خلال السنوات الخمس من الحرب السورية، مرت ظروف كثيرة بدت وكأنها ستكون محورية، لكن في الواقع كانت فرصها المحورية قليلة. للمراقب من الخارج، كانت الحرب السورية مستنقعًا سوريًا، من يدخل إليه يتورط.
في الأشهر الماضية جرى تحول كبير في الساحة العسكرية السورية، ويبدو أن اللحظة الحاسمة تقترب. هذا لا يعني أن الحرب تشارف على نهايتها، إنما معركة كبرى تلوح في الأفق. معركة حلب سوف تكون محورية. منذ منتصف الشهر الماضي، يركز كل الذين استثمروا في هذه الحرب على هذه المدينة، التي أصبحت رمزًا لكل طرف. ففي 18 أكتوبر (تشرين الأول) تعرضت روسيا وحلفاؤها السوريون لضغوط من أجل التوقف عن الضربات الجوية على حلب، حيث قالت الحكومات الغربية إن تلك الغارات تقتل أعدادًا كبيرة من المدنيين، وهذا ما نفته موسكو رغم كثرة الضحايا.
لكن وقف الغارات الجوية لم يمنع الروس من توسيع وجودهم العسكري في البحر الأبيض المتوسط، فدفعوا بالسفن الحربية نحو سوريا، للروس الآن نحو 10 سفن بحرية قبالة الساحل السوري، وخلال الأسابيع الماضية أبحرت 8 سفن بحرية بقيادة حاملة الطائرات الروسية الوحيدة «الأدميرال كوزينتسوف». تدخل «كوزينتسوف» منطقة الشرق الأوسط وعلى متنها 15 طائرة مقاتلة، و10 طائرات هليكوبتر هجومية، وهذه إشارات لافتة للخطوات الروسية في «الحملة السورية».
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من محاولات الفصائل المسلحة تحقيق تقدم على الأرض، فإن هناك احتمالاً كبيرًا بأن الروس وحلفاءهم السوريين سيؤمنون السيطرة الكاملة على حلب، قبل تنصيب الرئيس الأميركي الجديد. ومن المرجح أن ترفض موسكو أي محاولات من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أو من غيرها من اللاعبين الدوليين «المذعورين»، مثل الاتحاد الأوروبي، للتخفيف من حدة الأزمة. من هنا، فإن مستقبل سوريا سيكون مشكلة ستواجهها من اليوم الأول رئاسة دونالد ترامب.
يتمتع النظام السوري بميزة عسكرية مكَّنته من تحقيق إنجازات في الأسابيع الأخيرة. ومن الواضح أن روسيا وإيران وجميع حلفاء نظام بشار الأسد يستعدون لتكثيف الضغط على المعارضة المسلحة، لذلك، وفي ظل المناخ الحالي، تكتسب معركة حلب أهمية خاصة بالنسبة إلى النظام وحلفائه، لأنهم يدركون أن هزيمة تلك المعارضة ستحقق لهم مكتسبات تكتيكية واستراتيجية. إن السيطرة على حلب (في حين لا يزال يسيطر على دمشق ويتقدم في ضواحيها) تعني أن نظام الأسد حصّن قبضته مرة أخرى على المناطق الأساسية في غرب سوريا، بحيث يحصر المعارضين في إدلب فيحقق منطقة متلاصقة ومترابطة تحت سيطرته.
بقدر ما تعني هذه الإنجازات من الناحية المادية بالنسبة إلى سيطرة النظام، فإن هناك أيضًا تأثيرًا نفسيًا إن كان بالنسبة إلى المعارضة أو إلى النظام ومن يدعمه، وأيضًا بالنسبة إلى المجموعة الدولية التي عليها في نهاية المطاف أن تتعامل مع مجموعة مختلفة من القوى على أرض المعركة السياسية السورية، ومع ذلك كله لن يستطيع النظام التغلب على المعارضة في هذه المناطق، وسوف يحتاج إلى استثمار كثير من الموارد للحفاظ على هذه الإنجازات والاستفادة منها، وستكون قدرته على بسط سيطرته على مناطق أخرى محدودة بسبب القيود على الأرض.
معسكر المعارضة في حلب يقاتل، ويحاول الاستيلاء على غرب حلب، لكن ليس هناك أي احتمال حقيقي بأن الذين يقاتلون النظام قادرون على التمسك بحلب على المدى الطويل. بالنسبة إليهم، الحد الأقصى الذي يتطلعون إليه في هذه المعركة هو إنهاك النظام وشده مع حلفائه إلى معارك طويلة ودموية مع حماية أحيائهم المحاصرة. هذه الاستراتيجية تحقق لهم كسبًا، وتقوي موقفهم في المفاوضات النهائية حول مستقبل سوريا. هذا هو الهدف في أذهانهم، كما يتم لعب هذه اللعبة على المستوى الدولي.
فعلى الصعيد الدولي، واجه الأسطول الروسي عرقلة أوروبية عندما منعت الحكومة الإسبانية السفن المتوجهة إلى سوريا من الرسو في موانئها على البحر المتوسط للتزود بالوقود أو بالإمدادات الأخرى. وقال سيرغي شويغو وزير الدفاع الروسي، الأسبوع الماضي، إن هذا الرفض لم يؤثر على المهمة البحرية، لكن هذا يعكس وبلا شك التوتر الحالي بين القوى العظمى، فمنذ انهيار وقف إطلاق النار القصير الأمد، فشلت تلك القوى في إعادة إحيائه، ويتضاءل احتمال التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإلى استئناف العملية السياسية في سوريا، وتقول القوى العظمى إنها «تكافح» من أجل استئناف المفاوضات. وبدا شويغو مصابًا بخيبة عندما قال في الأول من هذا الشهر: «إن احتمالات البدء في عملية تفاوض والعودة إلى الحياة السلمية في سوريا تأجلت إلى أجل غير مسمى».
قد يكون بشار الأسد الوحيد غير المهتم بالحل السياسي، كما قال لصحيفة «صنداي تايمز»، يوم الأحد الماضي، إلا أن معظم اللاعبين الخارجيين لا يزالون مهتمين بالتوصل إلى حل سياسي للصراع في سوريا، لكن الحوار المتعلق بالحل يواجه طريقًا مسدودًا لأن مستقبل الأسد وراء ذلك. وفي حين يستمر هذا الجمود، وتركز الأطراف جهودها على القتال، فإن التعاون الوثيق بين الأطراف المؤيدة للنظام مثل روسيا وإيران سيتكثف، كون الأهداف مشتركة.
ومع ذلك، وعلى المدى البعيد، إذا ما عادت المفاوضات السياسية وتم إحراز تقدم كبير، فمن المرجح أن تتعمق الخلافات في الرأي لدى الأطراف الموالية للنظام. وفي حين أنه ليس لدى النظام السوري أي استعداد للمساومة على مستقبل بشار الأسد، فإن هذا لا يعني أن موسكو وطهران تشعران بالالتزام نفسه. وتذكر تحليلات أمنية أنه في حين أن العاصمتين تدعمان حاليًا نظام الأسد، فإن هذا الدعم لا يعني أنهما تريان أن استمرار سيطرته أمر لا مفر منه، بل إنهما ترغبان في الحفاظ على نظام سيخدم مصالحهما في سوريا، وبالتالي من المرجح أن توافقا على التخلي عنه في حال التسوية السياسية المناسبة التي تسمح لهما بمعبر للخروج من الأزمة الراهنة.
عودة إلى معركة حلب، تُظهِر أنها ستشكل تحديًا للشاغل الجديد للبيت الأبيض، فإذا قرر أنه لا خيار أمامه سوى البحث عن حل دبلوماسي في سوريا وفقًا للشروط الروسية، فإنه سيلحق ضررًا كبيرًا، في وقت مبكر جدًا، بمصداقية إدارته على الصعيد العالمي. أيضًا، إذا اختار الرد بكل قوة فقد تكون النتائج مزيدًا من الموت في سوريا، وخلافًا عميقًا مع موسكو قد يثقل على الدبلوماسية الأميركية لسنوات مقبلة.
بعض المعلقين يخشون من أن النزاع الدبلوماسي الحالي مع روسيا يخرج عن السيطرة. الأسبوع الماضي قال الجنرال البريطاني المتقاعد ديفيد ريتشاردز: «إن السبيل الوحيد لتخفيف الأزمة الإنسانية في حلب هو السماح للأسد بأن يكسب ويكسب بسرعة، ثم العمل مع روسيا للقضاء على ما يسمى (الدولة الإسلامية) في أماكن أخرى من سوريا».
دونالد ترامب اعتبر، الشهر الماضي، أن حلب سقطت، وهذا يعني أنه لن يلتفت إلى المعارضة، وربما قد يساعد على تجنب كارثة هناك بإقناع روسيا بالدفع إلى حل سلمي. على كل، فإن الإدارة الجديدة ستتجنب مواجهة مفتوحة مع روسيا في سوريا كي لا تقع في مستنقع شبيه بالمستنقع العراقي، وقد تعتمد توجه إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون بالنسبة إلى فيتنام، بأن تهدد علنيًا بعمل عسكري في سوريا ضد روسيا، في حين ترسل سرًا إلى موسكو ودمشق بأنها على استعداد للتوصل إلى صفقة، إنما بعد أن تستعرض أمام العالم قوتها العسكرية.
إدارة أميركية برئاسة ترامب قد تحسب أنه يمكن لها أن تعتمد خدعة نيكسون في سوريا: على المدى القصير استعراض قوة عسكرية قبل السماح لدمشق بدعم روسي بأن تجنح إلى مفاوضات سلمية مع كل أطراف المعارضة السورية. وقد تعمد إلى ذلك من دون تردد، لأن الرأي العام الأميركي لا يمكن أن يكون انتخبها من أجل إيجاد حل سلمي في سوريا، أو من أجل التدخل عسكريًا هناك.
هدى الحسيني
صحيفة الشرق الأوسط