الدولة الوطنية العربية، أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تحقيق التقدم وفرض نفسها ضمن معادلات النظام العالمي بل أضحت غير قادرة على حماية وجودها والتصدي لمحاولات إعادة تقسيمها
ستة عقود تعتبر كافية، بكل المقاييس، لتحديد موقف حاسم وصارم من مستقبل جامعة الدول العربية، خصوصاً بعد كل هذه التداعيات التي أفرزتها موجة الثورات والانتفاضات العربية والظهور القوي للإرهاب، إضافة إلى عمق الاختراق الخارجي الدولي والإقليمي للنظام العربي الذي صاحب هذه التطورات.
ثلاثة متغيرات شديدة الأهمية والخطورة نالت كثيراً ليس فقط من مكانة جامعة الدول العربية وقدرتها على الفعل وتحقيق الأهداف، بل نالت أكثر من النظام العربي ومن الدولة الوطنية العربية. فقد أضحى النظام العربي مهدداً بدعوة التفكيك وإحلال نظم إقليمية أخرى بديلة تعكس طموحات الأطراف الدولية والإقليمية ومعها دعوة المنظمات الإرهابية التكفيرية لتأسيس «خلافة إسلامية»، وباتت الدولة الوطنية العربية مهددة بالتفتيت وإعادة التقسيم، ومواجهة دعوات فرض اتفاقية «سايكس – بيكو» جديدة.
هذه الأحداث كشفت، في مجملها، وبالذات ما يواجه العديد من الدول العربية من أزمات وعجز النظام العربي عن أي فعل إنقاذي للواقع العربي المتداعي عن خمس حقائق مهمة:
أول هذه الحقائق، أن الدولة الوطنية العربية، أثبتت أنها ليست فقط عاجزة عن تحقيق التقدم وفرض نفسها ضمن معادلات النظام العالمي كشريك في الإنتاج ومن ثم كشريك في القرار، بل أضحت غير قادرة على حماية وجودها والتصدي لمحاولات إعادة تقسيمها.
ثاني هذه الحقائق، أن هذه الدولة الوطنية لم تستطع بتحالفاتها الدولية، سواء كانت مع الغرب الرأسمالي بقيادته الأمريكية، أو مع الشرق السوفييتي السابق وما بعده، أو بتحالفاتها الإقليمية مع تركيا أو مع باكستان أو إيران، أن تحقق أهداف الاستقرار والتماسك السياسي أو تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والمكانة الإقليمية والدولية. لقد كانت هذه التحالفات أدوات للتغلغل وفرض التبعية ونهب الثروات وقضم الأراضي، وفرض الاستعلاء والاستكبار سواء كان عالمياً أو إقليمياً.
ثالث هذه الحقائق، أن مشروع «الإسلام السياسي»، بشتى تلاوينه سواء كان إخوانياً، أو كان جهادياً سلفياً تحول إلى التكفير (داعش والقاعدة وتفريعاتهما)، أو كان شيعياً طائفياً ممتد الولاء نحو طهران وولاية الفقيه، لم يحفظ للدولة الوطنية تماسكها الاجتماعي والسياسي، وكان أحد أهم أسباب وأدوات إعادة التفتيت والتقسيم وتهديد الوجود الوطني لهذه الدول، فضلاً عن أنه أخذ يهدد هويتها الحضارية القومية العربية، ويضرب نظامها العربي في العمق بطرح مشروعات الخلافة الإسلامية متباينة الرؤى.
رابع هذه الحقائق، أن العروبة والمشروع القومى العربي، هما الضمان الأهم، وربما الوحيد، لبقاء وجود الدولة الوطنية العربية ذاته، لكن العروبة، كهوية، والمشروع القومي العربي كمرتكز لن يستطيعا تحقيق ذلك من دون ربط شرط الوحدة، كأساس جوهري للمشروع، بشروط التقدم الحضاري والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كما أن امتلاك هذه الشروط لا يكفي أيضاً لتحقيق الأهداف دون مواجهة مصادر تغذية الدعوة التقسيمية لدولنا العربية.
هناك ثلاثة مصادر تغذي وتدفع بمخططات إعادة التقسيم والتفتيت للدول العربية وتفكيك النظام العربي وانفراطه. أول هذه المصادر هو المخططات الاستعمارية الغربية المندمجة مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني التي تربط بين نجاح فرض السيطرة الغربية على وطننا العربي بالإمعان في تقسيمه وتجزئته وفرض الدولة اليهودية في فلسطين كأهم أدوات ذلك التقسيم وتلك السيطرة، وهو المشروع الذي أخذ يتجدد في السنوات الأخيرة عبر مسميات متعددة ودعاوى لإطلاق الصراعات العرقية والطائفية في الدول العربية، ويعبر عن نفسه الآن بدعوة الفيدراليات في سوريا والعراق كمقدمة لتجديد مشروع إعادة التقسيم.
ثاني هذه المصادر، هو الدولة التسلطية العربية المستبدة والفاشلة والعاجزة التي أجهضت فرص التقدم وهددت التماسك الوطني والاجتماعي، وكانت أهم وسائل الانخراط العربي في التبعية للغرب، وهي التي أدت بسياساتها تلك، إلى اضمحلال قدرات الدول العربية وتحولها إلى دول فاشلة وعاجزة وقابلة للانفراط.
ثالث هذه المصادر هو تيارات الإسلام الجهادي التكفيرية، التي وجدت فرصتها سانحة مع اندلاع مشروع الثورات والانتفاضات وانقضت على حلفائها التقليديين من نظم الحكم التسلطية والمستبدة، وانطلقت لفرض مشروع «الخلافة الإسلامية» بإعطاء الأولوية لإسقاط الدول وأنظمة الحكم القائمة، وتفجير المجتمعات من الداخل بتكفيرها سعياً وراء إقامة دولة «الخلافة الإسلامية».
أما الحقيقة الرابعة فهي أن جامعة الدول العربية، باعتبارها المنظمة الإقليمية للنظام العربي باتت أمام خيار واحد هو خيار التطوير واكتساب الفعالية اللازمة لإنجاز المشروع القومي العربي الذي أضحى الخيار الوحيد لخروج الأزمة العربية من نفق التردي إلى رحابة المستقبل القادر على تحقيق الآمال.
تطوير وتفعيل دور الجامعة هو الخيار الوحيد لأن البديل هو خيار التفكيك، تفكيك النظام العربي وقبله تفتيت وإعادة تقسيم الدول العربية وليس تفكيك جامعة الدول العربية وإنهاء دورها. وهذه الحقيقة تعتبر رداً على الاتجاه الذي لا يرى أملاً يرتجى من أي إصلاح أو تطوير أو تفعيل لجامعة الدول العربية ودورها لسبب أساسي هو أنها عجزت على مدى ستة عقود كاملة من اكتساب أي صفة من صفات الفعالية.
هذه الحقائق تؤكد أن المشروع العربي أضحى هو الحل للخروج من «النفق المظلم» وتفرض صياغة استراتيجية عربية شاملة لمواجهة المخاطر التي تواجه الأمة ابتداءً من التصدي لمخططات التفتيت وإعادة تقسيم الدول العربية ومخططات تفكيك النظام العربي واستبداله بنظم أخرى بديلة سواء كانت «أمريكية- صهيونية» على غرار «الشرق الأوسط الكبير» أو «الشرق الأوسط الجديد» أو كانت سلفية تكفيرية تسعى إلى هدم الدول والمجتمعات وتكفيرها تحت دعوة إقامة «خلافة إسلامية»، وامتداداً لتحقيق الأهداف العليا للأمة في الوحدة والتقدم السياسي والاقتصادي وتحقيق العدل الاجتماعي والديمقراطية.
إنجاز وتحقيق هذه الاستراتيجية والانتقال بها من الإطار النظري إلى الإطار العملي والفعلي في حاجة إلى العديد من الآليات في مقدمتها تطوير جامعة الدول العربية وتفعيل دورها لتكون الوعاء القادر على قيادة وإنجاز تلك الاستراتيجية العربية الشاملة.
أما بالنسبة لمواجهة التحديات فإننا نعني بها قدرة الجامعة على جودة توظيف منهاجية التحدي والاستجابة، أي القدرة العالية في الاستجابة للتحديات ومواجهتها، وهذا يقودنا إلى إحدى الصفات المهمة التي يجب أن تكتسبها الجامعة للقيام بهذا الدور وهو امتلاك القدرة على التكيف، سواء في الاستجابة للمطالب والتحديات المتجددة، أو امتلاك القدرات اللازمة للقيام بالأدوار المطلوبة للتصدي للتحديات.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج