في أمسية حديثة في كانون الأول (ديسمبر)، من وسط المنطقة التي يحتلها “داعش” في الموصل، تحدث سعد بهدوء عبر هاتفه النقال. كان الجيش العراقي قد تلقى ضربة للتو بالقرب من مستشفى السلام القريب بعد وقوعه في كمين شرس لـ”داعش”، فيما كان المتمردون يطوفون في شوارع الحي الذي يقطنه سعد. وقال عبر الهاتف بصوت هامس للديلي بيست: “إنهم يتحركون حول المنطقة بستراتهم الانتحارية”.
يسكن سعد بجوار منطقة “الوحدة” على الضفة الشرقية لنهر دجلة. وكان شاهداً على الجولة الأخيرة من القتال في التنافس من أجل السيطرة على المدينة.
وقال سعد إنه سمع صوت إطلاق النار وتفجير انتحاري لنفسه وسط جنود عراقيين، وإنه استطاع مشاهدة الطابق الأعلى من المستشفى وقد اشتعلت فيه النار بعد انسحاب الجيش العراقي.
كانت القوات الأمنية العراقية تندفع ببطء إلى داخل الجزء الشرقي من الموصل منذ الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، محررة سلسلة من الضواحي التي تقع على أطراف المدينة. ويوم السادس من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، حاولت الفرقة العراقية المدرعة التاسعة أسلوباً جديداً، تمثل في الاندفاع من خلال مناطق عدة في محاولة للاستيلاء على حي “الوحدة” الذي يبعد ميلاً بالكاد عن أول واحد من الجسور الخمسة التي تصل بين نصفي المدينة. وأثار الهجوم ضربة ارتدادية عنيفة من جانب “داعش”، التي جلبت الحرب إلى عتبه منزل سعد.
حتى ذلك الحين، كان قد خبر المعركة المميتة من خلال آثارها الجانبية فقط. فقد حلقت أسعار الغذاء والوقود إلى عنان السماء بعد أن أفضى تقدم القوات العراقية إلى قطع طريق الإمداد الرئيسي من سورية، وبعد قصف قوات الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة لجسور الموصل. وتسبب القتال في قطع التيار الكهربائي وإمدادات الماء، حيث لجأت عائلة سعد إلى الحفر في الأرض بحثاً عن مياه جوفية.
كما أن على السكان المقيمين في المناطق الخاضعة لسيطرة “داعش” أن يخشوا أيضاً من جنون الارتياب المتزايد عند المجموعة. ويقول سكان للديلي بيست أنه من أجل منع الموصليين من تمرير معلومات إلى الجيش، يقوم مقاتلو “داعش” الآن بقتل كل شخص بحوزته هاتف.
حمد، الذي يعيش في منطقة القدس بالقرب من الأطراف الشرقية للمدينة، شاهد الجهاديين وهم يهرعون فجأة إلى منزل جار له حيث عثروا على عدة هواتف متنقلة. وأطلقوا النار في الحال على ثلاثة من سكان المنزل.
ويقول حمد، الذي يشك بأن “داعش” تلقى معلومات من أنصاره: “إنك لا تستطيع الثقة بأحد”. (مثل كل الرجال الذين أجريت معهم مقابلات لكتابة هذه المادة، يستخدم حمد اسماً مستعاراً لحماية نفسه من انتقام “داعش”). ولحسن الطالع، لم يعد لدى المتمردين الكثير من الوقت للتركيز على السكان نظراً لأنهم يقاتلون الجيش العراقي في المدينة، وحيث أصبحت جولات تفتيش المنازل أقل شيوعاً.
في الجزء الشرقي من الموصل، أصبح الحصول على رعاية طبية يزداد صعوبة باطراد.
ويقول أحمد، الذي يعيش مع عائلته في ضاحية الفيصلية المحاصرة بالقرب من الأطراف الشرقية للمدينة: “أخذ ‘داعش’ الدواء من المستشفيات، وهو يعطيه لمقاتليه في المستشفيات الميدانية التي أقامها. إنهم لا يعيرون اهتماماً لما يحدث للمدنيين”. وكانت العائلة قد خزّنت دواء السكري لوالد أحمد، وهي تأمل أن لا ينفد الدواء قبل تحرير المنطقة.
ويقول حمد: “إذا أردت أن تذهب إلى طبيب، فإن عليك الذهاب إلى الجانب الآخر من النهر. لكن ذلك لم يعد ممكناً نظراً لأن كل الجسور قصفت”.
لطالما شن المتمردون حملات على أي شكل من المقاومة من جانب السكان، وقاموا بتفتيش المنازل من بيت لبيت بحثاً عن الأسلحة لوأد أي انتفاضة مسلحة. لكن سكان الموصل، بعد أن سئموا من النظام الجهادي الوحشي والحرمان المتزايد، أصبحوا ينفذون تمردات وحالات عصيان صغيرة.
ويتذكر أحمد بابتهاج: “استفسر منا واحد من المقاتلين الأجانب عن اتجاه الجبهة الأمامية، فأرسلناه في الاتجاه الخطأ”.
لكن تحدي “داعش” يحمل في طياته خطراً أكبر. فعندما انسحب المتمردون من ضاحية المصارف في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، طلبوا من السكان أن يلحقوا بهم أعمق إلى داخل المدينة كما يقول محمد، أستاذ المدرسة المحلي.
وأضاف محمد: “طلب ‘داعش’ من الناس مغادرة منازلهم والانسحاب معه، لكنهم رفضوا. ووضعوا برفضهم أرواحهم تحت الخطر”. وفي الوقت الحالي، تسيطر وحدات محاربة الإرهاب النخبوية التابعة للحكومة العراقية، والتي كانت رأس الحربة في الهجوم على المدينة، على ضاحية محمد. لكن عائلته ما تزال غير قادرة على مغادرة المنزل، لأن “داعش” يستمر في حملة قصف متواصل بقذائف المورتر التي تتساقط على حي المصارف.
لأنهم متعصبون بفعل أيديولوجيتهم المتشددة، ولأنهم يسعون -فيما ينطوي على الـ-مفارقة- إلى استخدام سكان الموصل كدروع بشرية، يطلق الجهاديون النار بشكل عشوائي على المناطق التي لم تعد تحت سيطرتهم، فتصيب المدنيين الذين يعبرون الخطوط الأمامية.
يقول حمد: “يقول أئمة (داعش) في المساجد أن كل الناس في المناطق المحررة قد أصبحوا كفاراً، وأن من الجائز قتلهم تبعا لذلك”.
تجاور ضاحية حمد، القدس، حي الكرامة الذي تسيطر القوات العراقية على القسم الأكبر منه. ويشعر السكان القريبون من الخطوط الأمامية بالرعب من الوقوع في تقاطع النيران. ويشير حمد إلى أن الجيش العراقي والائتلاف وجها ضربات مدفعية وضربات جوية محدودة في معركة الموصل -ما يثبت أن تكتيكات الدروع البشرية التي يستخدمها الجهاديون فعالة -لكن المدنيين يقعون ضحايا لنيران الحكومة مع ذلك.
ويزعم حمد: “بالأمس كان هناك قتال كبير، لكن القصف لم يصب “داعش”. لقد ضرب سكاناً محليين وقتل أكثر من أربعين شخصاً”.
يعرب بعض الموصليين عن استغرابهم من عدم تقدم الجيش بسرعة أكثر. ويقول حمد: “لا أشاهد الكثير من مقاتلي ‘داعش’ في منطقتي. ولا أعرف لماذا التحرير بطيء جداً”.
يعول “داعش” على تفجير السيارات المفخخة والقناصة، ولديه 25 مقاتلاً فقط في كل حي، كما يقول حمد. وتعمل هذه الخلايا بشكل مستقل عن بعضها البعض، متشبثة بالأرض مهما كلف الثمن ومن دون الانتقال إلى أجزاء أخرى من الجبهة.
ويقول حمد: “إذا استولى الجيش على منطقة، لا ينسحب مقاتلو ‘داعش’ منها. كما أنهم لا يساعدون المجموعات في المناطق الأخرى”.
كما أظهر الرد على هجوم الجيش سيئ الطالع على مستشفى السلام، يحتفظ “داعش” باحتياطيات متحركة كافية لملء أي منطقة بمقاتليها إذا لزم الأمر. لكن العديد من السكان يشكون بأن المتمردين يقيمون دفاعاً هيكلياً في الجزء الشرقي من المدينة، وبأن المقاومة في الضفة الغربية من دجلة سوف تكون أشد. ويترتب على الجيش العراقي الوصول إلى حدود المدينة على ذلك الجانب من النهر، فيما يقول السكان أن “داعش” أقام حزاماً دفاعياً قوياً حول مركز المدينة التاريخي.
ويقول سعد: “إنهم يحضرون دفاعاتهم على الجانب الآخر من النهر أكثر مما يحضّروها على هذا الجانب”.
العديد من الضواحي في وحول مركز المدينة فقيرة، وما يزال الدعم الشعبي لـ”داعش” هناك عالياً. وعلى عكس المناطق التي شيدت مؤخراً على الجانب الشرقي من النهر، فإن المشهد الحضري في تلك المناطق الأقدم يشهد اكتظاظ المساكن والشوارع الضيقة. وفي مناطق مثل هذه -المنصور والموصل الجديدة وطريق بغداد القديمة والرسالة- سوف يركز المتمردون دفاعاتهم، كما يتنبأ سعد.
ويقول: “هنا سيكون الموقع الذي تقع فيه المعركة الرئيسية. وهي مملوءة بمقاتليهم”.
وكان العديد من المقاتلين الأجانب، الذين يعتبرون أكثر تشدداً وكفاءة من المجندين المحليين، قد عبروا النهر مسبقاً لادخار أنفسهم من أجل المواجهة الأخيرة.
وبينما ينتظرون، فإن الحياة من حولهم تستمر مثلما كانت منذ استولى “داعش” على المدينة في صيف العام 2014.
تستمر الشرطة الدينية للمجموعة الإرهابية، الحسبة، في القيام بجولاتها في الضفة الغربية من دجلة. ويقول سعد: “لا توجد أي إشارات على وجود قتال هناك. ما تزال الحسبة تجمع الضرائب وتجبر الناس على إطالة لحاهم”.
فلوريان نيوهوف
صحيفة الغد