مع تقديم رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي قائمة بأسماء المرشحين للمناصب الوزارية في حكومة التكنوقراط التي طالب بها الشارع العراقي خلال الأشهر الماضية، يكون قد أوفى بالتزاماته تجاه المحتجين والمرجعية الدينية وبعض الكتل السياسية ذات الثقل الشعبي، مثل التيار الصدري، وألقى بالمسؤولية كاملة في ملعب مجلس النواب والكتل السياسية الأخرى.
ويُتوقع أن كتلة الأحرار بقيادة رجل الدين مقتدى الصدر، الذي اعتصم مع أتباعه عند مداخل المنطقة الخضراء لعدة أيام، سوف تؤيد الأسماء التي طرحها رئيس الوزراء دون اعتراض، كما أن بعض نواب كتلته، “دولة القانون”، سيفعلون الشيء نفسه، لكن المعركة بين الكتل السياسية قد بدأت للتو، ولن تنتهي بسهولة.
الحكومة المقترحة أمام البرلمان
لقد أمهل العبادي، خلال كلمته يوم 31 مارس، البرلمان عشرة أيام لدراسة الأسماء والسير الذاتية قبل أن يتقدم بطلب نيل الثقة لحكومته الجديدة التي تضم 18 وزيراً، منهم 16 جدداً، بينما احتفظ كل من وزيري الداخلية، محمد الغبان، والدفاع، خالد العبيدي، بمنصبيهما باعتبار أن البلد يمر بظروف أمنية صعبة وتحديات عسكرية تستدعي بقاء الوزيرين الأمنيين في موقعيهما حتى تنتهي العمليات العسكرية ضد تنظيم “داعش” ويستتب الأمن نسبياً. لكن الوزيرين يمثلان كتلتين سياسيتين، هما اتحاد القوى العراقية بالنسبة لوزير الدفاع، ومنظمة بدر بالنسبة لوزير الداخلية.
وعلى الرغم من أن تبرير بقاء الوزيرين مقبول منطقياً، فإن رئيس الوزراء العبادي سيتجنب بهذا الإجراء معارضة منظمة بدر المتحالفة مع كتلته، وقدراً كبيراً من معارضة اتحاد القوى الذي سيحتفظ بوزارة الدفاع المهمة. وكان اختيار وزيري الداخلية والدفاع من أعقد المشاكل التي واجهت تشكيل الحكومات العراقية السابقة، في الأعوام 2006 و2010 و2014، وقد تأخرت تسمية الوزيرين في كل هذه الحكومات بسبب الاختلافات السياسية على المرشحين. وفي حكومة نوري المالكي الثانية في الفترة من 2010 إلى 2014، بقي المنصبان شاغرين، ويُداران بالوكالة طوال فترة الحكومة.
موقف الكتل السياسية
تخشى الكتل السياسية جميعها من غضب الشارع منها إن هي تسببت في عرقلة تشكيلة الحكومة الجديدة، ومع ذلك فإنها لا تستطيع أن تتخلى بسهولة عن ممثليها في السلطة، لأن ذلك يعني أنها ستفقد قدرتها على استقطاب المؤيدين، فالسلطة وحدها تُمكنها من دفع الأموال وتقديم الوظائف والامتيازات لأتباعها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك أمراً آخر يقلق بعض الكتل السياسية، وبالتحديد كتلة المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم، وهي المنافس الرئيسي لحزب رئيس الوزراء، حزب الدعوة الإسلامية، وهذا الأمر هو بقاء الدكتور حيدر العبادي في أهم منصب في الدولة ألا وهو رئاسة الوزراء، ما يعطيه نفوذاً أوسع وقدرة أكبر على التمدد على حساب الأحزاب السياسية الأخرى في الانتخابات المقبلة.
ومن المهم القول إن حزب الدعوة قد تمدد فعلاً منذ الانتخابات الأولى في عام 2005 وازداد تمثيله البرلماني كنتيجة مباشرة لتوليه رئاسة الوزراء التي استثمرها سياسياً لصالحه، فقد كان تمثيل الحزب بشقيه (المقر العام وتنظيم الداخل) 25 مقعداً في برلمان عام 2005، وازداد إلى 89 نائباً في عام 2010 ثم إلى 105 في عام 2014، علماً بأن عدد أعضاء البرلمان قد ازداد من 275 عضواً في عام 2005 إلى 328 عضوا حالياً.
ومع أن الكتل السياسية جميعاً تتبنى الإصلاح، على الأقل رسمياً، ولا تجرؤ على معارضة تشكيل حكومة الخبراء (التكنوقراط) التي طالب بها الشارع العراقي والمرجعية الدينية، نتيجة لفشل حكومات المحاصصة الحزبية والطائفية خلال الفترة الماضية في إدارة البلد، والتي اتسمت بالفساد والتلكؤ والتناحر، فإن هذه الكتل السياسية مازالت تبتكر الوسيلة تلو الأخرى لإيجاد دور لها في المرحلة المقبلة. فهي من ناحية، تعترض علناً على بقاء حيدر العبادي في رئاسة الوزراء، لأنه سياسي وليس تكنوقراطاً، وباعتبار البلد يتجه نحو تشكيل حكومة تكنوقراط فإن هذه التشكيلة يجب أن تشمل رئيس الوزراء أيضاً، بحيث لا يكون في الحكومة تمثيل لأي حزب. هناك بالطبع ما يبرر هذا الرأي، وهو إن كانت حكومة المحاصصة السياسية والحزبية لا تخدم البلد، فلماذا يبقى رئيسها حزبياً؟
أما الابتكار الآخر، فهو الذي طرحه رئيس كتلة المواطن عمار الحكيم، ويقضي بتشكيل مجلس للأمن الوطني مكون من زعماء الكتل السياسية أو من يمثلهم يشرف على عمل الحكومة الجديدة.
ومن الوسائل التي اتبعتها الكتل السياسية لعرقلة تشكيل الحكومة التي طرحها العبادي هي الطعن بالمرشحين الجدد للحكومة عبر اتهامهم إما بالإرهاب أو الفساد، وليس ضرورياً أن يكون الاتهام حقيقياً، بل من أجل إزاحة من أتى بهم العبادي والإتيان بآخرين لا يوالونه على الأقل.
ومن الطرق الأخرى لإشاعة الفوضى وربما تثبيط عزائم الوزراء الجدد هي إطلاق الشائعات بأن بعضهم انسحب من الترشح للمناصب الجديدة، وقد حدث هذا الأمر مع مرشح وزارة النفط، نزار سليم، ووزارة المالية، علي علاوي، ما اضطر الرجلين لتكذيب خبر انسحابهما.
تقييم التشكيلة المقترحة
تضم التشكيلة الوزارية التي طرحها حيدر العبادي أسماء لامعة في مجال اختصاصها، مثل الدكتور حسن الجنابي الخبير الدولي في الموارد المائية والأغذية والزراعة، والذي عمل لسنوات عديدة سفيراً في وكالة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة بالإضافة إلى مؤسسات غربية، والأكاديمي والكاتب علي علاوي، الخبير الدولي في الشؤون الاقتصادية والمالية، والذي شغل مناصب وزراء المالية والتجارة والدفاع سابقاً، وكذلك مرشح وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الدكتور عبدالرزاق العيسى، الذي عمل في التعليم العالي طول حياته، خصوصاً ترؤسه جامعة الكوفة التي اعتبرت من أنجح الجامعات العراقية والعربية في ظل رئاسته.
ومع ذلك، فإن التشكيلة تضم أسماء لم يُعرف عنها لا الاختصاص ولا العمل في المجال الذي أُنيط بها، مثل الشريف علي بن الحسين الذي رُشح لشغل منصب وزير الخارجية. وثمة اعتراضات كثيرة على ترشيحه من أطراف سياسية وشعبية، خصوصاً “اتحاد القوى العراقية” ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب التي أصدرت بياناً أعلنت فيه بأنه لا يصلح للمنصب.
وعلى الرغم من أن “الشريف علي” معروف في الأوساط العربية باعتباره ابن خالة ملك العراق الراحل فيصل الثاني، وهو ربما مقبول عربياً بسبب علاقاته العائلية، ودولياً كونه يتحدث الإنجليزية بطلاقة باعتبارها لغته الأساسية، بيد أن حكومة التكنوقراط تعني ترشيح الخبراء من غير السياسيين، وهذان الشرطان لا يتوفران في “الشريف”، فهو ليس خبيراً في الشؤون الخارجية، بالإضافة إلى كونه يتزعم حركة سياسية هي الحركة الملكية الدستورية التي تطالب بعودة الملكية إلى العراق، وكانت جزءاً من دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وقبلها جزءاً من المؤتمر الوطني العراقي بزعامة الراحل أحمد الجلبي.
ومن الاعتراضات على التشكيلة الجديدة أن مكتب العبادي قد اختارها دون التشاور مع الكتل السياسية الأخرى، وهذا الاعتراض قدمته كتلة “اتحاد القوى” السنية بزعامة أسامة النجيفي، والذي يصر على تمثيل في الحكومة الجديدة لا يقل عن الثُلث، كي يعكس نسبة السكان الذين يمثلهم. أيضاً الكتل الكردستانية تعترض على أصل العملية على الرغم أنها لا تعارض الإصلاح مبدئياً، لكنها تصر على الإبقاء على حصتها في الحكومة التي تُقدرها بـ 20%، وتعتبر أن من يختارهم رئيس الوزراء ليمثلوا الكرد في الحكومة الجديدة لن يمثلوها إلا إذا جاءت الترشيحات عن طريقها.
ويبدو أن الكتل الكردستانية لديها أهداف أخرى أكثر أهمية من نسبة المشاركة في الحكومة الاتحادية، وهي اقتسام الموارد بين المركز والإقليم، والاتفاق على حصة الإقليم من النفط المُصدر، وما إلى ذلك من قضايا اقتصادية تعتبرها أكثر أهمية. وبالتالي، إذا توصَّلَ العبادي إلى اتفاق مع الأكراد يُرضي بعض مطالبهم حول هذه القضايا، فإنه بالإمكان التوصُّل إلى مرشحين مقبولين لدى الطرفين. وكان العبادي قد اختار مرشحين كرديين هما وزير النفط، نزار سليم، ووزير الإعمار والإسكان والبلديات، هوشيار أمين رسول.
كما تعارض كتلة “الوطنية” برئاسة الدكتور إياد علاوي الطريقة التي اُختيرت بها الأسماء على الرغم من أنها لم تعترض على أي من الأسماء، بل ربما تؤيد معظمها خصوصاً الوزيرين علي علاوي وحسن الجنابي، إلا أن الكتلة ترى أن التغيير يجب أن يشمل رئيس الوزراء أيضاً، لأنه يمثل كتلة سياسية معينة، وأن حكومة التكنوقراط يجب أن تشمل رئيس الوزراء.
ومن المشاكل الأخرى التي تواجه الحكومة المقترحة أن خمس وزارات قد دُمِجت مع وزارت أخرى، وهي وزارات الموارد المائية التي دُمِجت مع وزارة الزراعة، والهجرة والمهجرين التي دُمِجت مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، والاتصالات التي دُمِجت مع وزارة النقل، والتخطيط مع وزارة المالية، وأخيراً وزارة الشباب والرياضة التي دُمِجت مع الثقافة والسياحة والآثار.
والمشكلة هنا أن هذه الوزارات مازالت قائمة في القانون ولا يمكن دمجُها إلا بعد تغيير القانون عبر مجلس النواب، لذلك فإنها ستبقى وزارات مستقلة تُدار بالوكالة من قِبل وزراء الوزارات المقترح دمجُها معها. وثمة معارضة لهذا الدمج أصلاً، لأنه لم يحدث نتيجة لمشاورات بين الكتل السياسية، وإنما عبر قرار اتخذه مكتب رئيس الوزراء.
التوقعات بشأن حكومة العبادي
يُتوقع أن الأسماء التي اقترحها العبادي للحكومة الجديدة لن تمرر بالكامل على الرغم من أن ثمة اتفاقاً على بعض الأسماء مثل وزيري الزراعة والمالية، وأن الكتل السياسية سوف تماطل كثيراً من أجل وضع مرشحيها ضمن الحكومة المقبلة. لذلك فإن فترة العشرة أيام قد لا تكون كافية لحسم هذه الخلافات العميقة التي قد تحتاج إلى فترة أطول لحسمها، بل أن بعضها لا يمكن حسمه أصلاً، ولكن ربما يمكن التوصل إلى تنازلات مشتركة.
والكتلة السياسية الوحيدة التي أعلنت أنها لن تشترك في هذه الحكومة هي كتلة الأحرار بقيادة مقتدى الصدر، وهي الوحيدة التي انسجم خطابها مع ممارساتها، وهذا في الحقيقة سيزيد شعبيتها في الانتخابات المقبلة خصوصاً أن المشاركة في الحكومة الحالية لن تأتي بنفع عليها مع شح الموارد وتراكم الأزمات والديون وازدحام المشاكل واشتداد التحديات الأمنية وغيرها. ومن ثم، ستبقى الكتلة الصدرية، أو الأحرار، خارج السلطة تراقب أداءها وتنتقد سلبياتها، بينما لن يُحملَها أحد أياً من هذه السلبيات.
ختاماً، لقد بات من شبه المؤكد أنه لا خيار أمام الكتل السياسية العراقية سوى المُضي قُدماً في تغيير الحكومة الذي طالب به الشعب والمرجعية الدينية وبعض الكتل السياسية التي لها شعبية في الشارع، بيد أنها ستسعى إلى تقليص خسارتها عبر استبدال بعض الأسماء التي قدمها رئيس الوزراء وتقديم مرشحين تكنوقراط ربما سيستجيبون لمصالحها بالإبقاء على ممثليها في الوزارات، من وكلاء ومستشارين ومديرين عامين، وكذلك عدم اتخاذ مواقف يمكن أن تؤثر على مصالحها وتقلص حجم نفوذها وشعبيتها.
وفي كل الأحوال، فإن حكومة التكنوقراط المقبلة، مهما كان شكلها، سوف تُلاقي صعوبات جمة من نواحٍ عدة، أولاها شح الموارد المالية المطلوبة لإجراء الإصلاح الاقتصادي المنشود، وثانيها وربما أهمها هو عدم تعاون الكتل السياسية معها ومحاولة إفشالها كي تعود إلى الحكم مرة أخرى بعد الانتخابات المقبلة. أما المعضلة الأخرى، فهي عدم كفاءة الكثير من الكوادر القيادية في المؤسسات والوزارات العراقية ممن عُينوا في مواقعهم لأسباب سياسية بحتة، وهؤلاء سوف يقاومون الإصلاح خصوصاً أنه يستهدفهم.
حميد الكفائي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة