مع بداية عمليات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على مدينة الموصل، عاصمة تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق، تتوجه الأنظار إلى معركة تحرير مدينة الرقة عقب إعلان قوات سوريا الديمقراطية ذات الأغلبية الكردية والمدعومة من الولايات المتحدة عملية استعادة الرقة من سيطرة التنظيم، لعزل “داعش الرقة” عن “داعش الموصل”، في خطوة للقضاء على المناطق الرئيسية لتمركز التنظيم بالشرق الأوسط.
وينظر إلى معركة الرقة بوصفها المعركة الكبرى الحاسمة التي من المفترض أن تضع نهاية للتنظيم، لا سيما أنها تأتي بعد أسابيع قليلة من انطلاق معركة الموصل في العراق. وعلى الرغم من بداية تلك المعركة فإن ثمة تعقيدات وعقبات تعترضها، لغياب جبهة موحدة للقوى التي من المفترض أن تشارك فيها، وثانيًا للتناقضات الكردية – التركية الكبيرة حول قيادة قوات سوريا الديمقراطية لتلك المعركة، فضلا عن أن جغرافيا الرقة المفتوحة على عدة محافظات سورية (الحسكة، دير الزور، حماة، حمص، حلب) تجعل منها معركة معقدة ومتداخلة، مع صعوبة تطويق المدينة من كل الاتجاهات في ظل تعدد القوى الراغبة بالمشاركة في هذه المعركة.
ما هي القوى المشاركة؟
خلافًا لمعركة الموصل التي تقودها قوات الجيش العراقي إلى جانب البيشمركة الكردية والحشد الشعبي، فإن هوية القوى المرشحة للمشاركة في معركة الرقة غير واضحة حتى الآن، ولعل من أبرز هذه القوى:
1- قوات سوريا الديمقراطية: وهي قوات تشكل وحدات حماية الشعب الكردية عمادها الأساسي، وتقدر أعدادها بنحو 30 ألف مقاتل، وتتمركز بشكل أساسي في مناطق شمال الرقة وشرقها وغربها، وهي القوات التي بدأت بالفعل هذه المعركة. ومعروف أن هذه القوات على تحالف مع الولايات المتحدة التي تقوم بتأمين التغطية الجوية لها، كما جرى في معركة منبج، ومن قبل مع وحدات حماية الشعب في معركة كوباني – عين العرب.
2- قوات درع الفرات: وهي مجموعة من فصائل الجيش الحر، ولواء السلطان با يزيد، والجيش التركماني، وبعض الفصائل الإسلامية المتشددة التي شاركت في معركة جرابلس، وترتبط هذه القوى عمليًّا بتركيا التي تتبناها وتقدم لها المساعدة العسكرية والسياسية.
3- تركيا: وتقول إن معركة الرقة تعني قيمة استراتيجية لأمنها الوطني والقومي، ولهذه الغاية تُجري محادثات مع الولايات المتحدة بهدف المشاركة في معركة الرقة، وتتخذ إجراءات أمنية وعسكرية على الحدود استعدادًا لها.
4- الجيش السوري المتواجد في مناطق قريبة من الرقة، لا سيما في منطقتي الباب والطبقة، حيث سد الفرات، وهو هنا يعول على الحليف الروسي في تحقيق مشاركة فعالة في هذه المعركة بوصفها معركة تعني السيادة السورية.
وفي ظل تعدد هذه القوى وتناقض أجندتها، فمن المتوقع أن تأخذ المعركة اتجاهين. يتضمن الاتجاه الأول سعي القوى المحلية للحصول على المزيد من الدعم الدولي لخوض هذه المعركة، ومحاولة إقامة تحالفات على الأرض في إطار شعار مكافحة الإرهاب من أجل نيل مشروعية ملء الفراغ الذي سيتركه تنظيم داعش في مرحلة ما بعد التحرير. أما الاتجاه الثاني فيتعلق بالتنافس بين الدول المعنية والمتدخلة في الأزمة السورية من أجل تأمين مصالحها وامتلاك القدرة على فرض رؤيتها للتسوية في المرحلة المقبلة. وعليه، فإن معركة الرقة تبدو محكومة بالتعقيدات السابقة، ولعل هذا ما يفسر غموض الموقف الأمريكي الذي يوحي من جهة بأن المعركة تسير على قدم وساق، ومن جهة ثانية بعدم الإعلان عن إطلاق هذه المعركة عمليًّا رغم التصريحات المتواترة عن بدء المعركة.
تناقض الشروط التركية – الكردية:
تسعى الإدارة الأمريكية إلى تشكيل أوسع جبهة من الحلفاء لمعركة الرقة، لكن من الواضح أن مهمتها هذه صعبة جدًّا في ظل الشروط المتناقضة للخصمين اللدودين (تركيا والأكراد). فالتحدي الأساسي الذي تُواجهه الإدارة الأمريكية يكمن في كيفية التوفيق بين مشاركة الحليفين المهمين لها، فهي تحرص على مشاركة تركيا في هذه المعركة، وفي الوقت نفسه تؤكد مشاركة قوات سوريا الديمقراطية بوصفها قوات حليفة ومجربة وموجودة على الأرض، وهو ما تفسره زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية جوزف دانفورد إلى أنقرة يوم الأحد (6 أكتوبر 2016).
وتتلخص الشروط التركية للمشاركة، كما أعلنها الرئيس رجب طيب أردوغان مرارًا، في استبعاد قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية من المشاركة، مقابل إعطاء الدور الأساسي للفصائل المسلحة المشارِكة في عملية درع الفرات، لا سيما الجيش الحر. وتنطلق الرؤية التركية من ضرورة إبعاد الخطر الكردي، خاصة أنها تعتقد أن مشروع قوات سوريا الديمقراطية هو في الجوهر مشروع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًّا من قبل أنقرة، ولعل هذا الموقف يضع تركيا في معضلة سياسية وأخلاقية في ظل الإصرار الأمريكي على مشاركة قوات سوريا الديمقراطية، ودخول تركيا في هذه المعركة بمشاركة الأكراد، الأمر الذي يعني اعترافًا سياسيًّا من قبلها بهذه القوى في الوقت الذي تصنفها في خانة الإرهاب.
إن الهدف الأساسي للسياسة التركية تجاه الأزمة السورية بات ينصب على إبعاد الخطر الكردي أكثر من إسقاط النظام، حيث تقول إن سيطرة الأكراد على مناطق واسعة في شمال سوريا ستمهد لإقامة كيان كردي ستكون له انعكاسات على الداخل التركي في ظل تصاعد حدة المواجهات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، ولعل هذه المواجهات مرشحة لمزيدٍ من التصعيد بعد اعتقال السلطات التركية نوابًا وقادة حزب الشعوب الديمقراطية الموالي للأكراد.
مقابل الشروط التركية هذه، يضع الأكراد مجموعة من الشروط المضادة لخوض معركة الرقة، لعل أهمها: إبعاد تركيا عن المشاركة بوصفها ستكون قوة احتلال لأراضٍ سورية، والحصول على أسلحة ومعدات متطورة، واعتراف أمريكي بالحقوق السياسية للأكراد (الفيدرالية)، وتأمين مشاركة الأكراد في أي مفاوضات لحل الأزمة السورية سياسيًّا، سواء أكانت مفاوضات جنيف أم غيرها.
إن الشروط التركية والكردية للمشاركة في معركة الرقة متباعدة ومتناقضة، إلى درجة أن كل طرف يريد إلغاء مشاركة الآخر، وهذا الأمر نابع من الأجندة الخاصة لكل طرف، ولعل هذا ما يفسر غموض التصريحات الأمريكية من جهة، وتناقض هذه التصريحات من جهة ثانية. إذ لم يعد غريبًا أن نجد في اليوم الواحد تصريحات أمريكية متناقضة، بين مسئول يبدي الدعم للأكراد وينتقد تركيا، ومسئول آخر يؤيد المواقف التركية ويطالب الأكراد بالانسحاب إلى شرق نهر الفرات نزولا على رغبة الحكومة التركية، مع أن هناك من يرى أن هذا التناقض في التصريحات الأمريكية نابع من الحرص على مشاركتهما في المعركة.
وإلى حين انتظار جلاء الموقف، فإن ثمة قضية حساسة تتعلق بمدينتي الباب ومنبج، إذ تؤكد تركيا أنه إذا لم تخرج قوات سوريا الديمقراطية من المدينتين فإنها ستُخرجها بالقوة، وهو ما يفتح باب المواجهة العسكرية بين الجانبين، في الوقت الذي لا يمكن فيه بدء معركة الرقة دون قطع الطريق بينها وبين مناطق ريف حلب الواقعة تحت سيطرة داعش، لا سيما مدينة الباب التي تحظى بمكانة رمزية واستراتيجية لدى التنظيم.
سيناريوهات مفتوحة:
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا، هو: ماذا لو فشلت الإدارة الأمريكية في الجمع بين الحليفين التركي والكردي في معركة الرقة؟.
مع تهرب الولايات المتحدة من الاستجابة لطلب تركيا بإبعاد قوات سوريا الديمقراطية عن المشاركة في معركة الرقة، بل والإشارات الأمريكية التي تؤكد مشاركة هذه القوات، والحديث عن بدء وصول أسلحة أمريكية متطورة لهذه القوات، وبدء الأخيرة بعمليات عزل مناطق محيطة بالرقة بالتوازي مع تدمير قوات التحالف الدولي جسورًا يمكن أن يستفيد منها داعش في تنقلاته، ثمة من يرجح أن تخوض الولايات المتحدة معركة الرقة بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية دون مشاركة تركيا، لكن هذا السيناريو يواجه مخاطر كبيرة أو سيناريوهات مضادة، يمكن تلخيصها في:
1- قد يُمهِّد السيناريو السابق لتدخل عسكري تركي مباشر على شكل غزو لمناطق في شمال سوريا، لا سيما من بوابتي تل أبيض ومنبج، إذ تشير التقارير إلى أن تركيا باتت تخطط لعملية عسكرية جديدة تحت عنوان “درع الجزيرة” على غرار “درع الفرات”، وقد أعدت لهذه العملية 40 ألف جندي، ومحور هذه العملية يبدأ من تل أبيض ويتجه شرقًا، أي باتجاه العمق الكردي، وإذا ما حصل هذا السيناريو فإن القوات الكردية ستُضطر إلى مواجهة التدخل التركي بدلا من التوجه إلى الرقة. ولعل تركيا ترى في الانشغال الأمريكي بنتائج الانتخابات الرئاسية فرصة لفرض أجندتها، خاصة إذا وجدت أن معركة الرقة ستكون على حساب دورها ورؤيتها.
2- أن الجيش السوري الذي يستعد مع حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله اللبناني لحسم معركة حلب عسكريًّا، يتطلع إلى أن يستبق الجميع إلى معركة الرقة بدعم من روسيا، فمثل هذه المعركة ستحقق له أولا شرعية مكافحة الإرهاب، وثانيًا ستحقق له منجزات كبيرة على الأرض من بوابة استعادة السيادة على الأرض. ولعل مثل هذا الأمر يحظى باهتمام روسيا في إطار الصراع الجاري مع الولايات المتحدة على سوريا والمنطقة عمومًا.
3- مرحلة ما بعد معركة الموصل تبدو مفتوحة على معركة الرقة، ولكن هذا المسار يسير في اتجاهات مختلفة. فمن جهة تعمل الولايات المتحدة وبريطانيا وبدعم من الأردن على إعداد مجموعات من القوى العسكرية في جنوب محافظة دير الزور يبدو أن مهمتها التحرك نحو الرقة في المرحلة المقبلة، وقد تكون مهمة هذه القوات استكمال مهمة قوات سوريا الديمقراطية. ومن جهة ثانية ثمة ملامح محور سوري عراقي إيراني يسعى إلى ربط مناطق في شمال العراق بسوريا، وتحديدًا عبر خط تلعفر – الرقة عبر جنوب الحسكة، ولعل الحشد الشعبي المدعوم من إيران يشكل الأداة الأساسية لهذا السيناريو حيث عبر مسئولون من الحشد عن استعدادهم لملاحقة داعش داخل الأراضي السورية.
في الختام، توحي التعقيدات السابقة بالإشكالية المتعددة التي تواجهها معركة الرقة والتي ستؤثر على مجرياتها، خاصةً أن الولايات المتحدة في مرحلة انتقالية بعد انتخاب رئيس أمريكي جديد في الثامن من نوفمبر، ولذا فإن تحرك طرف ما منفردًا في المعركة قد يخلط الأوراق ويفتح باب المواجهة لا سيما بين تركيا والأكراد، والصدام والمواجهة المحلية والإقليمية أكثر من تحرير الرقة من تنظيم “داعش”.