خلال حوالي شهرين نفذ الحرس الثوري الإيراني مناورته العسكرية الثانية، فالأولى -التي وُصفت بأنها الكبرى في تاريخ المناورات العسكرية الإيرانية بعد عام 2012- تم تنظيمها في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2014. حيث امتدت على مساحة واسعة من وسط وجنوب إيران، واشتركت فيها أغلبية قطاعات الحرس الثوري والصنوف العسكرية من قوات برية ومدفعية وقوة صواريخ وسلاح جو وقوات بحرية. المناورات -التي بدأت في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط وسُميت “الرسول الأعظم 9″- تبدو محدودة من حيث الرقعة الجغرافية وهي منطقة جنوب إيران وتحديداً المنطقة المطلة على مضيق هرمز، وكذلك من حيث القطاعات العسكرية التي شاركت فيها مقارنة بالمناورات التي تمت في شهر ديسمبر/كانون الأول، كما أنها كانت قصيرة ولم تستمر إلا يومين. وارتبطت بما تناقلته وسائل الإعلام من تجربة تحاكي تفجير وإغراق حاملة طائرات.
اختبار أسلحة جديدة أم حرب نفسية؟
ووفق المعلومات التي تناولتها وسائل إعلام داخل إيران، فإن مناورات “الرسول الأعظم 9″ قد ركزت على استخدام الصواريخ لتحييد حاملات الطائرات وإغراقها. وقد اُستخدمت الزوارق الصغيرة الفائقة السرعة لإنجاز مثل هذه المهمة، وتم اختبار صاروخ جديد يسمى “نصر” لديه خاصية إصابة هدف على مسافة 5000 متر دون أن تتمكن الرادارات من كشفه، كما أن القوات الصاروخية قامت بتجربة إطلاق صاروخ كروز يسمى “غدير” ويُعتقد أن مداه يصل إلى 350 كم.
سلسلة المناورات المسماة “الرسول الأعظم” كانت في الغالب لاختبار أسلحة جديدة، يقوم قطاع التصنيع الحربي في الحرس الثوري بتصنيعها وتتم تجربتها عبر تلك المناوارات. فعلى سبيل المثال، في مناورات “الرسول الأعظم 8″ تمت تجربة طائرة بدون طيار من تصنيع قطاع الصناعات الحربية في الحرس الثوري.
ويبدو واضحاً أن جانباً مهماً من إعلان أي مناورة عسكرية هو التركيز على الجوانب النفسية والسياسية التي تتركها أخبار المناورة على من تعتبرهم إيران خصوماً لها، سواء في الإقليم أو خارجه.
الحرس الثوري -بصفته العمود الفقري للقوة العسكرية الإيرانية التي تستند أيضاً إلى الجيش- يتجاوز عدد المنتسبين إليه 350 ألفا، وهناك أعداد أخرى قد لا تكون مُسجلة ضمن فئة العسكريين المحترفين، لكنهم ضمن قطاع الحرس الثوري ويقومون بتقديم خدمات في سياق مدني أو علمي.
من حيث الأرقام المتعلقة بحجم القوة العسكرية لإيران، يجب الإقرار بأن المعلومات الدقيقة شحيحة، لكن يمكن القول -من خلال مراجعة تقارير عسكرية متعددة- أن القوات البرية الإيرانية بصنوفها المتنوعة من مشاة ومدفعية وقوات خاصة تتجاوز 180 ألفا، كما أن هناك أكثر من 22 ألفا ضمن القوات البحرية، و40 ألفاً في القوات الجوية. وهناك قطاعات تدخل ضمن الحرس الثوري مثل قوات الدفاع الجوي التي تتجاوز أعدادها 15 ألفاً.
وبالطبع هناك قطاعات ترتبط أعمالها بالعمل الاستخباراتي سواء داخل أو خارج إيران، فمهمة الحرس الثوري -منذ أن أنشئ- هي حماية نظام الجمهورية الإسلامية من الأخطار الداخلية والخارجية.
وبسبب هذه المهمة الكبيرة والأولوية الأساسية للنظام؛ فإن ما تنفقه إيران من موازنتها على الجانب العسكري يصل -وفق الأرقام المعلنة- إلى 7% من إجمالي الناتج القومي المقدر في عام 2014 بـ650 مليار دولار. وقد اقترحت الحكومة الإيرانية زيادة الموازنة المخصصة للإنفاق العسكري في عام 2015 بنسبة 33%. ومن المعروف أن هذه النسبة تذهب إلى قلب المؤسسة العسكرية الإيرانية وهو الحرس الثوري.
في الدلالات السياسية والعسكرية
قد يُنظر إلى أي مناورات عسكرية تقوم بها أي دولة بوصفها جزءا من النشاط العسكري الاعتيادي الذي يسعى لإبقاء القوات العسكرية على جاهزية كاملة، وهو ذاته أول تفسير تقدمه أي حكومة تقوم قواتها بمثل هذه المناورات. لكن في الحالة الإيرانية تبدو المسألة أبعد من ذلك بكثير. والحديث هنا عن إيران عندما كانت ملكيةوحتى بعدما تحولت إلى جمهورية إسلامية؛ فنشاطاتها العسكرية كانت دائماً مثار تساؤل وقلق من محيطها العربي. فعندما كانت ملكية كان جزء من تلك الفعاليات العسكرية يتم في سياق التعاون مع إسرائيل التي ربطتها علاقة قوية مع النظام الملكي الإيراني.
وفي عصر الجمهورية الإسلامية -وتحديداً منذ مطلع التسعينيات- أصبحت المناورات جزءا لا يتجزأ من النشاط العسكري السنوي المتكرر، وهو أمر بالمعنى العسكري يمكن تفسيره بأنه أداة ضغط سياسية تستخدم فيها المناورات. أو أنها أداة استنزاف دبلوماسي تفرض على الآخر مراجعة خياراته. ومن هنا يجدر الاهتمام بالسياقات السياسية التي تأتي في أتونها المناورات.
وتعد المؤسسة العسكرية المتمثلة في الحرس الثوري والجيش وقوات التعبئة في وضع لا تحسد عليه، فمنذ عام 1991 بدأت ظاهرة عسكرة المشهد السياسي في إيران، كما تزايد دور المؤسسة العسكرية وتحديداً الحرس الثوري.
ورغم محاولات الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي الحد من تلك العسكرة، فإنها استمرت وتجلت بشكل واضح في الفترتين الرئاسيتين للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. فوصوله للرئاسة في عام 2005 ما هو إلا نتيجة لتفاعلات داخل مؤسسة الحكم كان أبرزها حضور المؤسسة العسكرية وعلى رأسها الحرس الثوري. وتمت مكافأة الحرس الثوري على ذلك الدور بمنحه دوراً وحصة كبرى في المشهد الاقتصادي.
ولأن المؤسسة العسكرية بلا رقابة، فقد بدأت تواجه -منذ تولي الرئيس الحالي حسن روحاني- انتقادات متعلقة بالفساد، الأمر الذي دفع المؤسسات الإعلامية التابعة للحرس الثوري للرد بتوجيه انتقادات لسياسات حكومة روحاني، ولا سيما ما يسمى التفريط في حقوق إيران النووية. وهو أمر لا يتجاوز المناكفة السياسية، إذ إن قادة الحرس الثوري يعرفون أنه بدون موافقة قائدهم الأعلى مرشد الثورة آية الله علي خامنئي لم تكن حكومة روحاني لتسير في طريق المفاوضات مع الغرب بحضور واضح من قبل الولايات المتحدة.
ومن هنا، فإن جزءا من استمرار “إستراتيجية المناورات” يستهدف الداخل الإيراني وضرورة إقناعه بعظم الدور الذي يقوم به الحرس الثوري في مواجهة الأخطار الخارجية. وبالطبع فإن كل هذا يعتبر محاولة أيضاً للتقليل من الأضرار التي تحدثها الاتهامات بالفساد التي توجه للحرس الثوري.
تواجه إيران أزمة حقيقية بسبب الانخفاض المستمر في أسعار النفط العالمية، وتشعر -مثل دول أخرى كالجزائر وروسيا وفنزويلا- بأن هذا الانخفاض وراءه عوامل سياسية تتعلق بالولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ومثل هذا الأمر يجعل إيران تدخل في حرب باردة مع أهم منتج عربي للنفط وهو المملكة العربية السعودية. وهذه الحرب الباردة تتعلق بالقلق السعودي ومعه الخليجي من تمدد الدور الإيراني من العراق ولبنان وسوريا إلى البحرين وأخيراً إلى اليمن.
إن إجراء المناورات في جزيرة “لارك” الموجودة عند مدخل مضيق هرمز، يوجه رسالة سياسية لمن يستخدم هذا المضيق ولا سيما الرياض التي يصدَّر نفطها عبر المضيق، كما أنه رسالة إلى واشنطن التي تتناثر قطعها العسكرية في مياه الخليج العربي.
وبالطبع فإن إيران تقوم بهذه المناورات بينما ينخرط ممثلوها في ماراثون تفاوضي مع القوى الكبرى (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والصين وروسيا إضافة إلى ألمانيا) للتوصل إلى اتفاق يُفترض أن يُعلن في 31 مارس/آذار 2015.
هذه المفاوضات التي تتصدر فيها واشنطن المشهد تبدو مصيرية لإيران بالنظر إلى عاملين مهمين: الأول يتعلق بالوضع الداخلي وتراجع الوضع الاقتصادي والتضخم في سعر الريال الإيراني، فالعودة باتفاق يؤمن رفعاً جزئياً أو تدريجياً للعقوبات سيكون انتصارا للنظام ولحكومة الرئيس روحاني الذي أعطى الإيرانيين آمالاً كبيرة برفع العقوبات وتحسن الوضع الاقتصادي، قبل أن ينهي فترته الرئاسية الأولى التي ستنتهي في صيف 2017.
والثاني يتعلق بوضع إيران في المنطقة، حيث تواجه حالة من العزلة السياسية والانتقادات المستمرة من الدول العربية ومن تركيا بشأن سياساتها التي يُنظر إليها على أنها تؤجج البعد المذهبي والطائفي في المنطقة.
صحيح أن إيران تبدو في وضع المنتصر والقادر على التدخل والتأثير في الأحداث، لكن هذا لا يمتلك أدوات الاستمرار إذا ما نظرنا إلى العامل الاقتصادي، وتعدد الجبهات وخسارتها ما يتعلق بأوراق السياسة الناعمة والمتعلقة باعتبار إيران دولة ثورية تدافع عن المظلومين.
هذا إضافة بالطبع إلى التحديات الداخلية المرتبطة بتغير الأجيال، وتزايد الفجوة بين جيل الثورة والجيل الذي يحلم بأن يتصل مع العالم ولا يعيش معزولاً أو يُنظر إليه بسلبية. ومن هنا ستكون مفارقة كبيرة ألا يُوقع اتفاق حتى ولو لفترة زمنية محددة.
خاتمة
يمكن القول إن “إستراتيجية المناورات” قد تؤثر مرحلياً على المشهد السياسي الإقليمي وتزيد من إرباكه، لا سيما أن اللاعبين الآخرين بطيئون وغير فعالين في سياستهم الخارجية، لكن هذا لا يعني نجاحها على المدى البعيد.
فالقوة العسكرية الإيرانية لم تُختبر منذ الحرب العراقية الإيرانية في حرب حقيقية، ومعظم ما يسمى إنجازات في السياسة الخارجية وارتباط ذلك بالحرس الثوري، إنما كان من خلال لاعبين موجودين في الفضاءات السياسية لتلك البلدان لكن أهدافهم انسجمت مع التفسير الإيراني للأحداث، من حيث الاستهداف من القوى الكبرى واليقين بأنهم وإيران ضحايا لسياسات تلك القوى والمتحالفين معها.
وفي هذا السياق، يمكن فهم ما يقوم به “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري والذي يحاول أن يمنع ما يراه أخطارا خارجية من الوصول إلى جغرافية إيران، وذلك من خلال عقد تحالفات إقليمية مع لاعبين من غير الحكومات.
وبالطبع فإن مثل هذه التحالفات كانت -حتى أوائل عام 2011- عابرة للمذاهب والأيدولوجيات، ولذلك رأى كل متابع للمشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط تطور العلاقة بين إيران وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي.
لكن تطور العلاقة بين إيران وحلفائها أخذ منحى مذهبيا بعد عام 2012، لا سيما في العلاقة مع سوريا والعراق، وشهد التفسير المذهبي وضوحا أكثر بحضور إيران في الحرب القائمة على ما يُعرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام.
تأثير المناورات العسكرية على الدور الإيراني المتزايد في المنطقة يساهم في إيجاد حالة نفسية إيجابية لكل حلفاء إيران في المنطقة بشأن مدى قدرة النظام الذي يتحالفون معه والمقصود هنا الجمهورية الإسلامية، وهذا بالضرورة يمكن أن يوثر على صورة تلك القوى في محيطها السياسي وإظهارها في صورة المتفوق. وهذا الأمر ينطبق على حزب الله في لبنان، والحوثي في اليمن، وكذلك على الحكومتين العراقية والسورية.
لقد أثبت التاريخ المعاصر أن إيران استطاعت أن تحصد بعض النقاط متفوقة على لاعبين آخرين من خلال أدوات السياسة الناعمة قبل عام 2011، لكن موقفها من موجة المطالبة بالتغيير في العالم العربي -لا سيما الموقف في سوريا واليمن والبحرين- ساهم بشكل سريع في تغيير الصورة الإيجابية التي كانت لها بين قطاعات واسعة من الرأي العام العربي وليس الحكومات، بحيث إن خسارة الرأي العام العربي أُضيفت إلى خسارة كثير من الأنظمة العربية التي كانت تنظر إلى إيران بريبة وشك مستمريْن.
وكل هذا جعل إيران تتغير أيضا وتستبدل أدوات القوة الناعمة بأدوات القوة الخشنة، والمتمثلة في إرسال قوات وأسلحة وجمع متطوعين للقتال في كل من سوريا والعراق، وتسليح الحوثي في اليمن، لمواجهة ما يواجهه حلفاؤها في تلك البقاع الساخنة. كل هذا يؤكد أن أثر هذه المناورات أقرب إلى أن يكون سلبياً على إيران لا سيما في محيطها العربي، رغم كل رسائل الطمأنة التي تحاول إرسالها مع كل مناورة تجريها.
محجوب الزويري
الجزيرة نت