صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمان، كتاب عنوانه اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي: الهوية والفضاء والمكان، بمشاركة مجموعة من الباحثين، وتحرير آري كنودسن وساري حنفي، وترجمة ديما الشريف، وتقديم جابر سليمان ومراجعته. ويتألف هذا الكتاب من 430 صفحةً من القطع الكبير، وهو ترجمة للنسخة الإنكليزية غير أنّ نسخته العربية المترجمة ذات تحديثات، وإضافات، وتقديم خاصّ.
يفتح القسم الأول من هذا الكتاب، وعنوانه “المكان والإدارة والمحلة”، نقاشًا نقديًّا متعلّقًا بأبعاد مفهومية مفتاحية، كاشفًا النقاب عن المصطلحات الجديدة الخاصة باللاجئين والهجرة ودراسات الشتات. وتشرح مساهمة جولي بيتيت “رسم خرائط العنف والتهجير ومخيّمات اللاجئين (فلسطين والعراق)” الترابُط الموجود بين المتخيلات الإثنية والطائفية للشرق الأوسط والتهجير المعاصر في فلسطين والعراق؛ ذلك أنها تحلّل في بحثها إعادة تشكيل الحيّز البشري والأشكال المكانية الجديدة للاحتواء التي تُنتِج الهوية وتُعيد إنتاجها، وتُساهم في مقاومة التهجير. فثمة اليوم خطاب جديد يرتبط بغياب مخيمات جديدة في منطقة المشرق العربي، ويقول هذا الخطاب بإيجاد نقاط تجميع للاجئين، أو مصايد لاستيعابهم، بدلًا من المخيمات. فقد اختُرعت تقنيات تهجير وحيّزات بشرية جديدة؛ من أجل إفراغ أزمة اللجوء في المنطقة من محتواها.
ومتابعةً للقضايا التي طرحتها بيتيت، يبحث ساري حنفي في فصل “إدارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسورية” عن فهم جديد للأبعاد المكانية والسياسية التي تحكم مخيمات اللجوء. فبعد دراسته هذا النوع من المخيمات في لبنان وسورية، يُحاجُّ بأنه يجدر بنا إعادة فحص البنى المتعلقة بإدارة المخيم، من زاوية الفصل، وليس من منظور أمني. وهكذا يصبح “الفصل” المفهوم المركزي في النقاشات في ما يتعلق بالتركيز المكاني للخطر الاجتماعي، وبالإدارة المدينية أو المحلية. وفي وقت تتعامل فيه سورية مع المخيمات مثل أيّ بقعة سكنية أخرى، يُنظر في لبنان إلى مخيمات اللاجئين على أنها “جُزر أمنية”، وتُعامَل بوصفها “فضاءات استثناء” تجعلها أشبه بمختبرات للسيطرة والمراقبة. وهذا ما يحول دون إرساء الفلسطينيين المقيمين في مخيمات لبنانية بُنَى إدارة فاعلة للمخيمات. وفي ظل هذا الغياب شبه التام للإدارة التقليدية، برزت بين سكان المخيمات “حوكمة” بديلة ، نجحت إلى حدٍّ بعيد في تنظيم سلوك سكان المخيم.
وتتعمّق روزماري صايغ أكثر فأكثر في مسألة المكان والهوية، من خلال مساهمتها “تجسيد الهُويّة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين نظرة جديدة إلى المحلّي والوطني”. فهي تُحلل هوية مخيم اللجوء، مستخدمةً روايات محاصَرين من مخيمي جنين وشاتيلا، وتُظهر كيفية تشكّل هذه الروايات بفعل تعدُّد المناخات السياسية التي يعيش فيها أبناء الشتات، وتشير إلى أنّ المقيمين في المخيمات يمتلكون حسًّا متميزًا بأنهم “جماعة” تتشارك أوضاع القمع والتهميش والفقر نفسها. وتدعو صايغ إلى تمثيل أكثر واقعيةً للجمهور الفلسطيني؛ من أجل دراسة الدور السياسي لـ “المحلي” في زمن الأزمة الوطنية، وهي تذهب إلى أنّ مساهمة الشكل المكاني يؤثِّر في الهوية، وهو ما يؤدي إلى تغير سريع.
يبحث القسم الثاني من الكتاب “التحضر المديني والمكان والسياسات” في علاقة المخيمات الدينامية بمحيطها المديني؛ إذ تغيّر عملية التمدن أو التحضر وإيجاد مخيمات مدن، أو مدن مخيمات، البيئةَ المجاورة لمخيمات اللاجئين، فضلًا عن البيئة المبنية داخل المخيمات. وتدرس مساهمة محمد كامل درعي “مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان: هجرة وحراك وتحضّر” مسار تمدن مخيمات اللاجئين في بيروت وتحضرها، وتبيّن أنّ هذه المخيمات على الرغم من أنّها مهمّشة ومعزولة، فهي لا تزال مرتبطة بمحيطها المديني من خلال الأشكال المختلفة للحركية المكانية والاقتصادية. وتبيّن هذه المساهمة أيضًا أنّ هذا الترابط يطمس، بالاشتراك مع الحضور المتزايد لمجموعات أخرى من اللاجئين والنشاط الاقتصادي الجديد، حدود المخيمات ويجعلها جزءًا من المدينة؛ بمعنى أنه يحوّلها إلى “مخيمات مدينية”.
وفي الفصل “لاجئون يخططون مستقبل مخيم الفوار: تجريب إستراتيجية تحسين مخيمات اللاجئين الفلسطينيين”، يناقش فيليب ميسلفيتز، من خلال نقله نقاش التمدن والتحضر من “الخارج” إلى “الداخل”، الدروسَ المستخلصة من مشروع تشارُكي هادف إلى إعادة تعريف البيئة المبنية في مخيم الفوّار للاجئين في الضفة الغربية. ويبيّن أنّ التحوُّل غير المدروس للبيئة العمرانية قد أنتج على امتداد عدة عقود مخيّمات حضريةً معقدةً غامضةً مكتظةً مشابهة لمدن الصفيح، على الرغم من اشتمالها على مراكز تجارية وأسواق عديدة. ويبيّن أنّ عملية التطوير التشارُكي للمخيم كانت في الوقت عينِه صعبةً وصراعيةً، لكنها ساعدت على إعادة تعريف علاقة السكان بـ “الأونروا”، وببرامج المساعدات المفروضة من الخارج لمصلحة عملية صناعة قرار أكثر تشاركيةً.
تُعالج المساهمة الأخيرة في قسم “نهر البارد: النتائج السياسية لكارثة اللجوء” الدمارَ المادي لمخيم اللاجئين وتداعياته السياسية السلبية. وفيها يحلل آري كنودسن التداعيات السياسية لتدمير مخيم نهر البارد بلبنان عام 2007؛ بهدف إعادة تعريف العلاقات السياسية بين اللاجئين وممثليهم السياسيين والدولة. ويُظهر كنودسن التداعيات السياسية للأزمة التي رسّخت الانقسام السياسي الثنائي للمشهد اللبناني، وأنتجت طريقتين متناقضتين في فهم الكارثة، كما أنه يظهر كيفية حلّها. ويؤكّد الباحث أنّ كارثة نهر البارد استُغلت من أجل مكاسب سياسية؛ لأن المشكلة الفلسطينية (التي تعرف أيضًا باسم ملف اللاجئين) مسألةٌ سياسيةٌ حساسةٌ، ولأنّ القدرة على السيطرة على الحوار الوطني بشأن هذه المسألة يُعدّ رصيدًا سياسيًّا.
في القسم الثالث من الكتاب “الحقوق المدنية والوضع القانوني وجبر الضرر”، يدرس عباس شبلاق “جواز سفر بأيّ ثمن؟ الحرمان من الجنسية بين اللاجئين الفلسطينيين”، أثرَ حرمان الجنسية في اللاجئين الفلسطينيين، وفي تجاربهم وسُبُل عيشهم وحركيتهم داخل المنطقة وخارجها. وتفحص هذه المساهمة المفاهيم المتغيرة للمواطنة في الخطاب السياسي الفلسطيني، وبين اللاجئين أنفسهم. ويقدّم شبلاق تحليلًا نقديًّا لأشكال متعددة استخدمت فيها بعض الأطراف المواطنةَ لتحديد مصير فلسطينيين عاديين، من أجل التأثير في حلّ مشكلة اللاجئين. ويستنتج أنّ حرمان الجنسية كان له أثرٌ عميقٌ في حركة اللاجئين الفلسطينيين ورفاهيتهم وسُبُل عيشهم، وفي منعهم من دعم أنفسهم.
يُفضي نقاش الحقوق المدنية، في مستوى المقارنة الإقليمية، إلى رؤًى جديدة بخصوص أوضاع اللجوء في ما يتعلّق بمشكلة حرمان الجنسية، والنقص في حماية اللاجئين من الناحية القانونية. وفي هذا السياق يُعنى جلال الحسيني وريكاردو بوكو، في دراستهما “ديناميّات المساعدة الإنسانية والسياسة المحلّية والإقليمية: لاجئو فلسطين حالة دراسية”، بتأثير الوضع القانوني الذي تمنحه الدول المضيفة في اللاجئين الفلسطينيين. وعلى نحوٍ أكثر تحديدًا، يفحص تحليلهما قاعدة بيانات مستمدة من مسْح أُجريَ في خمس مناطق من عمليات الأونروا (الأردن، ولبنان، وسورية، وقطاع غزة، والضفة الغربية) كيفيةَ تشكيل الوضع القانوني للاجئين و”تنظيمهم” بوصفهم مجموعةً من جهة، ونظرةَ اللاجئين إلى أنفسهم على أنّهم منفيُّون في تلك الدول من جهة أخرى.
في المساهمة الثالثة والأخيرة في هذا القسم “اللاجئون الفلسطينيون وجبر الضرر: سياسة التأسف”، تدرس شهيرة سامي المقاربات الجديدة للتعويض وجبر الضرر والاعتذارات الرسمية المستخدمة في حقل العدالة الانتقالية، وتقدّم نظرةً عامةً إزاء الممارسة الدولية في ما يتعلق باستخدام التعويض والاعتذار. ثمّ تتفحّص مسألة جبر الضرر للاجئين المهجرين، وتحديدًا عدَّةَ حلول لتطبيق حقّ العودة والتوطين واستعادة الممتلكات والتعويض. ومن دون إطلاق أحكام مسبقة عن أيّ حقّ من هذه الحقوق الأساسية، تدعو الباحثة إلى اعتماد مقاربة أوسع لجبر الضرر، بل إنها تدعو تحديدًا إلى أهمية تقديم “اعتذار” رسمي يعترف بالمسؤولية عن آثام الماضي كجزء أساسي من تصويب الظلم التاريخي في حقّ اللاجئين الفلسطينيين.
يُدقّق القسم الرابع “الذاكرة والقدرة والتدامج” بالوسائل التي اعتمدها اللاجئون في المنفى الممتدّ والاحتجاز، من خلال إعادة تعريف علاقات القربى وبنية العائلة والسرد المجندَر. ويدرس سيلفان بيرديغون الترابط بين وضع اللجوء، وعلاقة القربى وإستراتيجيات الزواج بين أبناء مخيم للاجئين في منطقة صور في دراسته “المؤسسة الوحيدة الباقية والقابلة للحياة (الأسرة)”. وعبْر مراقبة مفصَّلة لسرديات اللاجئين وتاريخ حياتهم، تلتقط هذه الدراسة الإثنوغرافية الحساسة الإستراتيجيات الفردية والعائلية المعتمدة في الزواج، وهي إستراتيجيات تُستخدم لمواجهة العقبات الاجتماعية والسياسية الكثيرة التي تعترض اللاجئين المقيمين في المخيم، من أجل التغلّب عليها في نهاية المطاف. ومثلما يوضح بيرديغون، يُعيد اللاجئون على نحوٍ خلّاق تعريف علاقات القربى والواجبات المترتبة عليها من أجل إيجاد مركَّب من تلك العلاقات شبيه بـ “شجرة العائلة” التي تحمل في ديناميتها شواهد على قوة اللاجئين وإرادتهم. وهذا، بحسب بيرديغون، يجعل نظرية أغامبن في “حالة الاستثناء” إشكاليةً في العمق؛ بما أنّ المخيم أوجدَ نسيجًا غنيًّا لإستراتيجيات هدفها حلّ تحدّيات المنفى المطوَّل على نحوٍ استثنائي.
وتُعنى ماريا هولت في دراستها “عالم متحرِّك: ذاكرة الفلسطينيات وواقعهن في مخيمات لبنان” بموضوع إرادة اللاجئات وقوتهن. وتعدُّ مساهمتها بمنزلة تحليل دقيق لسرديات نساء يستخدمن الذاكرة في تكوين المكان والسعي للهرب من يأس الحاضر. وتحاجّ هولت بأنّ “الشتات الفلسطيني”، وهو من نوع “الشتات الضحية”، طوّر نوعًا محددًا من الهوية المجندرة العابرة للأجيال في آنٍ واحد. فالسرد النسائي للقصص مفتاحٌ لتشكيل هوية النساء، ومن خلال جندرة الماضي، يحتضن ذاكرة الأزمنة والأمكنة الأخرى بوصفها مصادر للراحة والحماية للمحرومات منهن، خصوصًا في سياق انعدام مزمن للأمن والاستقرار، ومن ثمة يمكن أن يُعدّ ذلك النوع من السرد سردًا جماعيًّا من أجل البقاء.
وتُحلل منال قرطام دور الفاعلين المحليين في المسار التعاوني بمخيم شاتيلا في دراستها “السياسة والمحسوبية واللجان الشعبية في مخيم شاتيلا”، وتعرض حالةً دراسيةً للتنظيم الذاتي والإدارة الذاتية مثيرةً للاهتمام؛ ذلك أنّ سكان المخيم ينشئون لجنةً لتحسين أوضاع الحياة الصعبة، وينصِّبون قيادةً ديمقراطيةً منتخبةً بالاقتراع الشعبي، غير أنّ هذه المبادرة الإصلاحية الشعبية تنهار في مواجهة تهديدات القوى التقليدية الممسكة بزمام السلطة في المخيم. وبوجهٍ أعمّ، تُظهر الدراسة مشكلة مواجهة الأنماط التقليدية لإدارة مخيمات اللاجئين في لبنان التي لا تمثل الصوت الشعبي ولا المشاعر الشعبية، على الرغم من اسمها البرّاق “اللجان الشعبية”؛ لأنّ قواعد السلطة خاصة بزعماء سياسيين غير محليين.
نقلا عن المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات