تغيرات كبرى على خريطة صناعة القوة، في العالم. وحين تتغير توازنات القوة، فإن ميزان هذا التغير، يعبر عن نفسه في مجال السياسة. بدا واضحاً منذ مطالع هذا القرن، أن الولايات المتحدة، فقدت كثيراً من نفوذها الاقتصادي، في القارات الثلاث، وأن التنين الصيني، أخذ يحتل مواقع عديدة لليانكي، على مستوى قارات العالم أجمع. بل إن نفوذه الاقتصادي، صار واضحاً أكثر داخل الولايات المتحدة ذاتها، من خلال شرائه المكثف للسندات الأمريكية، وسيطرته المتصاعدة على مؤسسات التصنيع والتجارة.
عام 2003، عجزت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش عن استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يبيح لها احتلال العراق. وكان التهديد الواضح باستخدام الفيتو قد جاء من حليفها، وشريكها بحلف الناتو، الحكومة الفرنسية. واضطرت إدارة بوش، إلى الدخول في مغامرة احتلال أرض السواد، من غير تفويض أممي.
وعلى صعيد آخر، برزت روسيا بوتين عسكرياً وبقوة، واستثمرت تداعيات الأزمة السورية، للعودة مجدداً للمسرح الدولي. وقبل ذلك تمكنت من ترتيب أوضاعها في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وأقدمت على استعادة شبه جزيرة القرم.
وخلال الحقبة ذاتها، تعززت النزعات الاستقلالية، بأمريكا اللاتينية، وبرزت منذ أكثر من عقد، أنظمة سياسية جديدة، في أمريكا اللاتينية، في البرازيل وفنزويلا وبوليفيا، وعدد آخر من بلدان الجنوب الأمريكي، وإن بنسب مختلفة. ونشأت منظمات إقليمية لتعبر عن تنامي النزعات الاستقلالية، في الحديقة الجنوبية للولايات المتحدة.
وبالمثل، خرجت الهند من عزلتها الاقتصادية، وبدأت تبرز كقوة مستقبلية يحسب حسابها. كما برزت إندونيسيا كقوة اقتصادية صاعدة. وتأسست منظومات اقتصادية وسياسية جديدة، للتعبير عن الواقع العالمي الجديد، فبرزت منظومة البريكس وشنغهاي. وكلها مؤشرات على أن اليانكي الأمريكي لم يعد صانع القرار الأوحد، وأن هناك قوى جديدة تعمل جاهدة على تآكل حصصه.
خلال الأحادية القطبية، لم تعد توجد مساحة لترصين العلاقات الدولية، بلغت الفوضى الخلاقة أعلى مراحلها، صودرت هويات وأوطان وانتهكت أعراض، واشتعلت حروب أهلية، وبات القتل للقتل، وحروب الإبادة، وتهجير الملايين من أوطانهم، من أبجديات مرحلة التفرد بصناعة القرارات الأممية. وكان نصيبنا من ذلك، هو حصة الأسد.
ولحسن طالع البشرية جمعاء، فإن عمر تلك المرحلة، في التاريخ الإنساني قصير جداً، لم يتعد ربع قرن من الزمن. واليوم، هناك تسليم أمريكي، وكوني بأن مرحلة جديدة قد بدأت، على قاعدة التعددية القطبية. لقد بدا واضحاً، وجود سياسة روسية طموحة، تملك جرأة في التعامل مع الأزمات الدولية، يقابلها، انكفاء أمريكي، وغموض متعمد تجاه التعامل مع الإرهاب.
يؤكد صحة ذلك، الموقف الأمريكي المتردد، من تواجد الجماعات الإرهابية في العراق، بالأيام الأولى لاحتلال محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وبعقوبة، رغم أن الإدارة الأمريكية، مسؤولة بموجب القانون الدولي، عن صيانة أمن العراق واستقلاله. فقد أقدمت على احتلاله بالقوة العسكرية، ولم تهيئ لمرحلة ما بعد الاحتلال مستلزماتها. يضاف إلى ذلك، أن العراق لا يزال مقيداً باتفاقيات أمنية، مع الولايات المتحدة تنتقص من استقلاله، وتضع أمريكا في موقع المسؤولية، بموجب القانون الدولي، عن ضمان الأمن فيه.
خلق التدخل العسكري الروسي، في سوريا حقائق جديدة. فمن جهة ساد شعور بالخيبة، لدى الذين ارتبطوا بالعملية السياسية العراقية، تجاه التردد الأمريكي، في مواجهة «داعش». وجاء تكرار إسقاط شحنات من السلاح والذخيرة، عن طريق الخطأ من قبل الطيران الأمريكي، في المناطق التي يسيطر عليها هذا التنظيم، ليطرح علامات استفهام كثيرة، تدور حول حقيقة الموقف الأمريكي من محاربة الإرهاب. ومن جهة أخرى، يدرك العراقيون أن الحرب على «داعش»، لا يمكن أن تكتمل إن اقتصرت على سوريا، فالساحة بين البلدين مفتوحة ولا يمكن ضبطها، وإن القضاء على الإرهاب، يقتضي تنسيقاً متكاملاً على الجبهتين العراقية والسورية.
وعلى الصعيد السياسي، بدا للأمريكيين والروس أن لا مناص للقضاء على الإرهاب، من التنسيق بين الإدارتين، وأن ذلك لن يكون ممكناً قبل الاتفاق على خطة طريق التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، ذلك أن البديل عنها هو استمرار الصراع، واحتمالات تدهور الأوضاع، إلى ما يشعل المواجهة بين صناع القرار الكبار.
وعلى هذا الأساس، عقد مؤتمر جنيف واحد واثنين وثلاثة. وحدثت اجتماعات للمعارضة في الرياض والقاهرة وفيينا وموسكو. ورغم أنه لا يبدو في الأفق حتى هذه اللحظة قرب التوصل، إلى تسوية للأزمة، فإن القطار قد بدأ رحلته، ولن يتوقف قبل الوصول إلى محطة التسوية.
يبدو أن الأزمة معقدة ومتشابكة. فمن جهة هناك الإرهاب، الذي تمكن من الأرض السورية. ويصعب على المرء تصور انتقال سياسي حقيقي في سوريا، في ظل سيطرة «داعش» وجبهة النصرة، على أراض واسعة من هذه البلاد. ومن جهة أخرى، فإن المعارضة تحمل تلاوين تتراوح من أقصى اليمين، حيث يطالب بعضها بخلافة إسلامية، إلى أقصى اليسار، حيث يطالب بدولة علمانية، وبينهما تستخدم جماعات أخرى، عبارة الدولة المدنية، وتضغط أمريكا وروسيا في هذا الاتجاه. هذه المصاعب، ينبغي ألا تكون سبباً في صياغة برنامج وطني، يتفق عليه الجميع، موالاة ومعارضة، يخرج سوريا من أزمتها ويضع البلاد على السكة الصحيحة.
تباشير تسويات سياسية في اليمن وليبيا والعراق، لا يزال الحديث عنها مبكراً. لكن المناخات الدولية، تشي بأن المنطقة بأسرها، بل والعالم، على أبواب تسويات تاريخية، يتمخض من رحمها شكل النظام الدولي الجديد، وليس علينا سوى الانتظار.
عام 2003، عجزت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش عن استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يبيح لها احتلال العراق. وكان التهديد الواضح باستخدام الفيتو قد جاء من حليفها، وشريكها بحلف الناتو، الحكومة الفرنسية. واضطرت إدارة بوش، إلى الدخول في مغامرة احتلال أرض السواد، من غير تفويض أممي.
وعلى صعيد آخر، برزت روسيا بوتين عسكرياً وبقوة، واستثمرت تداعيات الأزمة السورية، للعودة مجدداً للمسرح الدولي. وقبل ذلك تمكنت من ترتيب أوضاعها في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وأقدمت على استعادة شبه جزيرة القرم.
وخلال الحقبة ذاتها، تعززت النزعات الاستقلالية، بأمريكا اللاتينية، وبرزت منذ أكثر من عقد، أنظمة سياسية جديدة، في أمريكا اللاتينية، في البرازيل وفنزويلا وبوليفيا، وعدد آخر من بلدان الجنوب الأمريكي، وإن بنسب مختلفة. ونشأت منظمات إقليمية لتعبر عن تنامي النزعات الاستقلالية، في الحديقة الجنوبية للولايات المتحدة.
وبالمثل، خرجت الهند من عزلتها الاقتصادية، وبدأت تبرز كقوة مستقبلية يحسب حسابها. كما برزت إندونيسيا كقوة اقتصادية صاعدة. وتأسست منظومات اقتصادية وسياسية جديدة، للتعبير عن الواقع العالمي الجديد، فبرزت منظومة البريكس وشنغهاي. وكلها مؤشرات على أن اليانكي الأمريكي لم يعد صانع القرار الأوحد، وأن هناك قوى جديدة تعمل جاهدة على تآكل حصصه.
خلال الأحادية القطبية، لم تعد توجد مساحة لترصين العلاقات الدولية، بلغت الفوضى الخلاقة أعلى مراحلها، صودرت هويات وأوطان وانتهكت أعراض، واشتعلت حروب أهلية، وبات القتل للقتل، وحروب الإبادة، وتهجير الملايين من أوطانهم، من أبجديات مرحلة التفرد بصناعة القرارات الأممية. وكان نصيبنا من ذلك، هو حصة الأسد.
ولحسن طالع البشرية جمعاء، فإن عمر تلك المرحلة، في التاريخ الإنساني قصير جداً، لم يتعد ربع قرن من الزمن. واليوم، هناك تسليم أمريكي، وكوني بأن مرحلة جديدة قد بدأت، على قاعدة التعددية القطبية. لقد بدا واضحاً، وجود سياسة روسية طموحة، تملك جرأة في التعامل مع الأزمات الدولية، يقابلها، انكفاء أمريكي، وغموض متعمد تجاه التعامل مع الإرهاب.
يؤكد صحة ذلك، الموقف الأمريكي المتردد، من تواجد الجماعات الإرهابية في العراق، بالأيام الأولى لاحتلال محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وبعقوبة، رغم أن الإدارة الأمريكية، مسؤولة بموجب القانون الدولي، عن صيانة أمن العراق واستقلاله. فقد أقدمت على احتلاله بالقوة العسكرية، ولم تهيئ لمرحلة ما بعد الاحتلال مستلزماتها. يضاف إلى ذلك، أن العراق لا يزال مقيداً باتفاقيات أمنية، مع الولايات المتحدة تنتقص من استقلاله، وتضع أمريكا في موقع المسؤولية، بموجب القانون الدولي، عن ضمان الأمن فيه.
خلق التدخل العسكري الروسي، في سوريا حقائق جديدة. فمن جهة ساد شعور بالخيبة، لدى الذين ارتبطوا بالعملية السياسية العراقية، تجاه التردد الأمريكي، في مواجهة «داعش». وجاء تكرار إسقاط شحنات من السلاح والذخيرة، عن طريق الخطأ من قبل الطيران الأمريكي، في المناطق التي يسيطر عليها هذا التنظيم، ليطرح علامات استفهام كثيرة، تدور حول حقيقة الموقف الأمريكي من محاربة الإرهاب. ومن جهة أخرى، يدرك العراقيون أن الحرب على «داعش»، لا يمكن أن تكتمل إن اقتصرت على سوريا، فالساحة بين البلدين مفتوحة ولا يمكن ضبطها، وإن القضاء على الإرهاب، يقتضي تنسيقاً متكاملاً على الجبهتين العراقية والسورية.
وعلى الصعيد السياسي، بدا للأمريكيين والروس أن لا مناص للقضاء على الإرهاب، من التنسيق بين الإدارتين، وأن ذلك لن يكون ممكناً قبل الاتفاق على خطة طريق التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، ذلك أن البديل عنها هو استمرار الصراع، واحتمالات تدهور الأوضاع، إلى ما يشعل المواجهة بين صناع القرار الكبار.
وعلى هذا الأساس، عقد مؤتمر جنيف واحد واثنين وثلاثة. وحدثت اجتماعات للمعارضة في الرياض والقاهرة وفيينا وموسكو. ورغم أنه لا يبدو في الأفق حتى هذه اللحظة قرب التوصل، إلى تسوية للأزمة، فإن القطار قد بدأ رحلته، ولن يتوقف قبل الوصول إلى محطة التسوية.
يبدو أن الأزمة معقدة ومتشابكة. فمن جهة هناك الإرهاب، الذي تمكن من الأرض السورية. ويصعب على المرء تصور انتقال سياسي حقيقي في سوريا، في ظل سيطرة «داعش» وجبهة النصرة، على أراض واسعة من هذه البلاد. ومن جهة أخرى، فإن المعارضة تحمل تلاوين تتراوح من أقصى اليمين، حيث يطالب بعضها بخلافة إسلامية، إلى أقصى اليسار، حيث يطالب بدولة علمانية، وبينهما تستخدم جماعات أخرى، عبارة الدولة المدنية، وتضغط أمريكا وروسيا في هذا الاتجاه. هذه المصاعب، ينبغي ألا تكون سبباً في صياغة برنامج وطني، يتفق عليه الجميع، موالاة ومعارضة، يخرج سوريا من أزمتها ويضع البلاد على السكة الصحيحة.
تباشير تسويات سياسية في اليمن وليبيا والعراق، لا يزال الحديث عنها مبكراً. لكن المناخات الدولية، تشي بأن المنطقة بأسرها، بل والعالم، على أبواب تسويات تاريخية، يتمخض من رحمها شكل النظام الدولي الجديد، وليس علينا سوى الانتظار.
د.يوسف مكي
صحيفة الخليج