رام الله- سارعت الحكومة الإسرائيلية للإشارة إلى أن الفلسطيني الذي دهس مجموعة من الجنود الإسرائيليين بشاحنة، الأحد الماضي، استلهم فكر تنظيم الدولة الإسلامية، في محاولة وصفت بأنها توظيف سياسي للحدث من طرف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ولم يتبن تنظيم داعش المتطرف العملية، وظل مكتفيا فقط بالإشادة. لكن، ذلك لا ينفي أن العملية أثارت جدلا جديّا في صفوف الفلسطينيين وحلفائهم ومختلف المحليين حتى الإسرائيليين منهم؛ فماذا لو تبنى داعش هذه العملية؟، وكيف سيؤثر ذلك على مسار القضية التي ظلت لعقود طويلة تسير وفق نسق محدد تتحكم فيه وتديره أطراف محددة، سواء على مستوى الداخل أو الخارج. وهناك جدل آخر لا يقل أهمية طرح نفسه وبشده، خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي، تعلق بالأساس بتصنيف من يقوم بعملية ضد إسرائيليين ويعلن مبايعته لتنظيم داعش، وفي أي خانة سيصنف، خانة المقاومة أم خانة “الإرهاب”؟
استعبد محللون فلسطينيون وإسرائيليون وقوف تنظيم داعش وراء العملية، مؤكدين أن نتنياهو، الذي يواجه اتهامات في قضايا فساد، وخسر معركته مع الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام مجلس الأمن الدولي، فيما يخص ملف المستوطنات، والساعي إلى إقامة علاقات جديدة مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، يسعى إلى وسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، من خلال ربطها بتنظيم داعش، وذلك بهدف تحقيق مكاسب سياسية وجلب تعاطف دولي.
معظم الهجمات الفلسطينية تحركها المشاعر الوطنية وليس الدين، على عكس العمليات التي يتبناها داعش
لكن في ذات الوقت، لم يستبعد المحللون أن يتم شن هجمات مماثلة ينفذها محسوبون على التنظيم ضد الإسرائيليين؛ الأمر الذي يؤكد حقيقة أن التعاطي التقليدي مع القضية الفلسطينية، خصوصا من جهة الأطراف الفلسطينية، بات يحتاج إلى تطوير ومراجعة توائم هذه التطورات؛ فتنظيم الدولة الإسلامية وإن لم يتبن أي عملية داخل الأراضي الفلسطينية إلى الآن، إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يسعى لإيجاد موطئ قدم في فلسطين، خصوصا بعد تراجعه في مراكزه الرئيسية وإغلاق تنظيم القاعدة لكل المنافذ الأخرى التي قد يهرب إليها بعد تراجعه وضرب أوكاره.
ويذهب خبراء إلى اعتبار عملية القدس وما تطرحه من جدل وحيرة في صفوف الفلسطينيين الذين اعتادوا السيطرة على الأمور، أمرا إيجابيا خاصة لجهة كونها حرّكت هذا الركود وكشفت خطرا كان مغيّبا، وهو أن داعش مرجعيته من خارج فلسطين وعقيدته مختلفة عن العقيدة الوطنية التي تكون الدافع الأساسي وراء العمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون. وتقول أوريت بيرلوف، الخبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي والباحثة بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، إن “معظم الهجمات الفلسطينية تحركها المشاعر الوطنية وليس الدين، لكن إسرائيل تحاول تعميم الظاهرة قائلة إن الجميع يواجه نفس الخطر. لكن وفي حين أن الأعراض ربما تتشابه، فإن الأسباب مختلفة تمام الاختلاف”.
وبدوره أشار الصحافي محمد دراغمة، المختص في شؤون الحركات الإسلامية في تصريحات صحافية، إلى أن القدس ليست من أولويات داعش، وكما هو معروف في نقاشات هذا التنظيم وأدبياته الأولوية إقامة “الدولة” في الدول المحيطة في فلسطين، وما الحديث عن فلسطين والطريق نحو القدس، وهو نفسه الشعار الذي ترفعه إيران وتلوح به أحيانا تركيا، عند الضرورة، ليس سوى وسيلة من وسائل استقطاب الشباب العربي والفلسطيني.
ولفت دراغمة إلى أن نتنياهو يحاول إقناع العالم الغربي بأن إسرائيل مستهدفة مثل فرنسا وألمانيا من الإرهاب الإسلامي، مشيرا إلى أن الظاهرة السلفية هي الأقل في فلسطين. وبرهن على ما ذهب إليه بقوله “في السجون الإسرائيلية هناك نحو 15 معتقلا فلسطينيا فقط من المحسوبين على التيارات السلفية، من أصل نحو سبعة آلاف معتقل”. وأضاف “لدينا في فلسطين حركات إسلامية ذات تجربة وتستقطب أي شخص لديه ميول إسلامية”.
تعقيدات القضية تتجاوز آلة الحرب الإسرائيلية
لكن قد يجد تنظيم الدولة الإسلامية فرصة في الخلافات الفلسطينية-الفلسطينية، من جهة بين فتح وحماس، ومن جهة أخرى داخل فتح نفسها، ومن جهة ثالثة لجهة التوتر المكشوف بين حركة حماس والمجموعات السلفيّة الجهاديّة في غزّة التي عاشت في الفترة الماضية حالة من الشدّ والجذب وعدم الاستقرار؛ وهو وضع سيسمح لتنظيم الدولة الإسلامية باستغلاله، ويدعم مزاعم الحكومة الإسرائيلية ويطلق يدها لشن حرب على “الإرهاب”، هي الأخرى.
ودفع صعود داعش، وانفصاله عن تنظيم القاعدة، عددا من المجموعات الجهادية التي تتخذ من غزة مقرا لها، إلى تبديل ولائها ونقله من أيمن الظواهري إلى أبوبكر البغدادي. ولا تتوفر معلومات دقيقة حول حجم التأييد للتنظيم في قطاع غزة، فيما دأبت وزارة الداخلية بغزة، التي تشرف عليها حركة حماس على نفي أي وجود للتنظيم، لكنها تقول إنه “من الوارد والطبيعي كما في كل المجتمعات، أن يعتنق بعض الشباب الأفكار المتطرفة”.
وفي التاسع عشر من يناير 2014، قام مناصرو داعش، (نحو 200 من الشبان) بالخروج في مسيرة علنية جابت شوارع مدينة غزة الرئيسية، في ظهور علني لأول مرة. ولا تتوفر معلومات دقيقة حول أعداد الفلسطينيين الذين يقاتلون في صفوف التنظيمات الجهادية في سوريا والعراق. وبين الفينة والأخرى، تعلن مصادر أمنية فلسطينية، ومواقع محلية عن مقتل أحد الشبان الفلسطينيين، أثناء معارك يخوضها في صفوف تنظيم داعش في سوريا والعراق.
وقال باسل ترجمان، المحلل سياسي فلسطيني، إن أول من كذب نتنياهو كانت الشرطة الإسرائيلية والتي نفت أي علاقة لداعش بمثل هذا النوع من العمليات. ويرى عدنان أبوعامر، مدرس العلوم السياسية بجامعة الأمة (خاصة) بمدينة غزة، والباحث في الشؤون الإسرائيلية، أن نتنياهو يحاول “مساواة المقاومة الفلسطينية بتنظيم داعش، من أجل كسب تعاطف دولي”.
وقال إن الاتهامات بأن منفذ عملية الدهس في شرق القدس من مؤيدي داعش، تصريحات دعائية وهي أيضا جزء من الحرب الإعلامية التي يتم تسويقها اليوم في ظل محاربة العالم وإجماعه على تنظيم داعش وهويته الإرهابية (…)، وبالتالي فإن الحكومة الإسرائيلية تريد أن تظهر كما ولو أنها ضحية تعاني من الإرهاب العالمي”. واستبعد أبوعامر، وجود خشية إسرائيلية من تغلغل تنظيم داعش وانتشاره في الأراضي الفلسطينية وتنفيذه لعمليات ضد أهداف تابعة لها. لكنه يرى في نفس الوقت أن التنظيم وفي ظل ما يتعرض له من ضربات في سوريا والعراق، وفي أماكن تواجده، قد يلجأ إلى تنفيذ هجمات ضد أهداف إسرائيلية. ونفى المتحدث باسم الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة الغربية عدنان الضميري أي تلميح لأن تنظيم الدولة الإسلامية له موطئ قدم هناك. وقال إنه لا وجود للدولة الإسلامية كتنظيم في الضفة الغربية، لكنه سلّم بأن بعض الناس يعبرون عن تأييدهم للتنظيم على موقع فيسبوك أو غيره من وسائل التواصل الاجتماعي.
وقال يوسي ميلمان، المحلل الذي يكتب في صحيفة “معاريف”، إنه لا توجد أدلة تذكر تشير إلى أن المهاجم الفلسطيني استلهم نهج الدولة الإسلامية، موضحا أن الفلسطينيين نفذوا هجمات الدهس بالسيارات قبل التنظيم المتشدد؛ وقبل ذلك نفذها الإسرائيليون، فأول عملية دهس بشاحنة حدثت في جباليا بغزة من قبل سائق إسرائيلي قبل ثلاثين عاما، في وقت لم يعرف العالم آنذاك هذه الأنواع من الهجمات.
صعود داعش، وانفصاله عن تنظيم القاعدة، دفع عددا من المجموعات الجهادية التي تتخذ من غزة مقرا لها، إلى تبديل ولائها ونقله من أيمن الظواهري إلى أبوبكر البغدادي
وفي تلك العملية، قام سائق شاحنة إسرائيلي من مدينة أسدود آنذاك وبشكل متعمد، بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين، سقط خلالها قتلى وجرحى؛ كما لا يزال العاملون في حقوق الإنسان والناشطون الدوليون المهتمون بالقضية الفلسطينية يحيون ذكرى دهس الناشطة راشيل كوري بجرافة إسرائيلية في 2003 عندما كانت تعترض لعملية هدم منزل فلسطيني.
وفي المقابل أكد آفي لساخروف، الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية والعربية، أن فصائل المقاومة الفلسطينية ستظل دائما الخطر الحقيقي على إسرائيل، وليس تنظيم داعش. وقال لساخروف، “طبقا للمعلومات التي حصلت عليها من المستوى الأمني الإسرائيلي، فإن داعش لا يشكل خطرا على أمن إسرائيل”. ورجح لساخروف أن يكون “العمل الذي جرى عملا فرديا، وليس جزءا من عمليات يتلقى منفذوها التوجيهات من الرّقة (سوريا) أو الموصل (العراق) وإنما عمل متأثر بمشاهد عمليات جرت في الخارج”.
لكن، وبغض النظر عن كل ذلك، يؤكد الخبراء أنه وفي عالم تغيرت فيه الكثير من السياسات والتوجهات والعقائد السياسية التي حكمته لعقود طويلة، أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ستتحتم على الفلسطينيين مواجهة هذه التغيرات بسياسات قادرة على مواكبة ما قد يحمله وصول رئيس أميركي وعد بأن تكون أول أعماله عند بلوغ البيت الأبيض تحويل مقر السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس؛ وأفكار أخرى تعي جيدا بأن هناك مرجعيات خارجية يمكن أن تسحب منها بساط “المقاومة” وتدخل بذلك القضية الفلسطينية في متاهات أخرى تقنع الشعبويين واليمينيين في أوروبا بأن مزاعم نتنياهو صائبة. وما على الفلسطينيين إلا أن ينتبهوا إلى خطوة أنه قد يأتي يوم ويجدون أنفسهم أمام معادلة يصنفون فيها قتل إسرائيليين بأوامر منهم مقاومة ويعتبرون قتل إسرائيليين بأوامر من داعش إرهابا.
العرب اللندنية