رئيس الوزراء التركي د./ أحمد داود أوغلو واحد من أهم المفكرين الاستراتيجيين على مستوى العالم كتابة وتنظيرا، وقد اتّضح عمق أفكاره في كتابه الأشهر “العمق الاستراتيجي” الذي قدّم فيه رؤيته الهامة لبناء سياسية خارجية جديدة للدولة التركية تتجاوز موروثات الماضي تزامنا مع الدور الجديد الذي بدأت تشغله تركيا مطلع هذا القرن مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة.
وقد تهيأ لداود أوغلو اختبار أفكاره وأطروحاته من خلال عمله مستشارا في حزب العدالة والتنمية ثم وزيرا للخارجية فرئيسا للوزراء وهي ميزة لم تجتمع إلا لقلائل (هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق مثال)، وهذا ما يمنحها أهمية بالغة ويكسبها حيوية من خلال إخضاعها للنقاش في ضوء المتغيرات الدولية والإقليمية التي أثرت فيها.
وما يهمنا هنا هو كيف نظر إلى طبيعة العلاقات التركية – العربية ؟
بداية يعتبر داود أوغلو ارتباط تركيا بمنطقة الشرق الأوسط بمثابة ارتباط الظفر باللحم نظرا لعمق الروابط التاريخية والجغرافية بين الطرفين، لذا يحذِّر بشدة من خطورة ابتعاد تركيا عن الشرق الأوسط ومشكلاته والتي قد تمنح الفرصة لأطراف أخرى للتدخل بما يضر بمصالح الأناضول، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك إذ رهن بقاء تركيا كدولة ووطن وأمة بالأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط، وهو ما يفسر لنا اقتحام تركيا لمشاكل المنطقة بقوة خاصة عقب الربيع العربي، ولنا أن نتخيل التحديات المخيفة على الأصعدة السياسية والثقافية والإنسانية والمذهبية التي كانت ستواجه المنطقة حال اختارت تركيا الانكفاء على نفسها داخل حدود الأناضول والاكتفاء بدور المتفرج.
ولكن ما هي السياسة المثلى التي يمكن لتركيا انتهاجها في الشرق الأوسط؟ بعد أن يعدد داود أوغلو السياسات المتاحة لتركيا للتعامل مع المنطقة، ينحاز بشكل واضح إلى سياسة النظر إلى المنطقة عبر مقاربة تركية خالصة مركزها أنقرة وليس عبر تطوير سياسات متناغمة مع سياسات معسكر دولي ما.
من هنا فإن داود أوغلو بنى رؤيته لسياسة تركيا تجاه الشرق الأوسط على أربعة مبادىء:
المبدأ الأول: إحلال الأمن وكفالته لكل شخص دون تمييز بين مجموعة وأخرى، والمبدأ الثاني: الارتقاء بمستوى الحوار السياسي إلى أعلى مستوى، والمتتبع لمجمل سياسات تركيا تجاه منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، يجد أنها بذلت جهودا كبيرة لتدعيم الحوار مع الحكومات والمنظمات والتجمعات، حيث حاولت معالجة سلبيات عقود طويلة أعطت فيها تركيا ظهرها لمنطقة الشرق الأوسط ما أدى إلى عزلة نفسية صنعت جدارا فاصلا بين الطرفين.
أما المبدأ الثالث: فهو الترابط الاقتصادي المتبادل الذي من شأنه أن يحقق التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة. وفي ضوء هذا المبدأ يمكننا قراءة السعي التركي الدؤوب منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم من أجل بناء شراكة اقتصادية حقيقية مع الدول العربية بما يعود بالنفع المتبادل على كلا الجانبين، كما يمكن من خلاله قراءة الزيارة الأخيرة التي قام رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان إلى دولة قطر والتي شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الهامة خاصة في مجال الطاقة.
كما أن انفتاح أنقرة على منطقة الشرق الأوسط أدى إلى ازدياد معدلات الاستثمار العربي في تركيا خاصة في مجال العقارات.
أما المبدأ الرابع: فهو التعددية الثقافية إذ ترى تركيا أن الحفاظ على التعددية العرقية والمذهبية شرط أوليّ لاستقرار المنطقة، هذه العناية الفائقة من داود أوغلو بالتعددية يمكننا إرجاع سببها إلى الموروث العثماني الكامن في وعيه ؛إذ من المعروف أن الدولة العثمانية استطاعت إدارة ملف التعددية في امبراطوريتها المترامية الأطراف بعناية ومهارة فائقتين، وتمكّنت من الحفاظ على التوازن داخل مجتمعها الواسع الذي كان يموج بالأقليات العرقية والمذهبية من خلال نظام “المِلل”، وما الفوضى التي تضرب الدول العربية الآن بعنف على وقع الاحتراب المذهبي والعرقي والآيديولوجي إلا أثر من آثار غياب القوة الضابطة لحركة المجتمع وتفاعلاته بعد سقوط الدولة العثمانية، وفشل الدولة القومية في القيام بهذا الدور لأسباب عدة يأتي في مقدمتها اعتمادها النموذج السلطوي الاستبدادي في الحكم، ما أدى إلى ظهور الصراع السني – الشيعي، والكردي – العربي، والعلماني – الإسلامي… إلخ، فالاستبداد المصاحب للدولة القومية الحديثة ألغى فكرة التعايش المشترك وأحل مكانها سياسة الإقصاء العنيف التي استباحت حياة الآخر نزولا إلى حريته وماله وعرضه وضاقت ذرعاً بأفكاره حتى ولو جعلها حبيسة عقله ووجدانه، فمحاكم التفتيش جاهزة لانتزاع مكنون النفس ودواخلها.
كان داود أوغلو إذن يستشف المستقبل وهو يتحدث عن “التعددية” وأهميتها قبل سنوات من تفسّخ المجتمعات العربية تحت وطأة صراع الثنائيات الذي أشرنا إليه.
وهكذا فإن داود أوغلو وفي ظل رئاسته للوزراء بعد حوالي ست سنوات قضاها كوزير للخارجية من المتوقع أن يعمل على تدعيم رؤيته للعلاقات التركية – العربية والبناء على ما تم إنجازه في ظل حالة سيولة غير مسبوقة تشهدها المنطقة والتي تحولت إلى منطقة تتصارع فيها الدول الكبرى والتي من مصلحتها تقليص التواجد التركي في المنطقة، وحبسه داخل الأناضول مرة أخرى.
سمير العركي
تركيا بوست