مقدمة
أوّلًا: إيران وتصدير الثورة والميليشيات
ثانيًا: “حزب الله” اللبناني، تجربة إيرانية ناجحة
ثالثًا: العراق مفرخة للميليشيات
رابعًا: سورية على خطا العراق
خاتمة
مقدمة
طفت في الآونة الأخيرة ظاهرة الميليشيات المسلحة على سطح المشهد العام في هذه المنطقة المشتعلة، ولا بدّ من التنبه إلى خطرها الداهم، ليس لما ترتكبه من مجازر بحق المدنيين في الدول التي اجتاحتها، وليس لأنها خطر وجودي يهدِّد فكرتي الدولة الوطنية والجيش الوطني على أهميتهما من الناحيتين السياسية والتاريخية فحسب، إنّما لأنها تهدِّد أيضًا وحدة هذه المجتمعات التي كشفت ثورات الربيع العربي مدى هشاشتها وعمق انقساماتها وصدوعها، ذلك أن هذه الميليشيات تنبني في الأساس على بعد عقائدي يتسلح بمظلوميات تاريخية بائدة، تقابلها مظلوميات سياسية طارئة، ولّدتها نظم الاستبداد التي تحكمت في المنطقة في مرحلة ما بعد الاستعمار الحديث، وكلتا المظلوميتين تتغذى من معين طائفي عميق، لا يتردد بأن يُطل برأسه عند المنعطفات التاريخية الكبرى التي تعصف بالمنطقة بين حين وآخر؛ وهذا يُدلّل على فشل الدولة الوطنية في تحصين وحدة مجتمعاتها وترميم صدوعها، هذه الدولة التي وقعت في دورها ضحية نظم عسكرية استبدادية طغيانية، هيمنت على الدول، وهمّشت المجتمعات، وانتهكت الحريات العامة، وسفّهت فكرة القانون العام.
أوّلًا: إيران وتصدير الثورة والميليشيات
انتهجت إيران منذ الأيام الأولى لنجاح ثورة الخميني في شباط/ فبراير 1979، تهميش الجيش النظاميّ، وعملت على ركنه جانبًا مع اعتماد تشكيلات غير نظامية، زجّت فيها الشباب الإيراني الموالي للتيار الديني، وكانت أولى بواكيره “وحدات التعبئة الشعبية– الباسيج” التي سحق النظام الإيراني بوساطتها كلّ معارضيه الداخليين الذين شاركوا في الثورة وإسقاط نظام الشاه، وفي مقدّمهم “حركة مجاهدي خلق” والحزب الشيوعي الإيراني (تودة). وما زالت ميليشيا الباسيج، تُشكّل في إيران ركيزة مهمة وأداة أساسية في تثبيت دعائم النظام الإيراني الثيوقراطي، ولعل أبرز إنجازاتها دورها في قمع الانتفاضة الخضراء في إيران عام 2009، التي اندلعت في إثر تُهَمٍ بتزوير الانتخابات الرئاسية آنذاك، وفُرض فيها نجاح أحمدي نجاد وخسارة حسين مير موسوي الفائز الحقيقي. ولقد قتلت، واعتقلت، عناصرُ الباسيج -التي يتحكم فيها التيار المحافظ برئاسة المرشد الأعلى علي خامنئي- عشرات الآلاف من الشباب الإيراني المنتفض من أنصار التيار الإصلاحي في إيران؛ وليس أدلّ على قوتها وحضورها في المشهد الإيراني، من قول قائدها محمد باقري في افتتاح مهرجانٍ لها نهاية الشهر الماضي “إن عدد منتسبي الباسيج يبلغ 25 مليونًا من أصل 80 مليون نسمة عدد سكان إيران، وتلك القوات على جاهزية تامّة لإرسال مئات الآلاف من منتسبيها للقتال في سورية، إذا وافق المرشد الأعلى”، وهذا التعداد، يُدلّل بالقدر ذاته على عمق العسكرة التي يعانيها المجتمع الإيراني، مع ما يعنيه ذلك من تعطيل لطاقات هذا المجتمع الخلاق.
الخط الثاني الذي انتهجته الخمينية هو تصدير الثورة إلى جوار إيران، وكان هذا التوجّه سببًا رئيسًا في اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، دُمّرت خلالها مقدرات البلدين، وخسرا مئات الآلاف من المقاتلين، قبل أن يُضطر الخميني إلى تجرّع “كأس السمّ” على حدّ تعبيره، والقبول بوقف الحرب التي عجزت إيران عن الانتصار فيها. لكن الخميني، ورعيله من الملالي، لم يتخلّوا عن فكرة تصدير الثورة، فاختلفت تكتيكاتهم وآلياتهم، إذ اعتمدوا على تشكيل ميليشيات مذهبية، في البلدان التي تحتمل تركيبتها المجتمعية مثل هذا الجهد، تكون فيها هذه الميليشيات أداة وذراعًا خارجية للمشروع التوسعي الإيراني -الذي يتلبّس لبوسًا مذهبيًا- وتتكفل إيران بتدريبها وتسليحها وتمويلها.
أولى تجليّات هذا التوجّه كان تشكيل الحرس الثوري الإيراني من مقاتلي الباسيج، الذين شاركوا في الحرب العراقية-الإيرانية واكتسبوا خبرات قتالية. أُريد للحرس الثوري الإيراني -وهو أكبر وأقوى ميليشيا إيرانية موازية للقوى النظامية الإيرانية من جيش واستخبارات وشرطة، وأفضل تسليحًا منها جميعًا، ومتحكمة في القرار الأمني وحتى الاقتصادي في إيران- أن يكون أداة ضبط داخلية للمجتمع من خارج الدولة والقانون، كما أُريد لأهم وحداته (فيلق القدس) الذي يقوده قاسم سليماني ذائع الصيت، أن يكون ذراعًا إيرانية تعمل خارج الحدود، وتتكفّل بتشكيل وتدريب وتوجيه الميليشيات المختلفة التي ترتبط بإيران، خاصة في لبنان والعراق وسورية واليمن وغيرها من دول المنطقة، ومنها بعض دول مجلس التعاون الخليجي التي ربما ما زالت فيها في حالة كمون.
كذلك عمدت إيران إلى تجميع المعارضين العراقيين الشيعة الفارين من استبداد نظام صدام حسين في تشكيلات عسكرية، شاركت في قتال الجيش العراقي إلى جانب القوات الإيرانية في حرب الخليج الأولى، ولعل أبرز هذه التشكيلات “ميليشيا بدر” التي تتبع إلى “المجلس الإسلامي الأعلى” المعارض الذي يرأسه حاليًا عمار الحكيم، و”حزب الله” العراقي الذي يتبع إلى حزب الدعوة الإسلامي وأبرز قيادييه نوري المالكي.
ثانيًا: “حزب الله” اللبناني، تجربة إيرانية ناجحة
بُعيد الغزو الإسرائيلي للبنان وفرض الحصار عليه صيف 1982، والذي انتهى بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس واليمن الجنوبي، وانسحاب الجيش الإسرائيلي إلى جنوب الليطاني، بدأت إيران مشروعها بإنشاء “حزب الله” بتأليف مجموعات شيعية، وناشطين شيعة كانوا يُقاتلون مع المنظمات الفلسطينية أو إلى جانبها، حيث انتشر -ولمدة طويلة- ثلاثة آلاف من الحرس الثوري الإيراني، تولّوا التنظيم والتدريب والتمويل بمساعدة النظام السوري المهيمن على لبنان؛ وكُرِّس “حزب الله”، قوّةَ مقاومة وحيدة في الجنوب، احتكرت فكرة المقاومة الوطنية ونشاطها، نيابة عن الشعب اللبناني والدولة اللبنانية، وذلك بالإكراه ومن دون إذن منهما. وبعد توقيع اتفاق الطائف وانتهاء الحرب الأهليّة، كُرّس سلاح “حزب الله”، سلاحًا شرعيًّا خارج سلطة الدولة. ومع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان من طرف واحد عام 2000، توجّه الحزب للتدخل في الشأن السياسي اللبناني داخليًا وخارجيًا، وأصبح دولة داخل الدولة، يُقرّر حالة الحرب والسلم، ويُعطّل الدولة، ويفرض رؤاه وتوجهاته من دون رادع؛ واستحوذ على الثلث المعطل في تركيبة الحكومات اللبنانية بناءً على اتفاق الدوحة، بعد أن اجتاح بيروت الغربية في 7 مايو/ أيار 2008، موجّهًا سلاحه أول مرة إلى الداخل اللبناني، وهو الأمر الذي كان الحزب يستبعد حدوثه، مدعيًا أن سلاحه للدفاع عن لبنان في مواجهة إسرائيل فحسب.
بعد حرب الـ 2006، و”النصر الإلهي” الموهوم، وانكفاء قواته إلى شمال الليطاني، ازداد الدعم الإيراني المُقدّم لحزب الله، وأصبحت له مهمات خارجيّة، منها عمليات تدريب ونقل خبرات إلى الميليشيات العراقية القديمة والناشئة التي لعبت دورًا في الحرب الأهلية العراقية بين عامي 2004 و2006، تلك الحرب التي اندلعت في عقب تفجير مرقدي الإمامين علي الهادي، والحسن العسكري، في سامرّاء العراقية.
يُعدّ “حزب الله”، تجربة إيرانية ناجحة في مجال زرع الميليشيات المذهبية، في سياق تمدّد مشروعها القومي التوسعي، كما يُعدّ الذراع العسكرية اليمنى للحرس الثوري الإيراني. لقد زجّت إيران بهذا الحزب في معمعان الصراع في سورية، لمواجهة الثورة السورية وتثبيت النظام السوري. جرى ذلك بداية بدعوى “حماية المراقد الشيعية”، لكنه ما لبث أن تحوّل بعد احتلاله القصير عام 2012، إلى وجود علني واسع على امتداد الأراضي السورية، إلى درجة أنها أوكلت للحزب قيادة وتنسيق عمل جميع الميليشيات الشيعية التي أرسلتها إيران لمساعدة النظام السوري، على تعدّد جنسياتها من عراقية وأفغانية وباكستانية ويمنية في مرحلة من زمن الثورة. لقد شكّل “حزب الله” من هذا الموقع رأس حربة في حرب النظام السوري على شعبه، وارتكب مجازر وجرائم، وقام بعمليات تغيير ديموغرافي طالت المناطق المحاذية للحدود اللبنانية، تأمينًا لخطوط إمداداته وترسيخًا لنفوذه. لكن حجم الخسائر الكبيرة التي تكبّدها، والنزف الذي تعرضت له كوادره القيادية، استدعت إعادة رسم حدود عمل الحزب، حيث تقتصر على قيادة الميليشيات الطائفية الأخرى في الجنوب السوري، و تقلّصت، من ثمّ، مشاركته في مناطق أخرى، حيث تتحمل “ميليشيا بدر” و”ميليشيا النجباء” العراقيتان العبء الأساسي في مواجهات حلب والشمال السوري عمومًا، فيما تُركت قيادة الميليشيات المقاتلة في الشمال إلى قيادة الحرس الثوري مباشرة.
فاجأ “حزب الله”، جميع الأطراف المعنيّة بالصراع السوري في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر هذا العام بإقامته في مدينة القصير السورية، أول، وأكبر، استعراض عسكري لقواته خارج الأراضي اللبنانية كما جرت العادة، تضمّن عرضًا لأسلحة ثقيلة ومتطورة، ومنها أسلحة أميركية الصنع ووحدات قتالية خاصة. وبعيدًا عن البعد الدعائي لهذا الاستعراض الذي أراد الحزب من ورائه تأكيد وجوده الفاعل، فإنه أراد منه أيضًا توجيه رسائل إلى الأطراف الدولية، وإلى الأطراف اللبنانية في مرحلة رئاسة عون، ورسائل أخرى نحو الداخل السوري؛ وليس من شك أن بعض هذه الرسائل ذات شأن إيراني بامتياز.
ربما تكون أول وأهم هذه الرسائل هي تلك الموجهة إلى المجتمع الدولي، وهي ذات بعدين، يطال أولهما التركيز على محاربة الإرهاب مُمثلًا بالتنظيمات الجهادية السنّية المتطرفة كـ “داعش” ومثيلاته، عسى أن يتم اعتماده كأحد الأطراف في هذا المجال، طالما أنه يملك القدرة والمقاتلين والخبرة، دون أن يفوته أن هذا الأمر، إن تمّ، وهو احتمال ضعيف، فإنه سيكون من ضمن معزوفة إعادة تأهيل النظام السوري واعتماده في هذا الشأن، وذلك تساوقًا مع تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في أثناء حملته الانتخابية، ومساعي روسيا في هذا الاتجاه، ذلك أن “حزب الله” يعرف أنه مُدرج في قائمة الأحزاب المتهمة بالإرهاب، على لوائح الخارجية الأميركية.
ويهدف ثانيهما إلى تسجيل خطوة استباقية لتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة، ومواقفها السلبية من إيران والاتفاق النووي، تقول إن مناصبة إيران العداء ستكون له أثمان على المصالح الأميركية ومشاريعها، بعد أن أصبح لحزب الله جيش يُعتدّ به، على حد تعبير نعيم قاسم نائب أمينه العام.
الرسائل المباشرة على الأرجح موجّهة إلى الأطراف اللبنانية التي تشهد إعادة تموضعات واصطفافات جديدة بعد تفاهم الحريري وعون، الذي أفضى إلى انتخاب الأخير رئيسًا بعد شغور المنصب لأكثر من عامين بتعطيل مباشر من “حزب الله”. وهي اصطفافات يخشى معها الحزب، على الأرجح، أن يعمد الآخرون إلى تغيير قواعد اللعبة التي أرساها بعد اجتياح السابع من أيار/ مايو، واتفاق الدوحة. ثمة رسالة أيضًا إلى حاضنته الطائفية بأن تضحياتها أثمرت قوة وهيمنة داخل وخارج لبنان، ورسالة إيرانية إلى النظام السوري تقول إن إيران، مع أدواتها، أصبحت واقعًا مؤثّرًا، وعلى النظام أن يأخذ كل هذا في الحسبان عند الحديث عن السيادة، وهو الذي سبق أن أعلن على لسان “رئيسه” أن “سورية لمن يدافع عنها”.
ثالثًا: العراق مفرخة للميليشيات
تشكّلت طلائع الميليشيات الشيعية العراقية في إيران كميليشيا بدر عام 1983، ثم تلاها “حزب الله” العراقي، وكلاهما رحل إلى العراق، ولعب دورًا عسكريًا إلى جانب القوات الأميركية والبريطانية التي غزته منتصف آذار/ مارس 2003، وفرضت عليه الاحتلال الأميركي، وعملت على حلّ جيشه بقرار من بريمر حاكم العراق المحتل، الأمر الذي خلق فراغًا أمنيًا زعزع استقرار العراق وكلف أميركا أثمانًا باهظة.
بعد الغزو واحتلال العراق، أخذ العرب السنّة العراقيون على عاتقهم مهمة مقاومة الاحتلال، وكلفهم هذا القرار الخروج من المعادلة السياسية الحاكمة. لم يقاوم الشيعة العراقيون الاحتلال -إلا في ما ندر- استنادًا إلى فتوى المرجع الشيعي في النجف، علي السيستاني، الذي أفتى عام 2003، بتحريم مقاومة الاحتلال. تفرّغ الناشطون الشيعة لتشكيل الميليشيات بدعم وتسليح إيرانيين، وتغطية مالية من حكومة بغداد، في فترتي رئاسة إبراهيم الجعفري ونوري المالكي للحكومة العراقية، وهما اللذان يتبعان حزب الدعوة العراقي المتطرف، فظهرت إلى جانب الميليشيات القديمة تشكيلات جديدة يُقدّر عددها بنحو 40 ميليشيا، أشهرها “أبو الفضل العباس” و”النجباء” و”عصائب أهل الحق” و”جيش المهدي”، ولعبت هذه الميليشيات دورًا كبيرًا في الحرب الأهلية التي أعقبت تفجير مقامي سامراء، وارتكبت جرائم وفظاعات مشينة بحق العراقيين من الطرف الآخر، ما عزّز الفرز الطائفي، واستجرّ تشكيلات مناهضة على شاكلتها أبرزها تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” و”جيش المجاهدين” و”أتباع الزرقاوي”، وقد هُزمت هذه التشكيلات السنّية على يد الصَّحَوات المدعومة من الجيش الأميركي، لكن بعضَها عاد من جديد تحت مسمى “داعش”. في أثناء ذلك كان جيش المهدي -التابع للمرجع الشيعي مقتدى الصدر، والذي حاول في ما يبدو أن يتمايز عن سياق الهيمنة الإيرانية، أو أن صراعه مع المالكي جاء في سياق صراع داخلي على النفوذ داخل البيت الشيعي- قد تلقّى ضربة أليمة عام 2008 على يد الجيش العراقي، وبدعم أميركي، بقرار من رئيس الوزراء نوري المالكي آنذاك، أدّى إلى حلّ هذا الجيش، لكن تداعيات ذلك الصراع ما زالت تعتمل في الساحة السياسية العراقية.
الفورة الثانية للحالة الميليشياوية في العراق، وجدت فرصتها عندما احتل تنظيم “داعش”، بصورة مريبة في 10 حزيران/ يونيو 2014، نحو ثلث مساحة العراق، وأعلن خلافته الإسلامية في العراق والشام على الأراضي التي احتلها من دون مقاومة من الجيش العراقي. وكانت هذه فرصة ذهبية لفتوى ثانية للمرجع الشيعي الأعلى في العراق، علي السيستاني، بدعوة الشباب الشيعي إلى الانخراط في حشد مُقدّس دُعي “الحشد الشيعي” الذي وصل عدُده إلى ثمانين ألفًا، ثم لُطِّف اسمه لاحقًا إلى “الحشد الشعبي”؛ فهل سهّل المالكي سيطرة “داعش”، لتبرير هذا التوجّه؟
لعب “الحشد الشعبي”، دورًا بارزًا في معارك استعادة ديالى المحاذية لإيران وتكريت ومناطق من محافظة صلاح الدين، وتاليًا في الأنبار والفلوجة، وارتكب من دون رادع مجازر بحق المدنيين، وقام بنهب سكان المناطق وتهجيرهم؛ وهو يشارك حاليًا، على الرغم من اعتراض الأطراف المعنية الأخرى كافة، في معركة الموصل، وعينه على تلّعفر بعد أن احتل مطارها بغية الوصول إلى الحدود السورية، بحسب ما صرح هادي العامري قائد ميليشيا بدر لوكالة رويترز بأننا “سنتخذ من مطار تلعفر قاعدة لتحرير ما تبقى من الأراضي وصولًا إلى الحدود السورية وما يتخطاها”، حيث تؤمن تلعفر معبرًا إيرانيًا إلى سورية (ديالى في اتجاه جبال حمرين شمال تكريت وصولًا إلى تلّعفر على الطريق المؤدي إلى سنجار على الحدود السورية). وترى إيران أن هناك طرقًا عديدة مؤمّنة داخل سورية توصلها إلى القصير، حيث يسيطر “حزب الله”، ومن ثم إلى البحر المتوسط الحلم العزيز على المشروع الإيراني. وربّما لا يحمل هذا الطريق كبير أهمية بالنسبة إلى الإيرانيين من ناحية نقل السلاح أو البضائع، لكنه يحمل مغزىً معنويًا كبيرًا لتأكيد الهيمنة الإيرانية، ورسالة إلى المجتمع الدولي بأن إيران سوف تفعل كل ما يلزم لتأمين هذا الممرّ البريّ إلى المتوسط.
لعلّ الخطوة الأخطر على وحدة العراق واستقراره، جاءت عندما أقر البرلمان العراقي بأغلبية أعضائه الشيعة قانونًا يُحوّل ميليشيا “الحشد الشعبي” إلى جزء من الجيش العراقي مع ضمان استقلاليتها ضمن هيئة تتبع إلى رئيس الوزراء مباشرة، ما يخولها بابتلاع الجيش العراقي مستقبلًا، أو تهميش دوره في الدولة العراقية، وسوف يُمثّل “الحشد الشعبي” اختبارًا وتحديًا لمستقبل العراق عندما يُصرّح جواد طالباني، أحد قادة الحشد، أنه يرفض الانخراط في العمل العسكري من خلال الأجهزة الأمنية التابعة للدولة العراقية، ويرى أنّ مهمته تهدف إلى القضاء على التنظيمات السنّية المتطرفة، وأنه سوف يحارب أي جهة تريد نزع سلاحه بالقوة. من هنا يمكن إدراك لماذا فشل العبادي في تحقيق وعوده المتكررة بكبح “الحشد الشعبي”، وإطفاء الفتنة السنّية-الشيعية المشتعلة، هذا إن كان صادقًا في توجهاته المعلنة. فالحشد تغلغل في بنية الدولة بما فيها الجيش، وأصبح عصيًّا على الضبط.
أُريدَ للقانون الجديد تأمين الحصانة لعناصر هذا الحشد من الملاحقة القانونية على الجرائم التي ارتكبوها في حق العراقيين، أو التي يُمكن أن يرتكبوها مستقبلًا؛ لكن الأهم والأخطر في الموضوع هو تجميع كل الميليشيات العراقية ودمجها ضمن الحشد، ليكون بمنزلة حرس ثوري عراقي يماثل شقيقه الإيراني في تثبيت هيمنة الشيعة على العراق، ويتكفل بدعم التوجهات الإيرانية في المنطقة؛ وهذا التوجه جاء بناءً على طلب قاسم سليماني منذ أشهر حين قال “نحن من أسّس الحشد الشعبي”.
رابعًا: سورية على خطا العراق
سورية هي الأخرى ماضية في الطريق ذاته، المعزّز بالخبرة الإيرانية وتفوّقها في صناعة الميليشيات؛ فقد أُعلن عن تشكيل “الفيلق الخامس-اقتحام” الذي سيضمّ متطوعين برواتب تعادل عشرة أضعاف رواتب المجندين العاديين (300 دولار)، مع احتفاظ المتطوع براتب وظيفته في حال كان موظفًا، وسوف تنضم إليه ميليشيات بكاملها، ومُقدّر له أن يكون على نمط “الحشد الشيعي” العراقي أو الحرس الثوري الإيراني، ذلك أن تمويله سيكون إيرانيًا كما هو واضح.
يأتي الإعلان عن تشكيل هذا الفيلق، وهو عبارة عن نوع من القوات الخاصة لمجابهة قوات المعارضة التي تجيد القتال داخل المدن، لسدّ النقص المريع في القوى البشرية لجيش النظام بعد ستِّ سنوات من القتال الدامي، والاستنزاف من جرّاء الانشقاقات والاعتقالات والتصفيات التي طالت كثيرًا من عناصره من مختلف الرتب، واختفاء كثير من الألوية والكتائب التي لم تعد موجودة إلّا على الورق.
والإعلان عن تشكيل “الفيلق الخامس” ليس وليد اللحظة، فمنذ العام 2012، كُلِّف ضباط كبار، وضباط مخابرات، بتشكيل ميليشيات من متطوعين موالين بشكل موثوق، طُعّمت بعناصر عسكرية من الحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة، وأجهزة الاستخبارات، ليُناط بها التدريب والقيادة؛ فكانت هناك “قوات النمر” التي يقودها العقيد سهيل الحسن، وهي التي شاركت في معظم المعارك المفصلية التي واجهها جيش النظام في ريف حماه وإدلب وحلب وتدمر، وميليشيا “نافذ أسد الله” التي يقودها العميد عصام زهر الدين، وقد قاتلت قوّاتِ المعارضة إلى جانب قوّات النظام، وقاتلت، أخيرًا، “داعش”، منذ سيطرة الأخير على دير الزور، وهناك ميليشيا “صقور الصحراء” التي كانت مُكلّفة بحراسة المنشآت النفطية في المنطقة الوسطى، ثم تحولت إلى القتال، خاصة في جبهتي الساحل وحلب، كذلك جرى تجميع “اللجان الشعبية” التي تشكّلت مع بداية الثورة في “ميليشيا الدفاع الوطني”، وجميع هذه الميليشيات سوف تُجمع في إطار “الفيلق الخامس”، وربما سيضم أيضًا ميليشيات شيعية محلية الطابع موجودة في السيدة زينب، وبعض قرى ريف حمص الغربي، وفي كفريا والفوعة، وعناصر “حزب الله” السوري الذي تعمل إيران على تشكيله منذ سنوات.
لا تثق الأنظمة الاستبدادية كثيرًا في الجيوش النظامية صاحبة الانقلابات، وهي التي جاءت إلى السلطة من رحمها، فهي أكثر ميلًا إلى هذا النوع من التشكيلات العسكرية المضمونة الولاء، لتثبيت سيطرتها في مواجهة التحديات الداخلية التي تهدِّدها، كونها عاجزة عن مواجهتها إلّا بأسلوب العنف وسيلة، والخراب مآلًا.
ليست ظاهرة الميليشيات جديدة تمامًا في سورية البعث، فقد عرفت ما يشبه هذا التوجه، على الأقل من حيث الدور والهدف كــ “سرايا الدفاع” التي شُكّلت مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ولعبت دورًا حاسمًا في حوادث الثمانينيات في حلب وجسر الشغور وحماة، ومجزرة سجن تدمر، لكنها حُلّت لاحقًا في الجيش تحت مُسمّى “الفرقة 14″، وكذلك “الكتائب البعثية المسلحة” في الثمانينيات.
وسط سُعار الميليشيات الذي يجتاح المنطقة هذه الأيام في لُجّة التحريض الطائفي المقيت، بات هاجس الجميع أن تكون له ميليشياته الخاصة، في انحدار مريع لقيم التعايش والمواطنة والحقوق، وتراجع دور الدولة، مع توجه انتحاري لمجتمعات بكاملها نحو فوضى قاتلة. لقد نقلت إيران العدوى إلى دول المنطقة، وأطلقت هذا الوباء الخطِر. فللشيعة ميليشياتهم، وللسنّة وللأكراد وللمسيحيين ميليشياتهم أيضًا، وكذا الحال في اليمن، والحبل على الجرار. هذه الميليشيات ستؤدي إلى تهميش الجيوش النظامية وإضعافِها، وستصبح عبئًا ثقيلًا على الدول التي سهّلت قيامها لأهداف طارئة باستثناء إيران طبعًا، وسوف تصبح عصيّة على الضبط والإخضاع، وستكون عملية اجتثاثها مكلفة.
كذلك، ستكون عبئًا ثقيلًا على المجتمعات الحاضنة، وأداة تفتيت واقتتال أهلي لا ينتهي، لأنها تنبني على بعد مذهبي عقائدي، يستجرّ بالضرورة نقيضًا من الأرضية ذاتها، وكلاهما يقتل باسم الله!
التطرف والإرهاب يغذي بعضه بعضًا، غير أن أذى هذه الميليشيات لن يقتصر على مجتمعات الطرف الآخر، بل سرعان ما سوف يطال بعد فترة من تمكنه حاضنتَه بالقتل والخطف والسرقة لتمويل وجوده، واستمراره، أو طمعًا في جني الثروات.
خاتمة
لا شك في أن الميليشيات ظاهرة خطرة، فهي تنشر الموت والدمار، وتعمّم الأحقاد، وتعاكس المسار التقدمي للتاريخ، إنها تعبير عن مسار انحداري يقوم على التحاجز، وإيقاظ الهويات ما قبل الوطنية، في وقت تتعولم فيه البشرية.
السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق؛ هل أصبحت هذه الميليشيات قدرًا لا يمكن مواجهته؟ قد يكون من الصعب القول إنه يمكن على المدى القريب السيطرة على هذا الطوفان، ذلك أنّ للأنظمة الراعية لها مصلحة في تعميمها وتقويتها، كونها أداةً في صراعها من أجل المحافظة على سلطاتها وامتيازاتها، كذلك فإنّ تغاضي المجتمع الدولي عنها على قاعدة “فليقتل بعضهم بعضًا” يُساهم في انتشارها. لكن، بما أن المجتمعات، كما الطبيعة، تكره الفوضى وتميل دائمًا إلى الاستقرار، فيُمكن القول إن الميليشيات ستكون ظاهرة عابرة تعتاش على الفوضى، والذي يُمكن أن يُعجل في هذه النهاية، خروج المجتمعات من هذا الوضع الذي دُفعت إليه دفعًا، محافَظةً على مستقبل أجيالها وأوطانها، وتعزيز قيم المشاركة والتعايش والمواطنة والاعتراف بالحقوق، ونبذ الظلم وإعلاء شأن القانون، وتوسيع الحيّز الوطني العام ومحاصرة الأفكار الانعزالية والطائفية. وقبل كل هذا تأتي هزيمة المشروع التوسعي الإيراني، فإيران مبعث الداء، وفي العمل على هزيمة مشروعها ومن يتحالف معها، الوجهة الصحيحة لتعافي الدول والمجتمعات.