إذا كانت الفلسفة هي تفكير العقل بالعقل، فالتطرف الديني هو تفكير الجنون بالجنون. لقد تم احتجاز أعداد كبيرة من البشر في حكاية وهمية اسمها صدام حسين. البلاد سجن حديدي ومع الزمن تحول إلى نمط حياة وتفكير. الرئيس مثله مثل معظم العرب، عنده مشكلة في فهم العالم، في العقل أيضا.
هو القائد العام للقوات المسلحة، وهو من تحدى الغرب، وهو من فرّ من بغداد حين دخل الأميركان؟ أعدم مليون شاب عراقي إسلامي على اعتبار علماني، بعدها أطلق حملة إيمانية وصار يلقب نفسه بـ”عبدالله المؤمن” وحمل القرآن إلى المشنقة، مأساتنا في جوهرها حضارية.
كل ذلك المال والسلطان لم يجد حلا لمشكلة الزعيم، لقد أفقنا على احتلال العراق، وبدلا من أن نجلس ونفكر بما حدث كل تلك السنين، صارت إيران تريد أن تنتقم، والشيعي يريد أن ينتقم، والسني يريد أن ينتقم. كله عبث في عبث.
حدثت فضيحة ثقافية منذ عام 2003 فقد سقط الدكتاتور وصار علينا اكتشاف أنفسنا. وكانت الصدمة بهجوم رجال الدين على عقولنا. الإسلام يسمي العقل السابق لظهور الإسلام “جاهلية” ويُطلق ذات الكلمة على نمط حياة المواطن الغربي، التي يرى فيها خروجا على الدين فكريا وسلوكا، وصار الدين “علما” ورجل الدين يسمي نفسه “عالما” ضاربا بعرض الحائط كل العلوم الإنسانية الحديثة التي تصطدم جوهريا مع أفكاره.
قدر المثقفين اليوم أن يكونوا مفترقا للطرق في هذه المتاهة. أوديسيوس يضل وتبتلعه دروب سحرية، غير أنه يعود في النهاية إلى بينيلوبي ويرمي بقوسه. قدر الكاتب أن يغني لمدائن ملعونة، ومختومة بغضب الملوك. يجرحك التيار ولا تنجرف.
الموصل مثلا هي نفسها الموصل، مدينة عظيمة بأهلها وتاريخها. في يوم من الأيام كانت رمزا للتعايش بين الأقليات والديانات، حتى الوثنية منها وغير الكتابية. كانت معروفة بشغف أهلها بالعلوم والسفر والفكر المنير، وفي هذه السنوات الأخيرة هيمن الظلام والتطرف وحكمها داعش.
في كل الأحوال ندافع عن المدينة ولا ندعو إلى حرقها، ولا ذبح أهلها. ما حدث هو حرائق السياسة وانزلاق العقل.
المعتزلة قالوا الإمام هو العقل، ولكن تم القضاء عليهم. العقل صار هو النص الديني، أو الإمام “يدور الحق معه أينما دار” وهو القرآن الناطق المعصوم، وولداه إمامان قاما أو قعدا. استقال العقل بالفكر الديني. وكيف يكون وجه الظلام والقرون الوسطى؟ إن لم يكن هذا الرجل الذي يقطعون يده في ساحة عامة بالموصل لسرقة دراجة هوائية، وهو يصيح بأعلى صوته “دولة الإسلام باقية” في القرن الحادي والعشرين، فهو لا يجد في نفسه “حرجا” من هذه الوحشية .
ولماذا لا يصغي إليك الناس إذا كنت واحدا منهم؟ حين تاه بنو إسرائيل تاه موسى معهم، وكان ذلك رمزا للإخلاص اليهودي. حين تشرب ضلالات الناس وسمومهم وتنجو، حين تسمعهم وتتبعهم، عليهم أيضا أن يسمعوك حين تنهدم المدن وتنهار الحضارة والعمران.
لقد اكتشفنا بأن صدام حسين كان يمنعنا من فهم العالم، وهو نفسه لا يفهمه، وحين أسقطه الأميركان صار علينا مواجهة كل شيء دفعة واحدة. الماضي والحاضر، الذكريات والأحلام. اليوم وأنا أنظر إلى أنقاض الرمادي، لا أرى الأمر مجرد حرب، ولا مجرد إرهاب، هذه الأنقاض هي الدماغ العراقي نفسه.
دماغ مخرّب ومريض ومحطّم بالحرمان والحجب والقمع، الحقيقة هي أننا اكتشفنا الحقيقة. فكل ما نقوله ونعتقد به لا أساس له من الصحة. الحضارة الغربية انفتحت أمامنا فجأة، الطعام دخل بعد حصار، الدولار صار يمشي بالأيدي. القنوات الفضائية انفجرت فجأة بعد كتمان. فظهر دماغنا أمام عيوننا، فارغا ولا قيمة له. ورجع السؤال الديني والكلام المقدس ومذابح الملل والنحل.
كل ذلك فضح الجنون العراقي. منذ متى يتكلم الصبيان بالعقائد، ويرددون مقولات فصيحة من العصر الحجري؟ إنه انهيار العقل بالصدمة، حتى قرقعة السلاح هي لإسكات الوجع العقلي، تحشيد الجماهير والملايين هو لإخراس السؤال بالضجيج.
فبدلا من أن نتساءل عن قيمة الإمام العسكري، وما هي أهميته في التاريخ؟ رجل كان لا يكلّم الناس إلا من وراء حجاب من الخوف، وسيطر على دعوته داعية أصبح سفيرا للإمام المهدي الغائب “غيبة صغرى” فيما بعد. يكون الجواب بزيارة مليونية للضريح، وكأن المليون سيجيب عن السؤال التاريخي.
لقد اتضحت أمامنا مشكلتنا، تلك المشكلة التي بدّدت نفطنا وثرواتنا، وهدمت بيوتنا وحقولنا لنصف قرن، وهي مشكلة ثقافية بالأساس. بعد الاحتلال حط الغرب بكل ثقله على بغداد، فهرب الشيعة إلى إيران من هذا الرعب “رعب العقل” وهرب السنة إلى التاريخ والفتوحات والشهادة والجهاد.
الغرب ليس حقيقة سهلة، فقد اكتشفنا بأن تربية الأطفال والتعليم والقانون والحب والزواج والجنس والفنون والحريّة كل ذلك خطأ في خطأ عندنا، ولا جدوى من قتلنا لبعضنا البعض. إن ذلك يزيد من خوف الناس منّا واحتقارهم لنا. صرنا نخاف أن نقول إننا عراقيون للأجانب، بسبب الأخبار والمذابح. إن سمعة البلاد هي الجريمة والجنون. من الصعب أن تربّي الأطفال على الحرمان ثم تطالبهم بقبول الحقيقة، وهي أننا كنّا مخطئين في فهمنا للعالم.
الخليج ابتدع فكرة أصيلة؛ وهي أن يكون الحرمان ثقافيا فقط وليس اقتصاديا، ومع الزمن والتعليم يتمّ تخفيف الثقافة الدينية. المشكلة في العراق حرمان ثقافي واقتصادي وجنسي وفجأة احتلال وانفتاح. انفجر الدماغ وتفجّرت البلاد وتحطمت البيوت. الإنسان وحش كاسر إذا تم حصاره. الشعب أساسا مُتعب ومُحرج عقليا وحصيلة حرمان، لا يتحمل مؤامرات ولا مخططات سياسية.
الشعب العراقي واجه نفسه لأول مرة واكتشف بأنه ممنوع من السفر عالميا. جوازه غير مقبول في المطارات والمسألة في الحقيقة ليست منع صدام حسين لهم من السفر فقط. واكتشف بأن الدين ليس حقيقة عالمية فالعالم يسير بنهج علماني، واكتشف بأن كل كلامه ومعتقداته ليس كما كان يظن في الماضي، بل هي هذا اللغو المعروض في مليون فضائية، وأنه يعيش حياة حرمان بلا سبب ولا معنى.
لا بد أن ذلك بسبب السني أو بسبب الشيعي، وبدأ الأخ يقتل أخاه لأنه لا يوجد حل آخر لتخفيف الوجع الفلسفي، وجع تلك اللحظة الرهيبة حين يكتشف الشعب حقيقته.
أحيانا نمتلك إحساسا مختلفا بالأشياء. ما هو شعورك وأنت ترى الرمادي أنقاضا؟ كل هذه الأموال والأرواح والذكريات تم هدرها، فما معنى هذا؟ يحق لك أن تكلم نفسك وتغضب وتسكر وتهيج وتضرب رأسك بالحائط لكي تخرج فكرتك الأساسية.
لا نستطيع أن نبقى أسرى لمعادلة طولية لا نهاية لها، هذا فجّر وهذا قُتِل وهذا سرق. لا بد من وجود مكان ما في خاصرة الألم العراقي يفسر لنا ما يجري على نحو مختلف. أعتقد بأن العقل القديم يحتضر، فهو ليس عاجزا عن تفسير ما يجري فقط، بل هو -وعلى نحو خاص- السبب في كل ما يجري.
ابن الرمادي الذي ذهب للقتال دفاعا عن مدينة الفاو ثمانينات القرن الماضي يرى مدينته الحبيبة أنقاضا، وبأيدي أهل الرمادي أنفسهم، جنود في داعش وجنود في الجيش. المدينة احترقت والأطفال نازحون.
أيّ معنى لعقيدة وفكرة، وأيّ قيمة لنصر إذا كانت النتيجة التي يراها الأجنبي من بعيد هي أن هؤلاء الحمقى يهدمون مدنهم، وليس هذا فقط بل هناك حمقى يتوعدون بالانتقام. تنتقم كيف؟ تهدم البصرة الفيحاء وتشرّد أطفالها؟ أم تهدم كربلاء الجميلة وتشرّد عجائزها؟ هذا الجنون أصبح وجعا في الضمير يجب أن يتوقف وإلى الأبد.
الدول تشتري القنابل للدفاع عن المدينة، والحمقى يشترون القنابل لهدم مدينتهم وبيوتهم. الرئيس الأميركي أوباما لم يرسل جيشا لقتال داعش “لا جنود على الأرض” ما معنى هذا؟ طائرات في السماء تُحلق فوق الزومبي والمجانين أي الدواعش والميليشيات، شيعة وسنة يتذابحون، معنى رمزي حزين. وزير الخارجية السعودي عادل الجبير فهم العراق وقال “إذا لم تتم السيطرة على هذا الانشقاق الطائفي الذي تتزعمه إيران، فلن يتم حل المعضلة العراقية”.
إن ما يجري يشبه الطاعون العظيم الذي أصاب لندن في القرن السابع عشر. فقد أخذ الناس يبحثون عن بائعات الهوى للإصابة بالسفلس. ساد اعتقاد حينها بأن الإصابة بالسفلس تمنح المريض مناعة من الطاعون. وهذا الوهم نفسه حدث في العراق، فقد اعتقد السنة أن الإصابة بوباء داعش تحميهم من الوباء الطائفي الإيراني. والنتيجة هي هدم المدينة والعمران وذبح الإنسان.
أسعد البصري
العرب اللندنية