أخذ النقاش العالمي الدائر منذ حين حول الانتخابات الأميركية حيزا كبيرا في طهران، وانقسم المتتبعون للانتخابات الأميركية حول الذي يعنيه فوز كل من المرشحين الرئيسيين بالنسبة لإيران داخليا وإقليميا.
وكان السؤال الرئيس المطروح يركز على المصالح والأمن القومي الإيراني: أي المرشحين أفضل لأمن ومصالح إيران القومية، وانقسمت الآراء بين القائلين بأرجحية هيلاري كلينتون باعتبارها استمرارا للخطوط العريضة لنهج الرئيس أوباما والمرجحين لترامب باعتباره شخصية شعبوية وشاذة على الساحة السياسية الأميركية ستنشغل بالدرجة الأولى ولسنوات بالداخل الأميركي.
أما على المستوى الرسمي فلم يصدر تصريح يرجح مرشحا أو يُعبر عن تقارب ما مع أحد المرشحين. ومن المؤكد أن انتخاب ترامب سيؤدي إلى إظهار الموقف الرسمي بشكل أكثر وضوحا. فها هو وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف يُصرح بضرورة التزام الولايات المتحدة بتطبيق الاتفاق الدولي المتعدد الأطراف الذي قبلته سابقا. ويضيف ظريف أنه يجب على من يصبح رئيسا للولايات المتحدة أن يفقه حقائق العالم ومنطقتنا ويتعامل معها بواقعية.
والواضح أن الوزير يُعرج على تصريحات سابقة لترامب ويستخلص منها النقطتين السالفتين. فكيف ستكون سياسة ترامب تجاه طهران بعد التأكد من دخوله البيت الأبيض، وما المتوقع من تأثيراته على إيران وسياستها الإقليمية. للإجابة على السؤال نطرح ثلاث نقاط ونلج في الإجابة بعد ذلك.
“الفرضية الإيرانية تقول إن ترامب لن يتمكن من بناء تحالف ضد إيران بسهولة؛ إذ لا يتمتع الرجل بالخبرة الدولية اللازمة للقيام بهذه المهمة من جهة ولا يحظى بشعبية -أو بالأحرى شرعية-دولية كتلك التي كانت بجعبة الرئيس أوباما أو كلينتون للقيام بأمر كهذا من جهة ثانية”
تخص النقطة الأولى مدى قدرة ترامب إحداث إجماع دولي حول إيران الموقعة على اتفاق دولي وتُوجه سياستها الدولية دبلوماسية روحاني، ظريف. إذ من أهم التنظيرات المتبنية لفرضية رجحان ترامب لمصالح وأمن إيران القومي والتي سبقت انتخابه رئيسا للولايات المتحدة، هي أنه ليس بمقدور ترامب بناء إجماع دولي لمواجهة إيران حتى لو صدق ومزق الاتفاق النووي. فالمعروف أن الرئيس أوباما تمكن من بناء تحالف دولي داعم لسياسته تجاه إيران فيما يخص الملف النووي.
وقد استفاد من هذا التحالف في نسج “نظام العقوبات” المحكم الذي لم يطح به إلا تطبيق الاتفاق النووي وتوقيع إيران عليه. وكما اتضح من طريقة إدارته للملف النووي، فإن سياسة الرئيس أوباما تجاه إيران قامت على دعامتين أساسيتين: البناء على تحالف دولي يُجمع على سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران أولا واستخدام هذا الإجماع للضغط على طهران في إطار دبلوماسية متعددة الأطراف تعبر عن إجماع دولي ثانيا.
الفرضية الإيرانية تقول إن ترامب لن يتمكن من بناء تحالف ضد إيران بسهولة؛ إذ لا يتمتع الرجل بالخبرة الدولية اللازمة للقيام بهذه المهمة من جهة ولا يحظى بشعبية -أو بالأحرى شرعية- دولية كتلك التي كانت بجعبة الرئيس أوباما أو كلينتون للقيام بأمر كهذا من جهة ثانية.
النقطة الثانية أنه -كأسلافه- تختلف رؤية ترامب الانتخابية عن رؤيته كرئيس للجمهورية؛ فالواضح أن ترامب تشدد في انتقاد الاتفاق النووي وما اعتبره تراخ للرئيس أوباما أمام إيران وسياساتها الإقليمية، إلا أن هذا التشدد جاء في خضم حملة انتخابية أتت على كل سياسات الرئيس الحالي تقريبا بهدف التأكيد على أنه آت بسياسات مختلفة تخدم المصالح الأميركية أولا.
ومن أهم خصائص الحملات الانتخابية أنها تأتي بانتقادات كثيرة دون طرح البديل الأنجع والأصح وفق رؤية المرشحين. فإن نزلنا من أعالي خطاب ترامب وانتقاداته لسياسة الرئيس أوباما تجاه إيران، نجد أنه لا يطرح بديلا للسياسة الحالية. فهو يتكلم عن أن الاتفاق النووي “أسوأ اتفاق” قامت بتوقيعه الولايات المتحدة، لكنه لا يتكلم عن أن “الاتفاق” و”الدبلوماسية” إزاء إيران كانت الخيار الخاطئ. بل جل ما يطرحه الرجل هو أنه كان سيحصل على اتفاق أفضل لو كان قائما على المفاوضات بدل أوباما وكيري.
النقطة الثالثة تخص طبيعة الوضع الدولي الراهن وتأثيره على الأولويات الأميركية في المرحلة المقبلة. ويجمع الكثير من منظري العلاقات الدولية على أن العالم يمر بمرحلة انتقالية وأن هناك نظاما آخر في طور التشكيل تكون الولايات المتحدة فيه أحد أقطاب القوة لا القطب المسيطر. وما كانت سياسة الانتقال إلى شرق آسيا للرئيس أوباما إلا بلورة للاستعدادات الأميركية لمواجهة المرحلة القادمة.
“بشكل عام لم يطرح ترامب حتى الآن بديلا للسياسة المتبعة حاليا إزاء إيران. وليس بمقدوره، حسب الكثير من الإيرانيين، بناء تحالف متماسك أمام إيران كذلك التحالف الذي بُنيت عليه الضغوط الأميركية المنتهية إلى توقيع الاتفاق النووي”
ومن إسقاطات هذه السياسة على الشرق الأوسط هو تراجع المنطقة في سلسلة الأولويات الأميركية. ولا يعني ذلك غض واشنطن الطرف عما يحدث هناك، لكنه يعني محاولة إدارة المنطقة من المنطقة وبأموال المنطقة. فهل سيتراجع ترامب عن التركيز على القوى الصاعدة، وتعود مناطق كالشرق الأوسط إلى المحورية في الرؤية الأميركية. تصعب الإجابة بدقة إلا أن تركيز جزء هام من خطاب ترامب في الحملة الانتخابية على الصين وروسيا وانتقاده اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) تبين مدى انشغال النخب الأميركية بحالة الانتقال تلك، ومن هذا المنطلق لا يبدوا صاحب مقولة “على الحلفاء دفع فاتورة الحماية” بعيدا جدا عن سياسة أوباما الشرق أوسطية.
بشكل عام لم يطرح ترامب حتى الآن بديلا للسياسة المتبعة حاليا إزاء إيران. وليس بمقدوره، حسب الكثير من الإيرانيين، بناء تحالف متماسك أمام إيران كذلك التحالف الذي بُنيت عليه الضغوط الأميركية المنتهية إلى توقيع الاتفاق النووي. أضف إلى ذلك أنه وبعد الانتهاء من الانتخابات، ينزل ترامب من فضفضة الدعاية الانتخابية إلى حلبة الواقع التي ستساعد في تأطير شعاراته بشكل كبير. إذن ما الجديد في سياسة الولايات المتحدة إزاء طهران. وما شكل سياسة ترامب الشرق أوسطية وأين تقع طهران من وفي هذه السياسة. هناك ثلاثة أجوبة يمكن طرحها من منظور الواقع الحالي والطريقة المحتملة لتغييره.
الإجابة الأولى ترصد أهم اتفاق دولي وقعته طهران بعد ثورتها عام 1979 أي الاتفاق النووي؛ فقد بدى للكثير من المتتبعين أن تصريحات وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف تنبع من خشيته من تهور ترامب في التعاطي مع الاتفاق النووي؛ لكن إن راجعنا تصريحات ترامب على مدى أكثر من سنة سنصل إلى نتيجة مختلفة عن الكثير من القراءات.
فقد أكد الرجل غير مرة أن الاتفاق النووي سيء جدا بل وزاد ذلك في إحدى خطبه الانتخابية، الموجهة للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)، أنه سيمزق الاتفاق باعتباره اتفاقا يضر بالمصالح الأميركية والإسرائيلية؛ ولكن هل على طهران الخشية من تمزيق ترامب للاتفاق؟
هناك ثلاث نقاط علينا النظر إليها عند الإجابة. النقطة الأولى أنه إلى جانب ذكره تمزيق الاتفاق لمرة واحدة، فقد أكد أكثر من مرة أنه سيراقب الاتفاق بدقة وسيتأكد من التزام إيران به. النقطة الثانية وبالإشارة إلى الاتفاق، ذكر أنه سيلتزم بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها الولايات المتحدة. النقطة الثالثة تعود لطبيعة الاتفاق نفسه باعتباره اتفاقا دوليا؛ فليس بمقدور الولايات المتحدة التراجع عن وثيقة دولية وقعت عليها كل الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا دون مواجهة عواقب لهذا التراجع.
إذن، ونظرا للنقاط السالفة، من الصعب القبول بأطروحة تمزيق الاتفاق. والواضح أن الوزير ظريف ينتقل بنظرته المستقبلية إلى الاحتمالات المقبلة، ويُذكر الأطراف الموقعة على الاتفاق بالاستعداد لمواجهة هذه الاحتمالات من خلال تذكيره ترامب بأن الاتفاق دولي.
“نخلص إلى نتيجة هامة هي أن ترامب لا يختلف مع إيران إلا فيما يخص إسرائيل والمقاومة ضدها. وهي نقطة اختلاف تقليدية لم يبتكرها ترامب أو سلفه. أما أهم المحاور في خطابه فلا تضع إيران والولايات المتحدة على طرفي نقيض”
الإجابة الثانية تخص سياسة ترامب إزاء الأزمات الرئيسية في الشرق الأوسط. وهناك أربع نقاط تُطرح حول هذه السياسة. الأولى أن ترامب ينظر إلى الرئيس السوري بشار الأسد باعتباره خيرا من المعارضة المسلحة ويرى في إضعافه تزويدا لداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) بالقوة. هذا إلى جانب رفضه إقامة منطقة حضر جوي على سوريا.
وإذا وضعنا كل هذه النقاط في خريطة رؤية ترامب للشرق الأوسط، نخلص إلى نتيجة هامة هي أن ترامب لا يختلف مع إيران إلا فيما يخص إسرائيل والمقاومة ضدها. وهي نقطة اختلاف تقليدية لم يبتكرها ترامب أو سلفه. أما أهم المحاور في خطابه فلا تضع إيران والولايات المتحدة على طرفي نقيض.
الإجابة الثالثة والأخيرة تخص العلاقة الثنائية بين إيران والولايات المتحدة، فهل من جديد في هذا الصدد. من أهم الانتقادات التي طرحها ترامب لسياسة سلفه هي أن الولايات المتحدة أفرجت عن الأرصدة الإيرانية لتشتري إيران بها الإيرباص بدل البويينغ. وذكر بأن إيران تشتري الطائرات والمنظومات الدفاعية والصواريخ من دول كروسيا والصين، وعلل ذلك بـ”حماقة” العقوبات الأميركية الأحادية المفروضة على إيران. أي أن ترامب ورغم انتقاده الاتفاق النووي، ينظر إليه من نافذة شعار “أميركا أولا” وينتقد ضآلة الفرص الاقتصادية التي أتاحها للولايات المتحدة.
إذن فالمحور في رؤية رجل الأعمال لإيران، وبغض النظر عن سياستها الإقليمية، لا يختلف عن رؤيته لباقي الدول التي تتعامل معها الولايات المتحدة، حيث يأتي الاقتصاد في الرجة الأولى. فهل سيرفع من هذا المنظور العقوبات الأحادية عن إيران، وهل سيتعامل معها من منظور اقتصادي بدل التركيز على الأمن.
الواقع أنه إذا نظرنا لتاريخ علاقة الولايات المتحدة بالجمهورية الإسلامية، فثمة تقليد يضع صورة إيران في إطار أمني على جدران البيت الأبيض.. ولكن هل سيتغير ذلك؟ إن تغيرت النظرة الأمنية، سنكون إزاء نقلة نوعية في العلاقات الإيرانية الأميركية تنبئ بتطورات كبيرة على مستوى الإقليم.