال لإجهاض ثورة يناير وأدى إلى الكثير من التداعيات السلبية في ليبيا وتونس واليمن وغيرها.

ولا خلاف أيضا أن هذا الفشل غذته عوامل أخرى أهمها العامل الخارجي ممثلا في القوى الإقليمية والدولية التي ساهمت في تعميق هذا الاستقطاب ثم في دعم إجهاض الثورات العربية، لكن الجزء الأكبر من المسؤولية تتحمله القوى الغربية الديمقراطية التي ترتكب في اعتقادي خمسة أخطاء قاتلة على الأقل.

الأول، الوقوف ضد الثورة السورية السلمية وعدم بذل الجهد اللازم لوقف اعتداءات النظام على الثورة بالطائرات والدبابات وترك الساحة السورية تتحول إلى حرب إقليمية ودولية.

والثاني، كان دعم الثورة المضادة في مصر والتغاضي عن كل الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها النظام منذ 3 يوليو/تموز 2013 وحتى اليوم.

والثالث، هو ما تقوم به دوائر رسمية وبحثية في الغرب من إعادة الروح لنظريات الاستثناء العربي، ووضع الإسلاميين كلهم في سلة واحدة والمساواة عمليا بين القوى الإسلامية السلمية التي تناضل من أجل التغيير والقوى العنيفة التي ترفع السلاح.

والرابع، هو الاستمرار في تسليح المنطقة بشكل جنوني، بينما الحروب تشتعل في عدة دول عربية.

والخطأ الخامس هو الاستمرار في دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي وتجاهل الحقوق المشروعة لشعب فلسطين، بل وهناك اتجاه محموم في الغرب للترويج بأن الشعوب العربية ما عادت تولي هذه القضية أية أهمية.

“أحد أخطاء الغرب هو وقوفه ضد الثورة السورية السلمية وعدم بذل الجهد اللازم لوقف اعتداءات النظام وترك الساحة السورية تتحول إلى حرب إقليمية ودولية، وثاني أخطائه هو دعم الثورة المضادة في مصر والتغاضي عن كل الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها النظام منذ الثالث من يوليو/تموز 2013 وحتى اليوم”

تداعيات هذه الأخطاء الغربية القاتلة تداعيات جسيمة، وتؤكد تحمل العواصم الغربية جزءا كبيرا من مسؤولية ألسنة النار التي تصل للأبرياء في تلك العواصم.

فالخطأ الأول أعطى قبلة الحياة للأنظمة الحاكمة في العالم العربي، فبقاء نظام الأسد وعدم محاسبته على استخدامه الأسلحة الثقيلة والكيميائية ضد شعبه أحيا الأمل في نفوس بقية الحكام المستبدين بالمنطقة بأن بإمكانهم إجهاض الثورات والنجاة من مصير بن علي ومبارك والقذافي وصالح متى استخدموا القوة المفرطة ضد شعوبهم وعلى أساس أن الجماعة الدولية لن تحاسبهم.

وكان إجهاض الثورة المصرية دليلا على نجاح الأنظمة القديمة في مساعيها في الالتفاف على مطالب الشعوب والشروع في عهد جديد في المنطقة، عهد الثورات المضادة وتوليد حكام مطلقين جدد. فبعد أسابيع قليلة من الزلزال المصري خرجت كل قوى الثورات المضادة من جحورها في ليبيا واليمن وتونس، واكتسب النظام السوري حلفاء عسكريين جددا، إقليميين ودوليين.

وحتى تنجح هذه الثورات المضادة كان لابد من وصف كل من يقاوم الثورات المضادة بالإرهاب، وكان للتيار الإسلامي نصيب الأسد من هذه المغالطات، فبعد إقصائه ومحاربته في مصر بكل الطرق وتسخير أجهزة الأمن والجيش والقضاء والإعلام في هذه المعركة، امتدت السياسة الإقصائية وصارت إقليمية وصار الإسلاميون (وكافة القوى الأخرى المحسوبة على الثورات العربية) مستهدفين في معظم الدول العربية والإسلامية من تونس وليبيا غربا إلى بنغلاديش وباكستان شرقا.

ولم يكن من المصادفة أن تلتقي هذه السياسة الإقصائية للإسلاميين مع الاتجاه السائد الآن في الأوساط الرسمية والبحثية في الغرب والذي يعيد إحياء المقولتين السابق الإشارة إليهما، والتي أثبتت دراسات عدة وممارسات عملية عدم صحتهما.

الأولى مقولة الاستثناء العربي والإسلامي، أي مقولة أن الديمقراطية لا تصلح لهذه المنطقة لأسباب ثقافية ولأنها أيضا ستوصل الإسلاميين إلى السلطة. والمقولة الثانية تساوي بين المعتدلين من الإسلاميين والمتطرفين في منطقة مثّل الدين فيها عماد نهضتها وحضارتها، ويتم فيها منذ الاستقلال تأميم الدين لصالح مشروع نظم الاستبداد والأجهزة السرية الحاكمة.

يحدث كل هذا بينما تستمر عمليات تسليح المنطقة وعسكرتها، فالسعودية حسب كثير من التقارير الدولية تتربع على عرش أكبر مستوردي السلاح في العالم، ووصلت مبيعات عام 2014 إلى 64.4 مليار دولار مقابل 56 مليارا عام 2013، أي بزيادة قدرها 13.4 بالمائة. وخلال الفترة من 2009 – 2013 كانت الإمارات رابع أكبر مستورد للأسلحة بالعالم.

أما مصر فتشهد منذ 2013 توقيع الكثير من صفقات التسليح رغم أزماتها الاقتصادية الطاحنة ورغم دعوة نظامها بقية الدول العربية إلى عقد اتفاقيات سلام مع الإسرائيليين. هذا ناهيك عن ما كشفته تقارير دولية عن أن الشركات الغربية استمرت في تصدير أسلحة قمع المتظاهرين من غاز وأجهزة تنصت وغيرها قبل وبعد الثورات العربية.

وعندما نضع حقيقة أن المقاتلات الروسية لم تستهدف أماكن تنظيم الدولة وإنما استهدفت قوى المعارضة السورية المسلحة بجوار حقيقة أن الغارات الأميركية المحدودة التي تمت في سوريا لم تُضعف قدرات هذا التنظيم وأن هناك إصرارا غربيا على دعم الأكراد ودفعهم مع قوى عربية أخرى إلى محاربة التنظيم على الأرض، عندما نضع كل هذه الأمور معا، تظهر حقيقة أن المنطقة يراد لها أن تدخل عصر الحروب المدمرة.

“إن الاستعدادات الأمنية الداخلية في الغرب لن تكون قادرة على معالجة ظاهرة العنف، ولن تنجح أي إستراتيجيات أو تشريعات لمحاربة العنف أو تغيير المناهج التعليمية طالما بقيت الحكومات العربية القائمة على العنف والاستبداد والفساد”

وفي الغرب اليوم باحثون ينظرون لتفتيت المنطقة وإعادة رسم حدودها وكأن المنطقة حديقة عامة يمكن قلع أشجارها أو إعادة رسم ممراتها أو قضم بعض أجزائها وضمها لحدائق مجاورة.

وضمن مخططات التفتيت تلك سمعنا مؤخرا وزير الحرب الإسرائيلي يعلن من واشنطن (14مارس/آذار2011) أن مشكلة المنطقة مشكلة ديمغرافية إثنية ولا علاقة للإسرائيليين بها، فالعرب -بالنسبة له- ليسوا أمة واحدة وإنما جماعات مختلفة ومتحاربة إثنيا ومذهبيا، والغرب هو من يتحمل مسؤولية حدود سايكس بيكو التي وحدّت دولا ما كان يجب أن تتوحد.

هكذا ينظر هؤلاء إلى منطقتنا التي يتحدث سكانها لغة واحدة وتدين الغالبية العظمى منها بدين واحد، وكان تنوعها الثقافي وأقلياتها الدينية مصدر قوة وثراء لها لأكثر من ألف سنة، ولم تشهد -كما شهدت مناطق أخرى حول العالم- أي عمليات تمييز أو إقصاء للأقليات إلا في ظل أنظمة الحكم المطلق المدعومة من الخارج والتي تعادي الشعوب بكافة فئاتها وطبقاتها بما في ذلك الأقليات.

إن تجفيف منابع العنف وإطفاء مصادر الحرائق أمر سياسي يحتاج إرادة قوية من سياسيي هذا الزمان في الشرق والغرب على حد سواء، إرادة سياسية تعالج جذور العنف السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل الحديث عن الأبعاد الثقافية التي ما وُجدت إلا لأسباب واقعية تتمثل في المظالم التي تعاني منها الشعوب في الدول العربية والإسلامية وعلى رأسها استبداد حكامهم وإفسادهم لشعوبهم ومجتمعاتهم من جهة، وفي اختيارات الحكومات الغربية التي تعمل منذ عقود لصالح شركاتها الكبرى والأنظمة التي تدور في فلكها على حساب مصالح وأمن الشعوب في الشرق والغرب من جهة أخرى.

إن الاستعدادات الأمنية الداخلية في الغرب لن تكون قادرة على معالجة ظاهرة العنف، ولن تنجح أي إستراتيجيات أو تشريعات لمحاربة العنف أو تغيير المناهج التعليمية طالما بقيت الحكومات العربية القائمة على العنف والاستبداد والفساد.

كما أن عسكرة المنطقة وإشعال الحروب فيها ومحاربة نضال الشعوب من أجل الكرامة والحرية والعدل لن ينتج عنه إلا زرع المزيد من الثارات وتعميق المظالم.. وحده تصحيح تلك الأخطاء الخمسة قادر على وضع أرجلنا على بداية طريق مواجهة العنف والاستبداد.

عبد الفتاح ماضي

المصدر : الجزيرة