تتكاثر الإشاعات هذه الأيام حول المستقبل الذي ينتظر سورية والسوريين، وحول طبيعة النظام السياسي الذي من المفروض أن يلملم أشلاء سورية أرضاً وشعباً. كما تتناول هذه الإشاعات أسماء الأشخاص الذين سيناط بهم إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، أو أولئك الذين سيشاركون في مؤتمر آستانة الخ…
والإشاعات، بموجب معطيات علم النفس التطبيقي، تنتشر في ظل توافر عاملين أساسيين هما: الأهمية والغموض. فكلما ارتفعت درجة هذين العاملين تزايدت الإشاعات، وارتفعت وتيرة انتشارها، لا سيما إذا أخذنا في اعتبارنا واقع تقدّم وسائط التواصل الاجتماعي غير الخاضعة لأية ضوابط تمكّن المتعامل معها من التحقق من مصداقية الأخبار وأشباهها.
فالوضع السوري يمثّل أهمية قصوى بالنسبة إلى المواطن السوري الذي بات يتعلّق بقشة، كما يقال، للخروج من النفق المظلم. كما أن الوضع المعني يمتلك حيوية كبرى على المستويين الإقليمي والدولي لاعتبارات مختلفة تتمحور حول المصالح والهواجس والحسابات المستقبلية.
أما الغموض فباعثه الأساسي إبعاد السوريين، معارضة وموالاة، عن الاطلاع على بواطن الملف السوري وأسراره، وعـلى اتـخاذ القرارات المؤثرة في شأنه.
فالمعارضة بكل هيئاتها ووظائفها السياسية والميدانية مجرد موضوع منفعل، ماهيته ردود الأفعال تجاه الجهود الإقليمية والدولية. هذا في حين أن النظام سلّم أموره منذ زمن بعيد إلى الراعي الإيراني وأذرعه، ومن ثم إلى الحليف الروسي الذي يبدو أنه يتطلع إلى حصيلة مغايرة لتلك التي يرمي إليها النظام الإيراني ويعتمد سياسة لا تطمئن ولي الفقيه على طول الخط.
وقد بدأ الغموض يلف موضوع الحل السياسي في سورية مع بدايات الغزل الروسي – الأميركي، الذي تحوّل لاحقاً إلى عتب المحبين – المتخاصمين.
ومع ظهور نتائج الانتخابات الأميركية بمفاجأتها الكبرى، انتقلت إدارة أوباما إلى سياسة التصعيد المحدود المدى مع الروس، وذلك انتظاراً لمجيء الإدارة الجديدة بقيادة ترامب الذي يحيّر الجميع ويربكهم بغموض توجهاته، وسرعة انعطافاته، الأمر الذي يسمح بإطلاق العنان لمخيلات نسج الإشاعات وترويجها. هذا علماً أن إدارة أوباما بوعودها التبشيرية ونتائجها الواقعية الصفرية تظل المسؤولة الأولى عن انهيارات منطقتنا.
وفي أجواء ترقّب المقبل المجهول من جانب ترامب، قام الروس بتنسيق غير مسبوق مع الجانب التركي وسط مناخ يوحي بوجود توجه جدي روسي غير عادي في التعامل مع الملف السوري، وذلك عبر استثمار حصيلة ما بعد حلب، وتجاوزها في الوقت ذاته.
فقد حقّق الروس بإسقاط حلب جملة أهداف من الواضح أنها ستكون ركائز خطتهم الجديدة الخاصة بسورية تحديداً، وبعلاقاتهم الإقليمية والدولية في صورة عامة.
فقد أثبتوا مقدرتهم الميدانية بقوة نيرانهم الاستراتيجية في مواجهة مدينة محطمة، ومدنيين محاصرين، ومقاتلين تقرّر حرمانهم، بفرمان سياسي دولي، كل وسيلة للدفاع عن النفس في مواجهة الطيران.
كما تمكّنوا من انتزاع دور في الملف السوري معترف به، ولو على مضض إقليمياً ودولياً. واستطاعوا في الوقت ذاته إفهام الحليف المنافس، أي النظام الإيراني، أنه لن يكون الآمر الناهي في سورية مستقبلاً، سورية التي تحتل في لعبة التوازنات الدولية موقعاً أهم من أن يترك لقمة سائغة للمشروع الإيراني القائم على أساس التطويع السكاني والتغيير المذهبي، وفرض نهج ديني أوتوقراطي لا تستسيغه غالبية الطائفة العلوية نفسها، ناهيك عن المذاهب والأديان الأخرى، لا سيما السنّة، أي الغالبية الغالبة في بلاد لا يناسبها سوى الاعتدال والتعايش بين الجميع ومن أجل الجميع.
من ناحية أخرى، عزّز الروس وجودهم الدائم في المياه الدافئة، وهذا ما سيمنحهم فرصة أداء دور مستمر لعقود مقبلة في عملية ترتيب أو إعادة صياغة معادلات التوازنات الإقليمية.
ولإدراك الروس حساسية الملف السوري عربياً وإسلامياً، استغلوا اللحظة الحرجة مع استكمال السيطرة على حلب، وعملوا على إعطاء أنفسهم صورة مثالية عن أخلاقية المنتصر. فأجروا سلسلة اتصالات ومفاوضات مع القوى الميدانية، ومن بينها بعض تلك التي كانت روسيا تعتبرها إرهابية، وتقصفها إلى جانب المخابز والمشافي والمدارس.
ونجحوا عبر التنسيق والتفاهم مع تركيا، التي تنطلق هي الأخرى من ظروفها المتداخلة، وأولوياتها المستجدة، من الإعلان عن وقف لإطلاق النار، ومتابعة الاتصالات والمشاورات لتحديد هوية ووظيفة الذين سيشاركون في اجتماعات آستانة، التي يريد الروس لها أن تكون حاسمة قدر الإمكان، مع تيقّنهم من أن المآلات لن تكون وردية لمصلحتهم كما يرغبون، وإنما هناك قوى أخرى مهمة لها دورها المؤثر، وهي لم تقل كلمتها بعد. ويشار هنا عربياً إلى السعودية، ودولياً إلى الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها الأوروبيون.
النظام الإيراني قلق إلى أبعد الحدود مما يجري. فهو لا يمتلك أدوات الضغط الكافية لعرقلة التوجه الروسي، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن استمرار الأمور هكذا ربما كان مقدمة لبلورة ملامح التفاهم الروسي – الأميركي على أرض الواقع، وهو تفاهم من شأنه أن يحدّ من النفوذ الإيراني في سورية. وهذا النفوذ الذي يتمثّل في صيغة من تغلغل لافت في مفاصل الدولة والمجتمع، يثير عواطف السوريين جميعاً وهواجسهم، وفي اتجاهات مختلفة. فهو يثير امتعاض، أو ارتياح، مجموعة لا يستهان بها من الضباط السوريين الموالين للنظام ممن يرتبطون مع الروس بصلات عدة منها القرابة عبر الزواج، أو القدرة على التفاهم بفعل مشاركتهم في دورات تدريب روسية، أو عبر التقاء المصالح التي عادة يكون التوافق في شأنها مع قوة عظمى أسهل وأقل كلفة، وذلك قياساً بالتفاهم مع قوة أخرى توجهها عقلية تتدخل في تفاصيل التفاصيل.
روسيا تعد العدة لمؤتمر آستانة، وستشاركها تركيا وإيران أيضاً. وليس سراً أن حاجات حيوية قد جمعت بين هذه الدول في الوقت الحالي. لكن الأولويات والمنطلقات والمصالح متغايرة. كما أنه ليس سراً أن الجميع في انتظار الرئيس الأميركي المقبل. ولعل هذا ما يفسر الحرص الروسي على نيل مباركة مجلس الأمن، مقابل التأكيد بأن ما جرى وسيجري لن يكون بعيداً من الجهود الدولية لمعالجة الوضع السوري. ولهذا كانت الإشارة المقتضبة إلى بيان جنيف والقرارات الدولية، والزعم بأنها ستكون في الخلفية ففي صيغة ما. هذا مع أن ما يستشف من التسريبات والترتيبات يؤكد وجود نزعة تستهدف تغيير قواعد اللعبة عبر آستانة.
وتبقى المعارضة السورية بكل مسمياتها ووظائفها المعنية أكثر من غيرها بكل يُعمل عليه، لأن المصير في نهاية المطاف هو مصير سورية وشعبها. فهذه المعارضة مطالبة بالعمل الجدي من أجل توحيد الرؤية والموقف، وتحقيق التشابك الفاعل بين الجهود السياسية والعسكرية والإعلامية والديبلوماسية، حتى تتمكّن من امتلاك الحد الأدنى من مقوّمات الاستعداد لتحديات المرحلة الصعبة المقبلة.
عبدالباسط سيدا
صحيفة الحياة اللندنية