هناك مَن يمني نفسه بولادة دولة فلسطينية على أنقاض غزة. تلك فكرة رومانسية عصية على الفهم. فلا أحد في إمكانه اليوم في ظل الجنون الإسرائيلي أن يُخرج تلك الدولة من بين ملفات الشرق الأوسط التي صارت أشبه بالركام الذي من اليسير حرقه تحاشيا لأي محاولة لتصفح واحد من ملفاته التي تداخل فيها المحلي بالإقليمي بالدولي. واقعيا ليست هناك أي رغبة في عزل ملف عن الآخر بعد أن سُمح لإيران، وهي جزء من المشكلة وليست صاحبة الرأي الأخير، أن تهيمن عقائديا وعسكريا واقتصاديا على جزء حيوي من المنطقة وتكون بمثابة عقدة مزدوجة لمَن يقف معها ولمَن يقف ضدها.
أما إسرائيل فإنها وإن كانت صاحبة رأي فإن موقفا غربيا أعمى صار يجر العالم للاصطفاف وراءها وهي تزيف الحقائق وتضع العربة قبل الحصان حين تراهن على القضاء على أعدائها من غير أن يكون السلام هدفها. وليس صحيحا أن الموقف الدولي صار أضعف من أن يحتوي القوتين المتخمتين بالسلاح من المضي بالمنطقة إلى أقصى درجات العنف. ليس صحيحا أيضا أن القوتين خرجتا عن السيطرة وصارتا تتحركان، كل واحدة منهما في دائرة جذب خاصة بها وهما تتصارعان خفية وعلانية، ولكن شعوب المنطقة هي المتضرر الأكبر من سباقهما العبثي.
هل سعت إيران لتثبيت حماس في غزة حلا وحيدا للمقاومة التي تسعى لتحرير فلسطين؟ تلك كذبة. تعمل إيران على تزوير هوية المناطق التي نجحت في الوصول إليها من خلال وكلائها، ولكن القضية الفلسطينية لم تعد في حاجة إلى أي نوع من الزخرف يضفي عليها مزيدا من الإبهار. فهي ليست مجموعة من القناعات، بل هي حقيقة اعترف العالم بها بعد نضال وطني مسلح وجهد فكري هائل بذله الفلسطينيون في ساحات الجدل العالمية. ليست القضية الفلسطينية في حاجة إلى إيران لتكون موجودة أو لتغزو العالم بجوهر إنساني متجدد. مشكلة إيران مع العالم لا علاقة لها بالخلاف على فلسطين، جغرافيا وتاريخا. هناك مسافة تفصل بين إيران والقضية الفلسطينية لا يمكن تجاوزها عن طريق العقائد التي تلعب في الكثير من الأحيان دورا مضللا.
◙ إسرائيل مسؤولة عما يجري. ذلك معروف ولا يحتاج إلى براهين. ما لا نحتاجه بالدرجة الأساس أن نكذب على أنفسنا حين نصدق أن حربنا عليها وقد فارقت جوهرها الوطني والقومي والإنساني ستقود إلى نتائج إيجابية
في المرحلة التي سبقت حرب غزة الأخيرة زجت إيران بنفسها في القضية الفلسطينية من خلال حزب الله وكان ذلك أشبه باستعراض في مزاد، مفرداته كلها دينية. وهو ما جرد القضية من غطائها الوطني والقومي والإنساني. ما حدث لم يكن عفويا، بل هو جزء من خطة محكمة أريد من خلالها إحلال الدين محل السياسة من خلال تسييس الدين أولا وثانيا من خلال استبدال الرموز والمفردات الوطنية برموز ومفردات دينية لم يكن لها محل في التفكير الوطني الفلسطيني إلا باعتبارها دلالات تجمع الشعب الفلسطيني ولا تفرق بين مسيحي ومسلم. كانت فلسطين في فكر القضية بلدا جامعا يناضل الفلسطينيون ومن خلفهم العرب من أجل تحريره أو على الأقل الخروج به من مأزقه التاريخي بجغرافيا سبق للقوانين الدولية أن أقرتها. لذلك كان المسعى الإيراني مريحا لإسرائيل. من خلاله اختلطت الأوراق وعمت الفوضى التي استثمرتها إسرائيل لصالحها. فهي تواجه حربا دينية عتيقة بكذبة الدفاع عن نفسها باعتبارها دولة ديمقراطية تنتمي إلى العالم الحديث.
كل الذي يُقال عن نهايات سعيدة لحرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في غزة هو محض افتراء. هناك جبهة إعلامية ضخمة تزيد الناس جهلا بحقيقة ما يجري لأهل غزة تحت شعار النصر الذي سيؤدي إلى ولادة الدولة الفلسطينية. وما من أحد يتساءل عن نوع تلك الدولة التي سترعاها إيران من خلال جماعة الإخوان المسلمين. لا أحد ينتبه ولو قليلا إلى ما تفكر فيه إسرائيل وهي تستمر في حربها التي هي أشبه بالحرث على مستوى اقتلاع أهل غزة من بيئتهم. لغة السوق هي الغالبة. هي الأعلى وما من أحد ينصت إلى أصوات الضحايا. ما من أحد يرى الوقائع مجردة من التعليقات المضللة. فمَن يبحث عن النصر الوهمي عليه أن لا يسمع ولا يرى. عليه أن يجلس في بيته بضع نفسه في خدمة قناة الجزيرة القطرية.
إسرائيل مسؤولة عما يجري. ذلك معروف ولا يحتاج إلى براهين. ما لا نحتاجه بالدرجة الأساس أن نكذب على أنفسنا حين نصدق أن حربنا عليها وقد فارقت جوهرها الوطني والقومي والإنساني ستقود إلى نتائج إيجابية في ظل خراب لن نتمكن من وضع حد له. علينا أن نكون على ثقة من أن الدولة الفلسطينية التي نحلم بإقامتها هي ليست اختراعا إيرانيا. فإيران تهدم الدول ولا تبنيها.
العرب