انتقدت في المقالات الأربعة السابقة في «الاتحاد» بعض أفكار وتداعيات مبدأ الرئيس أوباما، وما يعنيه، وكيف قرأه حلفاء أميركا في المنطقة وخارجها، وكيف فسره أيضاً خصومها وأعداؤها؟ وأشرت بشكل خاص إلى ما عناه لجهة الاستقالة الطوعية من الزعامة، والإيحاء بتراجع أهمية واستراتيجية المنطقة بالنسبة لمصالح أميركا الجوهرية، هذا فضلاً عن تفضيل استراتيجية عدم التدخل فيها على خيار التدخل. وكذلك وصْف بعض حلفاء أميركا من الخليج إلى أوروبا بأنهم «راكبون بالمجان»، ودعوة أوباما لتعويم إيران التي تستمر في تنفيذ مشروع لا يخدم الأمن والاستقرار الإقليمي، بل يكرس عدم الاستقرار كما اتهمها بذلك كيري في زيارته الأسبوع الماضي للمنطقة واجتماعه مع وزراء الخارجية الخليجيين. ومع ذلك يطالبنا رئيسه بتقاسم النفوذ على المنطقة مع طهران! فما هذا التناقض؟ وكيف تتهم إدارة أوباما إيران بزعزعة الأمن والاستقرار في منطقتنا ثم تطلب منا المشاركة في تقاسم النفوذ؟ بل إن أوباما أفاض في شرح مبدئه في المقابلة التي أجراها مع مجلة «ذي أتلانتك» حيث اعتبر أن على الدول الخليجية الانتقال من حالة «الحرب الباردة»، إلى «السلام البارد»! نعم هكذا في تسطيح كلي للوضع!
وقد بات ملفتاً كيف يُسمعنا أوباما وقيادات إدارته، عندما يلتقون المسؤولين الخليجيين، ما يريحنا، وينتفي ذلك عندما تكون اللقاءات مع المسؤولين الإيرانيين، وخاصة وزير الخارجية الإيراني محمد ظريف، عن دور إيران في تناقض بات نهجاً يزيد التشكيك في سياسة ورؤية واشنطن لطهران. وفي الوقت الذي أكد فيه وزير خارجية السعودية عادل الجبير، في لقاء وزراء خارجية دول المجلس مع كيري في المنامة، على الشراكة الخليجية- الأميركية، ورفض التدخلات الإيرانية في شؤون دول الخليج واليمن وغيرها، اكتفى كيري باتهام إيران بزعزعة الأمن وحثها على لعب دور في إنهاء الصراع في سوريا واليمن! نعم الولايات المتحدة تكتفي بحث إيران، وليس الضغط والتهديد والتلويح بفرض عقوبات بسبب سياسات طهران وتدخلها في شؤون الغير وتجاربها الصاروخية! طبعاً تناسى كيري ورئيسة أوباما تكرار ما كان لازمة في الطرح الأميركي، بانتقاد سجل طهران السيئ في مجال حقوق الإنسان، وكيف أصحبت إيران الدولة الأولى في الإعدامات شنقاً على مستوى العالم بالنسبة لعدد السكان، حيث تجاوزت الألف في العام الماضي.
واليوم في الذكرى الثالثة عشرة لسقوط بغداد وهزيمة نظام صدام حسين على يد الولايات المتحدة، تبدو المنطقة في حالة سيولة من الفوضى، وتردي الأوضاع وغياب توازن الرعب، ما عزز الخلل في توازن القوى، ولذلك وبعد التيقن أن مقاربة إدارة أوباما، عبر مبدئه المتراجع والمنكفئ، لا تطمئن الحلفاء، بات لزاماً على دول المنطقة، المتضررة من مبدأ أوباما، التعويل على قدراتها الذاتية وتطوير مبدأ يعوض ذلك التراجع ويغير من طبيعة العلاقة غير المتكافئة والتي عوّلت لربع قرن على الأقل منذ تحرير الكويت على قدرات أمنية ودفاعية خاصة، ما يعزز ذاتية القرار واستقلاليته عن الحليف والراعي الأميركي. وهذا يشكل تغيراً استراتيجياً، بالالتفاف حول مبدأ ما أسمّيه -وما بدأ يبرز في كتابات الباحثين الخليجيين وخاصة السعوديين- بـ«مبدأ الملك سلمان»، بأبعاده السياسية والعسكرية والأمنية من عاصفة الحزم وإعادة الأمل في اليمن، والتحالف الإسلامي العسكري ومناورات «رعد الشمال»، إلى إقامة قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي ووجود مقاتلات وقوات خاصة في تركيا، وتقارب مع مصر، وتحولات اقتصادية لمواجهة تحديات المستقبل في عهد ما بعد النفط! وهذه التحولات المهمة ضمن مكونات مبدأ الملك سلمان، تعزز مكانة ودور وحضور السعودية، وتعزز أيضاً أمن الحلفاء في المنطقة، لتشمل للمرة الأولى البعدين العربي والإسلامي، وتشكل بديلًا استراتيجياً يعوض التراجع الأميركي، وسياسة رفع اليد عن المنطقة وأزماتها، وتحول التحالفات، وزيادة وتيرة التهديدات الإقليمية، وفي المشهد الدولي بصفة عامة.
وحتى مشاركة الرئيس أوباما في القمة الخليجية التشاورية في 21 أبريل الجاري ولقاؤه مع قادة دول المجلس في أول مشاركة لرئيس أميركي في قمة خليجية، لن يطمئننا إلى التزامات إدارته بأمن المنطقة والتطمينات التي تعهد بها لقادة دول المجلس في قمة كامب ديفيد، في مايو الماضي. وكذلك انعقاد المجلس الأميركي الخليجي لوزراء الدفاع، قبل يوم من بدء القمة الخليجية التشاورية، في محاولة من واشنطن للإيحاء بالتزامها تجاه أمن حلفائها الخليجيين ودعم دفاعات الخليج وتعزيز العمل ضد تنظيم «داعش». ولكن يجري ذلك كله في ظل تراجع ثقة حلفاء واشنطن في التزامها بأمنهم، والتناقض الواضح بين أقوالها وتطميناتها وبين أفعالها. وتراجع سقف التوقعات في المنطقة وصار أقصى ما يمكن توقعه من مشاركة أوباما في القمة التشاورية تقديم خريطة طريق متواضعة تركز على معاملة متساوية للحلفاء الخليجيين وإيران، وعدم ارتكاب المزيد من التجاوزات، والوفاء بالتزامات أوباما بدعم الحلفاء الخليجيين بتسهيل صفقات المقاتلات لبعض دول الخليج التي عطلتها إدارته لحوالي عامي، حسب اتهامات قيادات في الكونجرس الأميركي.
ولكل هذا فإن مبدأ الملك سلمان بجرأته وتصميمه على أن يكون البديل العملي للفشل والتراجع الأميركي، وخاصة في العمل على بلورة نواة مشروع إقليمي عربي يردع ويوازن المشاريع الأخرى من الدول وخاصة إيران، ومن دول وغير الدول كالتنظيمات الإرهابية بغض النظر عن مذهبها، يشكل يكون الترياق المطلوب لتعزيز الأمن والاستقرار، يشكل نواة مشروع عربي يتصدى لمن يزعزع الأمن والاستقرار، وفي ذلك تحول استراتيجي ونقلة نوعية غير مسبوقة لنظام يحتاج توازن رعب لتعزيز الاستقرار لا توفره إدارة أوباما وربما الإدارات الأميركية القادمة!
د. عبدالله خليفة الشايجي
جريدة الاتحاد