يعمل الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا على دعم وإسناد مجموعة هائلة من المؤسسات والشبكات في العالم العربي تحت عنوان “تمكين الديمقراطية”؛ إلا أن الديمقراطية المسندة غربيًا تناهض روح الديمقراطية، فحدودها تقتصر على بناء شبكات تتماهى مع المصالح الغربية وتناهض أعداءها المفترضين من الإسلاميين، وتوظف في التشغيب على الأنظمة القمعية التسلطية التي تتمتع بالرعاية الغربية، الأمر الذي يكشف عن زيف أطروحة نشر الديمقراطية في العالم العربي إلا إذا جاءت بديمقراطيين بمواصفات ليبرالية خاصة، يعملون كعملاء ووكلاء لتأمين المصالح الغربية وضمان الهيمنة التامة.
هزل الأطروحة الديمقراطية الانتقائية المشوهة تبدو ظاهرة في حالة الإسلاميين؛ إذ لم يهزم الإسلام السياسي منذ بروزه في العالمين العربي والإسلامي قبل أكثر من ثلاثة عقود في أي منازلة انتخابية ديمقراطية، وقد برهن الإسلاميون عقب انطلاق الثورات العربية على أنهم قوة لا مجال للتغلب عليها عبر صناديق الاقتراع الشفافة، إلا أن مفارقات الديمقراطية الانتقائية المشوهة لا تتسامح مع قوة موسومة إمبرياليًا ودكتاتوريًا باللاديمقراطية، ففي كل منازلة ديمقراطية تأتي بالإسلاميين تتعالى الأصوات بالتحذير من سيطرة “الفاشية” الإسلامية، التي تسعى لترسيخ دولة شمولية كما فعل الحزب النازي في ألمانيا عام 1933.
يقوم الخطاب الديمقراطي الغربي على تناقض جوهري، فهو يروج لديمقراطية تتماهى مع ديمقراطيته، ويناهض أي ديمقراطية لا تتبع ديمقراطيته باعتبارها تهدد الديمقراطية، فحدود ممارسة الديمقراطية العربية تتلخص بوجوب قبول دخول الإسلاميين في العملية الانتخابية، على أن لا يحققوا فوزًا صريحًا؛ ذلك أن فوز الإسلاميين يعني نهاية الديمقراطية وخروجًا على حدودها، فبحسب سدنة الديمقراطية سينقلب الإسلاميون على الديمقراطية ويستثمرونها كوسيلة للوصول إلى السلطة مرة واحدة وإلى الأبد؛ إلا أن الديكتاتوريات العربية المسندة غربيًا تؤكد لنا نقيض الأطروحة الإمبريالية المتحالفة مع الديكتاتورية، فهي التي تنقلب على الديمقراطية دومًا، بدءًا من الحالة الجزائرية وصولًا إلى الحالة المصرية.
في هذا السياق، يبدو جليًا أن الإمبريالية والديكتاتورية والتي هي غير ديمقراطية بطبيعتها تشكل تحديًا أساسيًا في مسيرة التقدم الديمقراطي، فعلى الرغم من التقدم الملحوظ الذي شهده العالم العربي في مسيرة التحول الديمقراطي في نهاية عقد الثمانينيات من القرن المنصرم؛ إلا أن هذه المسيرة وصلت إلى طريق مسدود، وقد تباينت الاجتهادات التفسيرية حول حالة النكوص والتراجع والركود الذي أصاب عملية التحول الديمقراطي، ولم تفلح هذه الدراسات في التوصل إلى أسباب حاسمة في التفسير والتحليل؛ وذلك بسبب التركيز على المقاربات الثقافية أو الدينية في تفهم الظاهرة، ووصل الأمر لدى بعض الباحثين درجة من الوقاحة الإنكارية تتبنى وجهة النظر الاستعمارية الإمبريالية البالية، والتي تدور حول أطروحة عدم الاستعداد والقابلية المتأصلة لدى شعوب العالم العربي، وعجزها عن تمثيل نفسها بنفسها، وتعلق بعض المحللين بأسباب عنصرية بائسة ومفضوحة.
فعندما تخلت جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي عن منظومتها السياسية المتعلقة بالحاكمية استنادًا إلى نظريات دولة “تطبيق الشريعة”، وذهبت في ممارساتها إلى استدخال الديمقراطية، كنهج سياسي في تدبير الشأن العام، كانت نتائج الانتخابات محسومة لصالحها بأغلبية كبيرة، وسط تراجع مهين للأحزاب القومية والليبرالية واليسارية، الأمر الذي أثار قلقًا كبيرًا داخليًا وخارجيًا حول مستقبل الدولة المدنية الديمقراطية.
وعلى الرغم من التطمينات المتكررة التي أصدرتها الأحزاب الإسلامية بخصوص التزامها بحدود اللعبة الديمقراطية؛ إلا أن المخاوف من انتكاسة الثورات العربية إلى سلطوية جديدة بقيت حاضرة في السجال والجدال والنقاش؛ نظرًا لغياب التجربة الإسلامية المعاصرة في الحكم، وضعف الخبرة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، تحت وطأة عبور مراحل انتقالية شاقة ومعقدة، في بلدان تعاني من أزمات بنيوية تاريخية اقتصادية واجتماعية وثقافية، لكن قوى “الثورة المضادة” بأجهزتها القمعية والأيديولوجية لم تمهل حركات الإسلام السياسي ومراقبة سلوكها ومدى التزامها، وانقلبت على مسارات التحول الديمقراطي عبر الانقلابات العسكرية، المفارقة تجلّت كمأساة حين التزمت جماعات الإسلام السياسي بقواعد اللعبة الديمقراطية، في حين تحالفت معظم القوى الليبرالية والقومية واليسارية مع الديكتاتورية العسكرية.
كانت الديمقراطية تقبع في صلب البرامج التي تقدمت بها الأحزاب الإسلامية التي فازت في الانتخابات التي جرت عقب الثورات، مثل: حركة النهضة التونسية، وحزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب الحرية العدالة المصري، وحزب العدالة والبناء الليبي، وبقراءة البرامج التي تمكنت من خلالها الفوز بثقة وأصوات الناخبين في أول انتخابات شفافة ونزيهة تجرى عقب ثورة “الربيع العربي”، فإن برامجها تتوافر نظريًا على ضمانات تقطع مع الاستبداد والسلطوية الأحدية وترسخ لمنظومة جديدة من التعددية والحرية والعدالة والديمقراطية، وتكشف عن تحولات عميقة في التعامل مع سائر القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في إطار مرجعيتها الإسلامية، وهي مسائل شائكة ومعقدة تندرج في إطار الجدل الأكبر المتعلق بسؤال العلاقة بين “الإسلام والحداثة”.
معظم الدراسات التي تناولت مستقبل الديمقراطية في العالم العربي تشكك في تحققها؛ بسبب تنامي قوة وشعبية الحركات الإسلامية، التي كما يروجون امتطت موجة التحول الديمقراطي واكتسبت قوة مضاعفة في شتى الميادين، وربما يكون هذا التقدم الإسلامي هو الذي دفع المفكرين وصانعي القرار في الغرب إلى التساؤل حول قابلية الشعوب العربية للديمقراطية، وبالنسبة إلى آخرين فإن دمج الدين بالسياسة يتناقض مع الحكم المدني الديمقراطي، ومما لا شك فيه أن الانبعاث الإسلامي وظهور حركات الإسلام السياسي شكل تحديًا خطيرًا للنخب الحاكمة في معظم أقطار العالم العربي بعد أن حققت هذه الحركات تقدمًا ملحوظًا في معظم الانتخابات التي أجريت على مدى عقود في الأردن واليمن والعراق والمغرب والجزائر ومصر وفلسطين، كما حققت الحركات الإسلامية حضورًا بارزًا كحركات معارضة في معظم الدول التي لم تتبن نهج المشاركة الشعبية كسوريا.
يعتبر التعريف الذي توصل إليه جوزيف شومبيتر للديمقراطية من أكثر التعريفات قبولًا وانتشارًا، باعتبارها: “الإجراءات المؤسساتية المنظمة لعملية صنع القرارات السياسية، والتي يكتسب الحكام من خلالها قوة اتخاذ القرارات بالتنافس للحصول على أصوات الشعب”؛ وبناءً على هذا التعريف، فإن الديمقراطية أحد أشكال الحكومة الذي تتوفر فيه جملة من المعايير: كالمنافسة الحرة التي تتيح التداول السلمي للسلطة، والمشاركة السياسية وحق الانتخاب والاقتراع، وضمان الحقوق الإنسانية والمدنية مثل حرية التعبير والصحافة والانضمام إلي الأحزاب السياسية وتكوينها، ومسائلة الحكام وضمان حكم القانون، ويمكن الجزم بأن هذه المعايير لا تنطبق بصورة كاملة على العالم العربي؛ فالتحول الديمقراطي عملية انتقالية “تصبح من خلالها ممارسة السلطة السياسية أقل تعسفًا وأقل استثناء للآخرين” كما يرى هدسن، ويفرق بعض الباحثين بين التحول الليبرالي والتحول الديمقراطي؛ فيشير الأول إلى تغيرات تحد من سلطة الدولة في التدخل في حياة الناس ويسمح بالتعبير بحرية للمعارضة، أما التحول الديمقراطي فيشير بصورة خاصة إلى عملية التغير تجاه الانتخابات الحرة والمشاركة الشعبية.
ويشدد “هنتنغتون” على أن التحول الديمقراطي عملية مطولة وشائكة تبدأ بسقوط نظام حكم قديم وتقيم نظام حكم ديمقراطي، وينتج في نهاية الأمر تثبيت دعائم وأركان النظام الديمقراطي؛ فالتحول الديمقراطي يتمتع بآثار بعيدة المدى أكثر من الليبرالية، أما الانتقال نحو الديمقراطية فيبدأ عادة عندما تتراخى القبضة المحكمة لأنظمة الحكم السلطوية، ويلاحظ أن الخطوات التي اتبعتها الأنظمة الانقلابية العربية لا زالت متواضعة وتقتصر على بعض الإجراءات الليبرالية التحررية مثل إعادة الحياة البرلمانية أو رفع الأحكام العرفية، وهي لا تتعدى كونها مجرد إجراءات تحررية جاءت نتيجة للضغوطات المختلفة والأزمات العميقة التي طالت شرعيتها.
ركزت الاجتهادات المبكرة المتعلقة بالتحول الديمقراطي على معرفة واكتشاف الشروط المسبقة التي يفترض أن تتزامن مع الديمقراطية، مثل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافة السياسية وشرعية أنظمة الحكم والمؤثرات الخارجية، وتوصل “هنتنغتون” إلى سبع وعشرين فرضية يمكن أن تقود إلى الديمقراطية، من أبرزها: ضرورة وجود اقتصاد سوق حر، وطبقة متوسطة قوية، ومستوى تعليمي عال، وروح بروتستانتية، وبنية ديمقراطية للسلطة داخل جماعات المجتمع، ومستوى منخفض من الاستقطاب السياسي والتطرف، وزعامات سياسية ملتزمة بالديمقراطية. وقد وجهت إلى هذه النظرية انتقادات حادة، كشفت عن ضعفها المنهجي؛ فإذا أخذنا معدلات الدخل المرتفع ومستويات التعليم العالي كمؤشرات على التطور الاقتصادي وارتباطها بالديمقراطية كنتيجة لعمليات التحديث، نجد أن الحقائق السياسية في الدول النامية تدحض هذا الادعاء؛ فالعمليات التحديثية الواسعة التي جرت في الخمسينيات والستينيات لم تؤد بالضرورة لعمليات التحول الديمقراطي؛ بل شهد العالم العربي في هذه الفترة ظهور أنظمة حكم سلطوية بشكليها الشعبي والمتوارث.
ويمكن القول إن أكثر أنظمة الحكم العربية ينطبق عليها الوصف الذي وضعه هدسن لـ”دولة المخابرات”، وهي الدولة التي تقوم على أجهزة الأمن وتعمل على أساس القمع والخوف وليس القبول الشعبي، وعلى كل حال فإن عملية التطور الاقتصادي التي أوجدت نظام الحكم السلطوي والبيروقراطي كان لها دور حاسم في نشوء الحركة الديمقراطية التي هبت على العالم العربي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، فمن المعروف أن الاقتصاديات عندما تصبح أكثر تطورًا وثراء، تغدو مهمة الأنظمة السلطوية في المحافظة على السيطرة والتحكم أكثر صعوبة؛ فالتطور الاقتصادي يؤدي إلى الانفتاح السياسي إلا أن هذا التطور لا يستطيع تفسير الانتقال إلى الديمقراطية وحده، فلا بد من توفر عوامل أخرى كالقيادة السياسية الفاعلة.
من أكثر المقاربات انتشارًا في تفسير غياب الديمقراطية في العالم العربي، المقاربة الثقافية التي تركز على القيم والمعتقدات والمواقف، التي تحكم خصائص وصفات الشعوب العربية كالنفاق واللاعقلانية والأعراف المتعلقة بالشرف باعتبارها صفات وقيمًا تناقض الديمقراطية، ولا يخفى على أحد تغلغل الرؤية الاستشراقية والعنصرية التي تتحكم في هذه التحليلات والفرضيات فضلًا عن نقاط ضعفها المنطقية والمنهجية؛ فمعظم هذه الدراسات تصر على أن المجتمع العربي يعاني من انقسامات لا يمكن إصلاحها وتصر على وجود عقلية عربية متماثلة تتسم بالجمود والانغلاق وتلقي باللوم على الإسلام باعتباره سببًا في غياب الديمقراطية، فيكتب “هنتنغنون” قائلًا: “لم يكن الإسلام منفتحًا على الديمقراطية … فلا يوجد في الإسلام على سبيل المثال أي تفريق بين الدين والسياسة أو بين ما هو روحي وما هو علماني”، ويؤكد على أن المشاركة السياسية كانت تاريخيًا مفهومًا غريبًا على الإسلام، لكن المأزق الكبير الذي يقع فيه أنصار المقاربة الثقافية للديمقراطية تنبع من منهجية التعميم قبل الاستقراء والاعتقاد بوجود صفات جوهرية سلبية وجامدة للإنسان العربي والافتراض بأن الاعتقاد هو المؤثر الوحيد على الأفعال والسلوك.
وقد اعترف “هنتنغتون” في كتاباته المتأخرة بقصور ومحدودية المقاربة الثقافية؛ فالإسلام يشكل ثقافة معقدة كما أن الثقافات متحركة ومتغيرة وتتسم بالقدرة على التكيف والاندماج كما بيّن طلال أسد، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما هي الأشكال السياسية التي ستظهر في العالم العربي عندما يبدأ التطور الاقتصادي في التفاعل مع القيم والتقاليد الإسلامية؟
لا يزال الجدل والسجال في العالم العربي منذ التسعينيات يدور حول العلاقة بين الإسلام والسياسة، حيث بقي الإسلام دائمًا أحد مكونات القومية العربية؛ إلا أنه كان يقع في الدرجة الثانية أو الثالثة في الأهمية، وتصدر الإسلام الواجهة كقوة سياسية بعد فشل القومية العربية وعجزها عن تحقيق أهدافها، وشكلت الحركات الإسلامية تحديًا لأنظمة الحكم السلطوية التي بدأت تعاني من نقص واضح في شرعيتها، وتتلخص عناصر القوة لدى الحركات الإسلامية في شعبية شعاراتها من جهة ودخولها واندفاعها تجاه الانفتاح الديمقراطي من جهة أخرى، كما أن هناك رغبة عارمة عند الإنسان العربي بالتخلص من الحكم السلطوي، فالنخب الحاكمة ومعظم أنصار العلمانية لا زالت تتوجس خيفة من صعود الحركات الإسلامية بعد النجاحات التي حققها الإسلاميون في معظم الدول العربية التي سمحت بانفتاح ديمقراطي محدود، ولعل هذا التطور قاد إلى إعادة التفكير في موضوع الديمقراطية في العالم العربي خصوصًا بعد أن تراجعت أو تجمدت المطالب الأمريكية والأوروبية بالإصلاح، وضعفت الضغوطات الخارجية على النخب الحاكمة في العالم العربي.
وربما يكون الصراع الجديد الذي يدور بين الإسلاميين والنخب الحاكمة، أحد أهم العوائق التي تقف في طريق التحول الديمقراطي في العالم العربي، وما لم يعد الطرفان النظر في مواقفهما المتصلبة فإن الخسارة سوف تطال الجميع؛ فالآمال الشعبية العربية تنعقد على ضرورة وجود قيادات معتدلة من كلا المعسكرين مستعدة للانخراط في حوار شامل يترفع عن المكاسب والمصالح الشخصية والفئوية الضيقة، وينأى عن خطاب التخويف من ظاهرة الإسلام الديمقراطي الذي يطبع السلوك السياسي الثقافي للنخب المتحكمة بمصائر البشر الفاعلين.
نقلا عن التقرير