في خطوة لافتة على مدى تصعيد التوتر بين الجبهة الأميركية الأطلسية وروسيا، أعلنت الأخيرة تعليقها التام للعمل بمعاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا اعتباراً من الحادي عشر من شهر آذار الجاري. وعلل أنطون مازور، رئيس الوفد الروسي إلى مفاوضات فيينا حول مسائل الأمن العسكري والرقابة على الأسلحة هذا التعليق التام، بأن «بلاده حاولت خلال سنوات طويلة الحفاظ على نظام الرقابة على الأسلحة التقليدية وبادرت إلى إجراء مفاوضات بشأن تكييف هذه المعاهدة، إلا أن دول «الناتو» فضلت عدم الالتزام بقواعدها عبر توسيع الحلف». لكن المسؤول الروسي أكد أن «خطوة موسكو هذه لا تعني رفضها للحوار بشأن إقامة نظام جديد للرقابة على القوات التقليدية في أوروبا، يخدم مصالح بلاده وغيرها من الدول الأوروبية في حال تهيئة الظروف لذلك». ونعتقد أن حواراً من هذا النوع، كما ترغب موسكو، لن يحدث في المستقبل المنظور في ظل الصراع على أوكرانيا ودعوات بعض الأوروبيين إلى تشكيل جيش أوروبي لمواجهة السلوك الروسي في القارة الأوروبية.
وتبدو موسكو مُصرّة على إقامة نظام جديد للرقابة على القوات والأسلحة التقليدية في أوروبا. ويتضح ذلك من تأكيد ميخائيل أوليانوف، مدير دائرة منع انتشار الأسلحة ومراقبة التسلح بوزارة الخارجية الروسية على أن روسيا «لن تعود إلى معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا»، موضحاً أن المعاهدة المذكورة لا تتناسب مع الواقع الحالي لأنها ظهرت أثناء وجود حلف وارسو». وكانت هذه المعاهدة قد وُقّعت في العام 1990 من قبل ممثلي الدول الأعضاء في حلف «الناتو» وحلف «وارسو»، وباتت سارية المفعول في 1992. وجرى تعديل المعاهدة في 1991 وفي 1999 على خلفية تغيّر الوضع السياسي والعسكري في أوروبا بسبب زوال حلف «وارسو» وتفكيك الاتحاد السوفياتي وتوسع «حلف شمال الأطلسي». وكان الهدف الرئيس من هذه المعاهدة هو الحد من القوات التقليدية لدول الحلفين العسكريين، وكذلك الحد من نشر القوات على خط التماس بينهما لمنع وقوع حرب في القارة الأوروبية.
واللافت أن فلاديمير بوتين، بعد نقده اللاذع للهيمنة الأميركية أمام مؤتمر الأمن في ميونخ في العام 2007، أعلن عن تعليق روسيا العمل بمعاهدة الحد من القوات والأسلحة التقليدية في أوروبا للعام 1990 والنسخة المعدلة منها للعام 1999، حتى تصادق عليها دول «الناتو» وتطبق وتلتزم ببنودها، كما تفعل موسكو.
واعتبر الكثير من العسكريين والسياسيين الروس آنذاك، كما اليوم، أن هذه المعاهدة لم تعد تستجيب للتغيرات التي تجري في أوروبا، وأن تعليق بوتين لمشاركة روسيا فيها يُعدّ دليلاً على ممارسة موسكو لسياسة خارجية حازمة ومستقلة في ظل توسّع «حلف شمال الأطلسي» تجاه الحدود الروسية. ويرى بعض المراقبين الروس أن اتهام بوتين للغرب، مراراً وتكراراً، بالتدخل في شؤون روسيا والتعليق التام للعمل بمعاهدة القوات التقليدية في أوروبا، يمثل مواصلة لرد الفعل الروسي على الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى حصار روسيا عبر توسيع «حلف الأطلسي» ومشروع نشر الدرع الصاروخية في القارة الأوروبية، خصوصاً في ظل الصراع الواضح على أوكرانيا. وقد تكون موسكو قد راهنت في خطوتها هذه من المعاهدة المذكورة على الانقسامات داخل أوروبا نفسها، وتملمُل بعض الدول الأوروبية من المواجهة الحالية بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية. ويبدو هنا أن واشنطن لم تستوعب بعد أن روسيا جادة في دعوتها إلى بناء نظام عالمي جديد، يعتمد التعددية القطبية بدلاً من الأحادية القطبية.
إن القرار الروسي بالتعليق التام للعمل بالمعاهدة يهدف في ما يهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى الجبهة الأميركية ـ الأطلسية، بأن موسكو يمكن لها الردّ على تعزيز «الناتو» لجناحه الشرقي من بحر البلطيق وحتى البحر الأسود في مواجهة روسيا.
علماً بأن الحلف أعلن مؤخراً أن الولايات المتحدة تعتزم إرسال ثلاثة آلاف عسكري ومعدات عسكرية الى منطقة البلطيق للمشاركة في مناورات وشيكة هناك. كما أن الحلف يُخطط في الخريف المقبل لإجراء أكبر مناورات خلال السنوات الأخيرة في المنطقة الجنوبية. وفي إطار التصعيد بين روسيا والجبهة الأميركية ـ الأطلسية، تعهّد فيليب هاموند، وزير الخارجية البريطاني في الثامن من الشهر الجاري بأن «بلاده وغيرها من أعضاء حلف شمال الأطلسي ستدافع عن جمهوريات البلطيق، استونيا ولاتفيا وليتوانيا، في حال غزتها روسيا أو هدّدتها». وفي السياق نفسه، أبلغ نائب الرئيس الأميركي، جون بايدن، الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو، في اتصال هاتفي بينهما مؤخراً، بأن الولايات المتحدة تعتزم إرسال مساعدات إضافية إلى أوكرانيا، بما في ذلك طائرات من دون طيار وعربات مدرعة. وعملياً، لا يفوت يوم من دون سماع أن طائرات «حلف شمال الأطلسي» تتعقب طائرات روسية حربية، وأن طائرات روسية تتبع التحركات العسكرية للحلف فوق بحر البلطيق وفي البحر الأسود.
ولم يتوقف تصعيد التوتر بين روسيا والجبهة الأميركية ـ الأطلسية عند هذا الحدّ، ففي الحادي عشر من آذار الجاري، أعلن ميخائيل أوليانوف، مدير دائرة منع انتشار الأسلحة ومراقبة التسلح بوزارة الخارجية الروسية، أن «بلاده لديها الحق في نشر السلاح النووي في أي منطقة من أراضيها عند الضرورة، غير مستبعِد القيام بذلك في شبه جزيرة القرم».
وأخيراً، يمكن القول أيضاً إن قرار روسيا بالتوقف التام عن الالتزام بمعاهدة تحديد حجم القوات والأسلحة التقليدية الممكن نشرها في أوروبا، حتى يتم التفاوض على إقامة نظام جديد للرقابة على هذه القوات وتلك الأسلحة يستجيب لمصالحها، قد يعني عملياً أنها ستمضي قدماً في توسيع نشر وحداتها العسكرية وزيادة تسليحها في الأراضي الروسية، وربما في غيرها من الأراضي القريبة منها. وهذا سيعني كذلك أن الجبهة الأميركية ـ الأطلسية باتت في حلّ من المعاهدة المذكورة، ويمكن لها نشر مزيد من القوات والأسلحة في أوروبا. وهذه المعادلة التي تشبه المعادلات «الصفرية»، ستؤدي في غالب الظن خلال الفترة المقبلة إلى تصعيد التوتر بدرجة أكبر بين الطرفين المتصارعين.
هاني شادي
السفير