ما لا أستطيع استيعابه كيف ستجاري على أقل تقدير منافسك السياسي إنْ كان شخصاً أو حزباً أو جماعة ضغط أو «لوبي» أو دولة إذا كنت لا تدرك كيف يفكر وما هي الخطوات القادمة الأكثر احتمالاً والأقرب لواقعه ومصالحه وموارده واحتياجاته وإمكاناته ومقدراته وميوله وثقافته ومعطيات ومرجعيات قراءاته والدوائر الأقرب والأكثر تأثيراً في عمليات اتخاذ قراراته؟
ولذلك تفاجأ الكثير لدينا في العالم العربي بفوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية، وكانت المفاجأة حتى من جانب كبار المحللين والمراقبين في مراكز دعم القرار والبحوث المتخصصة، كما أن استطلاعات الرأي العام الأميركية نفسها كانت خادعة وفشلت في التنبؤ الصحيح بعد أن اتخذت مساراً ضيقاً للغاية لم يضع بعين الاعتبار سطوة وسائل الإعلام المعاصرة وخاصة العالم الافتراضي على عالم السياسة وسيكولوجيا الجماهير الطامحة في التغيير عطفاً على ما هي عليه من أحوال، والحاجة إلى الأمل لإخراجها مما هي عليه من أوضاع، ولا سيما عندما تصبح واعيه بأن القرار السياسي في دول المؤسسات ليس بيد شخص واحد.
فما حدث في دول «الربيع العربي» والتراجع في الاقتصاد العالمي لأسباب متعارف عليها، أو بسبب عوامل كانت نتيجة طبيعية لاستخدام الاقتصاد والتجارة والصناعة كسلاح هيمنة، وبروز دول ذات أبعاد أحادية القطبية، ولكن لا تتصرف كقطب أوحد دون أن تتوقف في التوسع بالطول والعرض، هذا كله أنهى حقبة الاستعمار التقليدي ومشبهاته دون رجعة، وبالتالي جاءت سياسة ودبلوماسية الذرائع الدائمة للتدخل باسم تثبيت النظام العالمي الجديد وفرضه، وكان رادع استخدام القوة العسكرية من قبل الولايات المتحدة وروسيا وغيرهما من اللاعبين الكبار والمتوسطين والصغار نمطاً جديداً أعلن عن ولادة عالم مختلف، أعاد كتابة التاريخ الحديث بعد أن كانت دولة مثل بريطانيا لأكثر من 200 سنة بارعة في استخدام قوات التدخل السريع للتدخل في أكبر قارات العالم ومحاربة من يقف في وجه مصالحها.
أميركا ورثت تلك التركة بكل جدارة، ولكن أضافت عليها بعداً علمياً ومعرفياً مميزاً، وآخر مالياً جعلها لفترة طويلة تفرض سيطرتها على النظام الاقتصادي العالمي.
ويبدو لي في الوقت الحاضر أن استخدام القوة للسيطرة على العالم ليس سوى ملاذ أخير وأقل فتكاً من القنابل الاقتصادية الاعتيادية والذكية واتفاقات ومفاوضات المصالح العليا المشتركة بين قوى العالم الكبرى التي تدعو إلى تحرر الشعوب والديمقراطية عندما يكون لها مصلحة في ذلك وتجرم وتشيطن الشعوب وحكوماتها عندما تكون مصالحهم مهددة ويسعون لتعزيز حماية الفعاليات الاقتصادية المحلية، عندما يكون في ذلك نمو لهم ويقوي من سيطرتهم على منابع الموارد وأسعارها، وتسمع عن مفاهيم الملكية الفكرية والتجارة الحرة وإزالة القيود المفروضة على الخدمات والاستثمار التي يحددها الأقوياء لتقييد باقي حكومات العالم وجعلها تعمل لها للسيطرة على الطبقات العاملة والسكان لضمان حرية الوصول إلى الموارد، واحتكار التكنولوجيا الجديدة والاستثمارات العالمية والإنتاج، وبالطبع يتم منح مهام التخطيط، وتوزيع الإنتاج للشركات التي تتبع لها في مختلف دول العالم.
ولذلك لا بد من وجود دولة في كل إقليم تكون بمثابة رئيس الشرطة لمراقبة انسيابية سرقتهم لتلك المخازن التي يرون فيها أنها ملك لهم وشعوب العالم فقط مؤجرة وموظفة في تلك المخازن، وتلك هي عقليتهم ولا بد من أن نواجه تلك العقلية بعقلية توازيها في الدهاء!
وفي نهاية المطاف ما يعنينا كعالم عربي ألا يتقوقع كل قطر عربي في حيز هيمنة دون الآخر ويتعامل مع القوى الكبرى ككتلة موحدة تعكس بعداً عالمياً مؤثراً وخط رجعة واضحاً، وذلك لأن الأمر برمته أكبر من مجالس قومية حدودية وجامعة دول عربية، متى فكرنا في التحديات بطريقة تترجم عملياً فكرهم وعقيدتهم السياسية.
فوفق ما تسير عليه الأمور، أتوقع الاندماج الكامل من كل بلد في العالم إلى هذا النظام الجديد، مما يعني التخلص التدريجي من السيادة الاقتصادية والسياسية الوطنية وصعود مفهوم النخب الوطنية العابرة للقارات، والتي ستتحد في شبكة من النخب الاقتصادية والسياسية وإعلان الإفلاس السياسي للكثير من الدول وتفشي عقلية وجماعات اليسار المتطرف والقومية الفاشية وجماعات العنف السياسي الديني في العالم وتبني العنف بطرق أكثر حداثة وأكثر صعوبة في المتابعة والإيقاف، وشكل جديد من الأممية مستوحاة من مبادئ التضامن والمساعدة المتبادلة، بدلاً من مبادئ القدرة التنافسية وتحقيق الربح والمكسب والمصلحة فقط.
سالم سالمين النعيمي
صحيفة الاتحاد