يعمل الصهاينة وكفلاؤهم الغربيون جاهدين لتحقيق ما يقولون إنه وعد توراتي بأن تكون «أرض الميعاد» أو الأرض الموعودة Promised Land، وهي الأرض التي تمتد من النيل إلى الفرات وطنًا لهم، وهذا الوعد ورد في التوراة في سفر التكوين، الإصحاح 15: الآية 18، وعندها فإن دولة إسرائيل، التي تقتطع المساحة الأكبر من فلسطين أي حوالي 23 ألف كيلو متر مربع من أصل 27 ألف كيلو متر مربع مساحة فلسطين التاريخية، ستصبح «إسرائيل الكبرى» Greater Israel، ولهذا نراهم لا يكلون ولا يملون من استغلال الظروف التي تشهدها هذه المنطقة والسعي لتطهيرها عرقيًا قدر المتاح، وتهجير البقية الباقية من العرب المسلمين منها، أيضًا قدر الإمكان، لإخلائها، أي «أرض الميعاد»، من سكانها الأصليين، وإحلال اليهود مكانهم! لكن الواقع يقول إن «الشعب المختار» The Chosen People لا يمكنه العيش، وهو لا يتجاوز الأربعة عشر مليونًا في كل أنحاء العالم، في أرض المائة مليون، لأن أرض الميعاد واسعة وأكبر من أن يملأها الأربعة عشر مليونًا بقضهم وقضيضهم، فكيف لجزء منهم فقط أن يقوم بالمهمة! ولكنهم مصرون على تنفيذ هذا المشروع «التوراتي» السياسي التوسعي في حقيقته، ولكن كيف؟!
بدأ هذا المشروع التوسعي سياسيًا منذ أن تحدث عنه مؤسس الصهيونية تيودور هيرتزل عام 1904م، وأعلن أن حدود دولة إسرائيل تمتد من «نهر مصر إلى الفرات»، كما صرح بالمضمون نفسه الحاخام فيشمان Fischmann عام 1947 في شهادته للجنة التحقيق الخاصة للأمم المتحدة، وكتب الباحث الصهيوني عوديد إينون Oded Yinon مقالاً بالعبرية عام 1982 وعنوانه: «إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات» أو «A Strategy for Israel in the Nineteen Eighties»، وترجم الإسرائيلي المعادي للصهيونية إسرائيل شاهاك المقال إلى الإنجليزية بعد كتابته بأربعة أشهر، وسيكون هذا المقال هو محور حديثنا اليوم بعد ربطه بما يجري اليوم في العراق وبلاد الشام ومصر، كما أن المقال عبارة عن نقل لما دار في حوار على موقع www.darkmoon.me، بين فرانكلين رايكارت Franklin Ryckaert، المعروف بمعاداته للسامية، وأورمانسي Ormanci والكاتب الكندي، المتخصص في الاقتصاد، ميشيل تشوسودوفسكي Michel Chossudovsky حول «إسرائيل الكبرى» Greater Israel، وهل ستتحقق أم لا!
يعتقد فرانكلين رايكارت، أن على إسرائيل ليس أن تطهر هذه المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات عرقيًا فقط، بل أن تأتي بيهود ليسكنوها، علمًا بان عدد اليهود في العالم لا يتجاوز الأربعة عشر مليونًا، ومن المستحيل أن يأتي أكثرهم إلى هذه المنطقة، التي يسكنها الآن قرابة المئة مليون عربي، ويتابع رايكارت أنه لا يمكن أن تقوم إسرائيل بهذه الحماقة؛ إذ عليها أن تدافع عن هذه المنطقة الهائلة ضد سكانها الذين سيحاولون العودة إليها، وضد جميع العرب والعالم الإسلامي، وربما ضد بعض الدول الغربية، حسب زعمه. ويختم رايكارت بأن هذه خطة لا عقلانية، وليس فيها شيء من الواقعية، بل خطة مرضى جنون العظمة، ولا يمكن لإسرائيل أن تفكر بتنفيذها.
بينما يرى أورمانسي Ormanci، الذي لم يُكتب تعريفًا له ولكنه ضمن النقاش في الموقع، أن فكرة رايكارت غير منطقية، ويبرر ذلك بأن اليهود – العرق السيد Master Race – الذين لا يتجاوز عددهم اثنان بالمائة «2%» من سكان أمريكا، يسيطرون فعليًا وواقعيًا على الولايات المتحدة، أكثر من سيطرة الحكومات المنتخبة على ولاياتها! فاليهود هناك يستخدمون أذنابهم المتواطئين معهم، وجلهم من المسيحيين لفرض هيمنتهم الثقافية، كما أنهم يشترون مكونات الطبقة السياسية-القضائية، وما أكثرهم وأرخصهم a dime a dozen– حسب تعبيره، وينقلون مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب سنويًا إلى المقرات الرئيسية لعصابتهم، بدون شكوى أو مراقبة. كل هذا فيما يُسمى «العالم المتقدم»! فما بالك في بلاد في طريقها لإضاعة سيادتها – يقصد بلاد «أرض الميعاد»: سوريا ولبنان وفلسطين ومصر والعراق – لذلك فإن عملية السيطرة على حكومات هذه البلاد أسهل! يتابع أورمانسي ويقول كلامًا خطيرًا، وهو أن تل أبيب تسيطر الآن على كردستان العراق وهذا ليس تصورًا بل حقيقة! والأخطر أنه قال إن إسرائيل تسيطر على قوات «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق! ويؤكد أن: «الفلوس تتكلم» money talks بغض النظر عن الأمور الدينية، وأن خطة عوديد إينون في طريقها للاكتمال!
وتصديقـًا لكلام أورمانسي أقول إن خطاب البغدادي الأخير في 14/11/2016 كان معظمه تهديدًا لتركيا والسعودية، وجاء الخطاب بعد يومين من ترحيل أمريكا لعائلات طاقم قنصليتها في إسطنبول، ويبدو وكأن أوباما ونتانياهو هما من كتب خطاب البغدادي وقرأه نيابة عنهما، وهذا تصديق لكلام أورمانسي أن تل أبيب تسيطر على قوات الدولة الإسلامية في كل من العراق وسوريا، وأن «الفلوس تتكلم» ألا نرى كيف أن عددًا من الإعلاميين العرب، في دولة عربية ربما نجحوا، ونخشى أن يستمر نجاحهم، في غسل أدمغة مواطني أكبر دولة عربية بقصد تحطيم قدرات بلدهم وبث الفرقة بين مكونات المجتمع لتمزيقه، نتيجة ما يتقاضونه من ملايين الدولارات شهريًا؟ وهاهم أشباههم يعملون بالطريقة نفسها في بلاد عربية أخرى، لتقويض أسس مجتمعاتهم لقاء الملايين!
أما ميشيل تشوسودوفسكي، فيرى، في 22/3/2015، أن مشروع إسرائيل الكبرىGreater Israel يعتبر حجر الزاوية في فكر الأحزاب الصهيونية ونشاطها وعلى رأسها الليكود، إضافة إلى فكر المؤسسة العسكرية والاستخبارات. وحسب خطة تيودور هيرتزل المعروفة وما صرح به الحاخام فيشمان، فإن «إسرائيل الكبرى» تمتد من حوض النيل إلى الفرات، وإذا ما ربطنا، حسب تشوسودوفسكي، الوضع الراهن بالحرب على العراق، وحرب 2006 على لبنان، والحرب على ليبيا في 2011 والحرب على سوريا المستمرة الآن، ناهيك عن عملية تغيير النظام في مصر، فكلها تصب في خانة الخطة الصهيونية للشرق الأوسط، وهذه الخطة تعني إضعاف الدول العربية المجاورة لإسرائيل وتفتيها، كجزء من المشروع التوسعي الإسرائيلي، الذي يتضمن طرد الفلسطينيين، ومن ثم ضم كل من غزة والضفة الغربية لإسرائيل. وتشمل الخطة إنشاء عددًا من الدول الوكيلة، علمًا بأن إسرائيل الكبرى تشتمل على أجزاء من لبنان والأردن وسوريا والعراق وسيناء وأجزاء من السعودية، كما في الخريطة:
ولأهمية العراق الكبرى، رأى الإستراتيجيون الإسرائيليون أن العراق هو التهديد الأكبر لهم من أي دولة عربية أخرى، لذلك كان العراق هو في مركز اهتمام الإستراتيجية الصهيونية للبلقنة، حيث خططوا لتقسيمه، كما يعرف ويرى الجميع على أرض الواقع، إلى ثلاث دول: كردية وعربية سنية وعربية شيعية والتمهيد لذلك من خلال إشعال حرب بين العراق وإيران، وهذا ما حدث والتقسيم أصبح حقيقة.
ونشرت مجلة The Atlantic عام 2008 ومجلة القوات المسلحة للجيش الأمريكي عام 2006 خرائط متداولة قريبة جدًا من خريطة عوديد إينون! وأن القادم سيكون تفتيت تركيا ولبنان ومصر وليبيا والسودان ثم الانتقال إلى شمال افريقيا، ولا ننسى باكستان أيضًا، لتكون إسرائيل قوة احتلال إقليمية بعد تشظية الدول العربية والإسلامية.
يعود الباحث رايكارت ويؤكد أنه من المستحيل أن تسيطر إمبراطورية يهودية على هذا العدد من السكان العرب، فقد فشلت في وضع مشابه مما اضطر شارون لترك غزة! وما يزال اليهود في مأزق في الضفة الغربية! ويتابع رايكارت ويقول إن التطهير العرقي Ethnic Cleansing كما الفصل العنصري Apartheid غير مقبولين سياسيًا! كما أن الديموقراطية تجعل العرب يصوتون لصالح ممثليهم من العرب لإفشال أي هيمنة اسرائيلية! فكل هذه الأمور تربك السياسة الإسرائيلية!
هذا ما قاله وفكر فيه الباحثون الثلاثة، لما يحصل على أرض الرافدين وأرض الشام ومصر! فمن الواضح لأي مراقب، أن التهجير أو «الترانسفير» Transfer الذي «بشّر» به محمد حسنين هيكل، عندما تحدث مع محمد كريشان أكثر من مرة في بدايات هذا القرن على قناة الجزيرة، بدأ يتحقق فعليًا في الشام والعراق، وستتبعه فلسطين ومصر! فاليهود يريدون تحقيق حلمهم «وعد التوراة» بدولة من الفرات إلى النيل ولم ولن يجدوا فرصة مواتية كالتي بين أيديهم الآن! إلا أن عملية «الترانسفير» للعرب السنة لن تكون شاملة، خصوصًا بعد إبرام اتفاق التحكم بتدفق اللاجئين بين تركيا وأوروبا، ولاعتبارات أخرى، وهناك أمر آخر وهو إحلال أعداد كبيرة من الإيرانيين بدلاً من العرب السنة، والإيرانيون الفرس هم حلفاؤهم منذ السبي البابلي، والذي أنقذهم منه الملك الفارسي قورش، إضافة إلى أنه من الواضح أن باراك أوباما قد زكاهم لإسرائيل، وبالتأكيد سيبقى – كما أشرت قبل قليل – عدد لا بأس به من العرب السنة في كل من العراق والشام، ولكن بلا قيمة بعد أن يصبحوا أقلية الأقليات، إضافة إلى استقدام مئات الآلاف من اليهود إلى أرض الميعاد لإدارتها سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
هذا يقودنا إلى تصديق ما يعتقده أورمانسي تمامًا بأن اليهود سيسيطرون على المنطقة – حتى إن كانوا أقلية بين الأقليات – بالنفوذ السياسي الكبير وإدارة الاقتصاد بشكل كامل، كما يفعلون في أمريكا كما يؤكد أورمانسي وكما هو الواقع! بل كما يفعلون في كردستان العراق، وكما يسيطرون على تنظيم الدولة الإسلامية! والعامل الرئيس الذي ربما يؤدي إلى نجاح اليهود في بسط سيطرتهم على هذه المنطقة الشاسعة، هو أن الشعوب العربية «تأدبت» من أهوال «الربيع العربي»، وتلقت دروسًا ربما هي الأقسى طيلة تاريخها القديم والمعاصر، إضافة إلى الدعم الكبير الذي تتلقاه إسرائيل من الاتحاد الروسي بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، والعلاقة الحميمة التي تربط بلديهما، ولذلك ستنصرف للعمل لـ «لقمة العيش» وليس إلا للقمة العيش والأمن في ظل استعباد تام من قبل كل الآخرين، وليس كما رأى رايكارت من أنها ستثور على المستعمر الجديد! وربما تُنفذ عليهم سياسة الفصل العنصري apartheid وأيضًا سياسة التطهير العرقي اللتين أصبحتا «مشروعة» لدى الغرب اليميني المتعصب عرقيًا ودينيًا ضد المسلمين والعرب، العراق وسوريا وميانمار – فيما يخص مسلمي الروهنجا – أمثلة حية!
وإن تعثرت هذه الخطة التي شرحها أورمانسي، ربما يتم العمل على تنفيذ الخطة ب B والتي تحدث عنها الباحث تشوسودوفسكي، وتقضي هذه الخطة بإنشاء دويلات وكيلة proxy states بإدارة إسرائيلية مركزية عن بعد! وفي كلتا الحالتين تكون «إسرائيل الكبرى» قد تحققت، ولا عزاء للجبناء والمتواطئين!! ولن يكون للعرب أي دور في رسم مستقبلهم، بل سيكونون كالأيتام على موائد اللئام وربما يستحقون الشماتة!
توفيق الياسين
المصدر : ساسة بوست