عززت الشركات الروسية في الآونة الأخيرة من حضورها بأسواق الشرق الأوسط تزامنًا مع التقارب السياسي والعسكري بين روسيا من جهة وبعض القوى الإقليمية من جهة أخرى، والذي يأتي في إطار تصاعد الدور الروسي في المنطقة، لا سيما بعد التدخل العسكري في الأزمة السورية بداية من سبتمبر 2015.
وفي الفترة السابقة لاندلاع الثورات العربية، تضاءل حجم الحضور الاقتصادي الروسي بالإقليم، وذلك قياسًا بالنفوذ الاقتصادي الواسع بالمنطقة لكلٍّ من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. بينما تتحول الآن أنظار حكومات المنطقة إلى روسيا، ليس لكونها إحدى القوى الدولية المؤثرة على الصعيد الإقليمي فقط، وإنما أيضًا باعتبارها شريكًا اقتصاديًّا قد يعوِّض أي غياب محتمل للشركاء الاقتصاديين التقليديين بالإقليم.
وفي هذا الإطار، تمكنت بعض الشركات الروسية من أن تثبت حضورًا جديًّا في عدد من دول الإقليم في قطاعات عدة، مثل الطاقة النووية، بجانب النفط والتعدين وغيرها، وهو الحضور الذي قد يقدم حلولا لعدد من المشكلات الاقتصادية الملحة بالإقليم، كنقص الطاقة على سبيل المثال. وبما يحقق -في الوقت ذاته- مكاسب اقتصادية وتجارية للشركات الروسية في وقت يعاني فيه الاقتصاد الروسي من صعوبات حادة نتيجة تراجع أسعار النفط، بجانب العقوبات الغربية. ويبدو أن طموح الشركات الروسة بالمنطقة لن يتوقف فقط على مدى احتياج الدول لرؤوس الأموال الروسية، وإنما أيضًا على مدى قبول هذه الدول بالدور الروسي في الأزمات الإقليمية المختلفة.
مرحلة انتقالية:
في الفترة السابقة لاندلاع الثورات العربية، طغى الحضور الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على الوجود الروسي بالمنطقة بدرجة كبيرة. وظل التعاون التجاري والاستثماري بين روسيا والشرق الأوسط محدودًا باستثناء الشراكة الاقتصادية القوية التي تربطها بكلٍّ من إيران وتركيا. حتى أنه في عام 2015، لم تتجاوز قيمة التبادل التجاري بين المنطقة وروسيا 27.2 مليار دولار، أى حوالي عُشر حجم التبادل التجاري للشرق الأوسط مع الصين في العام نفسه. وبالمثل، تنشط الاستثمارات الروسية بالمنطقة في عدد محدود من الدول، وفي مجالات محدودة، وفي الأغلب بقطاع الموارد الطبيعية بشكل رئيسي.
المبادلات الاقتصادية والعسكرية بين روسيا وبعض دول الشرق الأوسط (بالمليار دولار)
• بيانات التبادل التجاري عام 2015، صادرات الأسلحة الفترة (2011-2015)، رصيد الاستثمارات الأجنبية حتى عام 2012.
• المصدر: البيانات المتاحة في معهد استكهولم للأبحاث، ومنظمة التجارة العالمية، والأونكتاد.
أما الآن، وقد أصبحت روسيا طرفًا رئيسيًا في تفاعلات المنطقة، فقد أصبح الحضور الاستثماري للشركات الروسية بالمنطقة مطمحًا رئيسيًّا للحكومة الروسية، وهو ما يعزز آفاق المعاملات الاقتصادية بين الطرفين سواء على الصعيد التجاري أو الاستثماري. ومما قد يحفز هذا الحضور أن النفوذ الروسي آخذ في التزايد بالمنطقة في ظل الارتباك الذي تشهده السياسة الأمريكية تجاه أزمات الشرق الأوسط بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة في نوفمبر 2016، فضلا عن أن روسيا عززت من دبلوماسيتها العسكرية بالمنطقة، وأصبحت أحد المصدرين الرئيسيين للأسلحة إلى عدد من الدول.
صعود لافت:
باتت روسيا أحد الشركاء الاقتصاديين الذين تتطلع بعض دول الإقليم إلى تعزيز التعاون الاقتصادي معها في عدد من القطاعات الاقتصادية، لا سيما في مجال النفط والغاز، وفيما يلي أبرز تطورات الحضور الروسي بالمنطقة:
1- قطاع الطاقة النووية: في ظل اهتمام دول المنطقة بتنويع مصادر الطاقة، لجأ الكثير منها إلى التركيز مجددًا على مجال الطاقة النووية لتوليد الكهرباء. وفي غضون الشهور الماضية، عولت حكومات المنطقة في كل من مصر وتركيا والأردن على الشركات الروسية في تنفيذ مشروعات الطاقة النووية. وتعد السودان آخر دول المنطقة التي أعلنت عن تعاونها مع روسيا في مجال الطاقة النووية السلمية. وفي هذا الصدد أعلنت شركة “روس آتوم” الروسية للطاقة أنها بصدد توقيع مذكرة تفاهم في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية مع وزارة المياه والري والطاقة في السودان بحلول عام 2017.
2- قطاع النفط: على الرغم من الآفاق السلبية لأسواق النفط على المستوى العالمي، إلا أن الشركات الروسية أبدت استعدادًا كبيرًا للنفاذ إلى قطاع النفط والغاز بالإقليم، والذي يتمتع بثروات هائلة. وعلى مدار السنوات الماضية، نشط عدد من الشركات النفطية الروسية في المنطقة، أهمها “لوك أويل” في العراق ومصر، بينما تمثل شركة الغاز الروسية “غازبروم” المورد الرئيسي للغاز الطبيعي للسوق التركية.
وقد وقعت الشركة السابقة مع إيران مؤخرًا اتفاقًا مبدئيًّا لتطوير حقلي “جنكوله” و”جشمه خشك” بالقرب من الحدود العراقية، وذلك بعد إلغاء القيود على قطاع النفط بالبلاد في يناير 2016، عقب الوصول للاتفاق النووي مع مجموعة “5+1” في يوليو 2015. وتعد الاستثمارات الروسية السابقة جزءًا من حزمة استثمارية تتراوح بين 35 و40 مليار دولار ستضخها روسيا بإيران، بحسب تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وعلى ما يبدو فإن الشركات الروسية تسعى بدورها أيضًا إلى استغلال ثروات البحر المتوسط، حيث استحوذت شركة “روسنفت” الروسية على حصة 30% من شركة “إيني” الإيطالية بامتياز حقل “شروق” البحري المصري، وذلك مقابل 1.125 مليار دولار، بالإضافة إلى خيار شراء حصة إضافية تبلغ 5% مستقبلا.
ويعتبر مشروع “السيل” التركي أحد المشروعات الاستراتيجية الأخرى التي تولي الحكومة الروسية اهتمامًا موسعًا بها في الإقليم، وهو المشروع الذي صادق عليه مجلس الوزراء الروسي في ديسمبر 2016، والذي يتعلق بمد أنبوبين عبر قاع البحر الأسود من روسيا إلى تركيا بطاقة إجمالية تصل إلى 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويًّا. ومن دون شك فإن تنفيذ هذا المشروع سيمد روسيا بميزة استراتيجية للوصول إلى الأسواق الأوروبية بعيدًا عن التعويل على خطوط الأنابيب ذات المخاطر الجيوسياسية الممتدة عبر أوروبا.
وبخلاف الأسواق التقليدية للنفوذ الروسي، تتطلع روسيا إلى النفاذ إلى أسواق جديدة مثل الجزائر، وفي هذا الصدد أشارت رئيسة مجلس الاتحاد الروسي فالينتينا ماتفيينكو، في ديسمبر 2016، إلى أن روسيا تبدي اهتمامًا بقطاع النفط والغاز في الجزائر، حيث تطمح إلى بناء وحدات طاقة جديدة، والتنقيب عن الذهب والمعادن. في حين أن المغرب رحبت بمشاركة الشركات الروسية في مجال البحث والتنقيب عن النفط والغاز في البلاد، وذلك على هامش اجتماعات مجموعة العمل المغربية-الروسية في روسيا في يوليو 2016.
3- القطاع المالي: بالإضافة إلى قطاعي الطاقة النووية والنفط، يعد القطاع المالي أحد القطاعات ذات الأهمية بالنسبة لروسيا في المنطقة، حيث تطمح إلى تعزيز اندماجها المالي في اقتصادات المنطقة، ومن ثم تسهيل مبادلات التجارة والاستثمار معها. وفي هذا الصدد أشار وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك مؤخرًا إلى أن كلا من إيران وروسيا ستعمل على إنشاء مصرف إسلامي في إطار توسيع نطاق التعاون الاقتصادي بين الدولتين. وإلى جانب ذلك، تمول روسيا عددًا من المشروعات بإيران كمشروع كهربة سكة حديد “جارمسار – أينتشيه بورون” الإيرانية بقرض قيمته 1.01 مليار دولار، إضافة إلى قرض بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل بناء محطة كهرباء حرارية.
4- قطاع التعدين: من ضمن القطاعات البارزة الأخرى التي استقطبت اهتمام الشركات الروسية قطاع التعدين، لا سيما في السودان التي تسعى إلى تعويض فقدانها موارد النفط بموارد بديلة أخرى كالذهب. وفي أكتوبر 2016، وقعت وزارة المعادن السودانية مذكرة تفاهم مع شركة “روس جيولوجي” لإكمال الخريطة الجيولوجية، وتطوير القطاع التعديني بالبلاد. وبجانب الشركات الصينية والمصرية، تنقب عدد من الشركات الروسية عن الذهب في الأراضي السودانية، وأبرزها شركة “سيبيريا للتعدين” التي من المنتظر أن تبلغ طاقتها الاستخراجية 53 طنًّا سنويًّا من ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل.
مكاسب مقيدة:
ومن دون شك، فإن مردود انخراط روسيا السياسي والعسكري مجزٍ بالنسبة للشركات الروسية، حيث من المنتظر أن تعزز الصفقات الاستثمارية من مكاسبها المالية والتجارية في المديين القصير والطويل، ويأتي ذلك في الوقت الذي تحاول فيه القيادة الروسية التغلب على العقوبات المفروضة عليها من قبل الحكومات الغربية بسبب ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. كما من المنتظر أن تتصاعد العوائد الاقتصادية الروسية وتمتد إلى مناطق جغرافية غير معتادة بالشرق الأوسط في ظل توقعات بتراجع الدور الأمريكي بالشرق الأوسط، لا سيما بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية.
وأما بالنسبة لمكاسب دول المنطقة، فمن المؤكد أن حضور الشركات الروسية يمثل خيارًا إضافيًّا لدول المنطقة لتوفير رؤوس الأموال اللازمة لتنمية قطاعاتها الرئيسية كالطاقة والتعدين في وقت شحت فيه رؤوس الأموال الغربية بالمنطقة، أو أصبحت أكثر حذرًا في الدخول إليها في ظل البيئة الإقليمية التي تتسم بارتفاع المخاطر السياسية والاقتصادية.
وبرغم المكاسب السابقة، فإن هناك عقبات قد تحول دون بلوغ روسيا طموحها في الشرق الأوسط، وأولها الحذر والتردد اللذان تبديهما بعض الحكومات في المنطقة في الانفتاح على الشريك الروسي خشية المساس بتعاونها مع الولايات المتحدة وأوروبا. ومن ضمن الحواجز الأخرى أمام دخول الشركات الروسية وغيرها من الشركات، ضعف البيئة الاستثمارية، إلى جانب عدم توافر رؤوس الأموال المحلية اللازمة لتمويل بعض المشروعات الكبيرة الحجم التي تنفذها الشركات الروسية كمشروعات الطاقة النووية، بما يعرقل تنفيذ هذه المشروعات في أغلب الأحوال، أو التباطؤ في تنفيذها. ويضاف إلى السابق، أن الشركات الروسية تتمتع بمزايا تنافسية في مجالات محدودة، وهي النفط والغاز في أغلب الأحوال، إلى جانب بعض الصناعات الثقيلة، وهي مجالات قد لا تلبي الاحتياجات التنموية لأغلب دول الإقليم.
ويمكن القول إذن، إن الشركات الروسية في المنطقة تندمج تدريجيًّا بأسواق الشرق الأوسط، بما قد يزيد من مكاسبها المحتملة مستقبلا، ولكن على أية حال لن تكون حتى الآن بديلا للشركات الأوروبية أو الأمريكية أو الصينية ذات الإمكانات العالية اللازمة لتطوير القاعدة الصناعية ودعم التنويع الاقتصادي، بما سيؤدي في النهاية إلى وضع حدود لمستوى التعاون بين الطرفين.