مرّت ثمانية عقود، ولغز وفاة ملك العراق المؤسس فيصل الأول لم يحل، ولم يستقر كتّاب التاريخ على حكم قاطع، لكن أكثر القراءات إثارة للجدل تشير إلى دور لبريطانيا في ذلك، حيث بدا موته وكأنه اعتباطي، إذ لم تكن لديه علة ظاهرة قد تسبب الوفاة، ولم يقدّم تقرير الطبيب البريطاني سبباً مقنعاً، وقيدت الواقعة في حينها طبيعية، وانتهى الأمر. لكن العقود الثمانية لم تمح من الذاكرة العراقية صورة الملك المؤسس، وما تحقق في حقبة ملكه التي دامت عقداً مليئا بالتحدّيات، على الرغم مما فعلته عهود الجمهوريات، في محاولة طمس صفحات الملوك وآثارهم. وفي هذا العام، كانت مناسبة ذكرى رحيل فيصل مدعاةً للإشادة بالحقبة الملكية ورجالها، على نحو ما ظهر في مواقع للتواصل الاجتماعي زخرت بالمذكرات والصور، وكأن ذلك صيغ ليشكل اعتذاراً للرجال الذين ظلموا، وجلدا للذات العراقية التي أطاحتهم.
عندما يُذكر فيصل المؤسس، فإن أبرز ما يستعيده الذهن المذكّرة الضافية التي أودعها لدى خاصته، و”رجال ثقته” من كبار السياسيين الذين كانوا يحيطون به، وكانوا يحملون “أفكاراً وآراء حول كيفية إدارة شؤون الدولة، غير أفكاره وآرائه”. ولذلك، رغب في أن يُطلعهم على ما يراه وما يفكّر فيه، وبما يفتح الطريق إلى بناء دولةٍ تحترم مواطنيها، وتضمن حقوقهم، وتصون حرياتهم. وكانت المذكّرة أشبه بوصيةٍ تحمل بوحاً ذاتياً بعكس معاناة حاكمٍ، تنوء دولته الفتية بمشكلاتٍ لا قبل لها بتحمل وطأتها.
يكتب فيصل: “ما ينقص البلاد هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى، منقسمة على بعضها، يحتاج ساستها إلى أن يكونوا حكماء مدبّرين. وفي عين الوقت، أقوياء مادة ومعنى، غير مجلوبين لحساباتٍ شخصيةٍ أو طائفيةٍ متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة معا، وعلى جانبٍ كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي”. ويضيف واضعاً يده على الجرح: “إن في العراق أفكاراً ومنازع متباينة، ففضلا عن السنة والشيعة والأكراد والأقليات غير المسلمة، هناك الشباب والعشائر والشيوخ، أما السواد الأعظم من المجتمع العراقي فهم الذين يخيم عليهم الجهل والاستعداد لقبول كل فكرةٍ صالحةٍ أو سيئةٍ بدون مناقشة”. وعلى الرغم من ذلك، يدعو الملك المؤسس خاصّته إلى احترام الرأي العام، حيث أن “اللامبالاة به خطيئة لا تغتفر”.
كان يطمح أن يكون شعبه “مهذّباً ومدرباً ومتعلماً”، لكنه كان يدرك صعوبة تحقيق ما يريده، وإن لم يتخل عن تفاؤله حتى اللحظة الأخيرة، إذ دعا شعبه، وهو يصارع الموت، إلى أن يكون موحّدا وقوياً، وقد بدا في تفكيره، وفي إدارته شؤون البلاد، وهي في مرحلة التأسيس، أكثر حكمةً من كل من حكم البلاد من بعده، وهذا ما أقرّ به عراقيون خضعوا لاستبيانٍ أجراه موقع إحصائي في حينه.
وكان أحمد شوقي قد وصفه في زمانه بأنه “ملك الشط والفراتين والبطحاء”. لكن ما جرى في عهود الجمهوريات مثّل تفريطا بهذا كله، إذ لم يعد العراق يملك الشط، بعدما تنازل حكامه عن نصفه لإيران، في صفقةٍ سياسيةٍ خاسرةٍ أحاطت بها الشكوك، وصمتوا عن الرد عندما استولت على نصفه الثاني. وتعرّض الفراتان للجفاف، جرّاء تجاهل تركيا حقوق العراق المائية، بعدما وجدت خنوعا لدى حكامه. أما البطحاء، فقد تقلصت مساحتها وتصحّرت، ولم تعد زراعة العراق تكفي سكانه.
وعلى الرغم من أن المقارنة غير واردة بين عصري الملوك والجمهوريات التي جاءت بعده، إلا أن لفتةً ذكيةً لعالم الاجتماع الراحل، علي الوردي، حذفت من آخر لقاء تلفزيوني له قبل رحيله، تشكّل أكثر من دلالة، حيث سأله المذيع ما الذي يفعله، لو قدّر له أن يعود إلى عصر ما قبل الجمهوريات، أجاب: “سوف أكون شاعر البلاط الملكي”.
هكذا تظل “الجمهورية” شعاراً حلواً وجميلاً في ظل النظام الملكي، فإذا ما انحسر ظل الملوك، وقدّر للجمهوريات في نسختها العراقية أن تحيا، أكلت الشرور المجتمع كله، وأصبحت مفردات العدل والحرية والوحدة محض أوهام. وهكذا أيضاً لم يبق من عصر الملوك سوى كسر متناثرة، لم يعد الحنين يكفي لإعادة توضيبها، إذ “وقع الفاس بالراس”، كما يقول أجدادنا في مأثوراتهم، ولسوف نعترف، بعد حين، بأننا لم نعد “أمة تنشأ الحياة وتبني”، كما وصفنا شوقي في عهد فيصل، والآتي أعظم.
عن “ملك الشط والفراتين والبطحاء”
عبد اللطيف السعدون
العربي الجديد