ما كان يجرؤ مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة على تمزيق ميثاقها أمام ممثلى 193 دولة عضو فى الأمم المتحدة ويقوم بإهانتهم وتوجيه التهم الباطلة إليهم إلا برعاية ومساندة وتأييد الولايات المتحدة وأوروبا. نفس هذا الميثاق هو الذى اعترف بإسرائيل عام 1948 وصارت عضوًا فى المنظمة الدولية.
لم تكن هذه هى الواقعة الوحيدة التى تحدث فيها إسرائيل العالم أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، ففى اجتماعها السنوى عام 2022 لوح نتنياهو أمام الجميع بخريطة إسرائيل الكبرى، من النهر إلى البحر، أى تضم الضفة الغربية المحتلة وغزة، وهى طبقا لقرارات الأمم المتحدة أراضٍ فلسطينية محتلة، وإسرائيل هى سلطة الاحتلال العسكرى، وفى الحالتين ساد صمت مطبق على أعضاء الأمم المتحدة ومسئوليها.
وحينما تنظر محكمة العدل الدولية فى حرب الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير القسرى الذى تمارسه إسرائيل ضد سكان غزة برعاية أمريكية أوروبية، تعلن الولايات المتحدة ودول أوروبية بأنه ليس للمحكمة ولاية على إسرائيل، وحينما اشتمت الولايات المتحدة اقتراب إصدار المحكمة قرارات بتوقيف نتنياهو وقيادات عسكرية إسرائيلية، والأمر بإلقاء القبض عليهم فى ضوء حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطينى بغزة، هددت المدعى العام للمحكمة بتوقيع أقصى العقوبات عليه وعلى أسرته، وأمرته فى خطاب رسمى صادر عن أعضاء الكونجرس بعدم إصدار أية أوامر تخص الإسرائيليين على الرغم من أن الولايات المتحدة ذاتها قد شجعت محكمة العدل الدولية ذاتها بإصدار أمر بتوقيف الرئيس الروسى بوتين بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وفى الوقت الذى تعتبر الولايات المتحدة وأوروبا كوريا الشمالية دولة مارقة لتعاونها العسكرى مع روسيا، ولامتلاكها أسلحة نووية، فإنها تمد إسرائيل بأحدث الأسلحة والذخائر التى تستخدم فى حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين العزل المدنيين من رجال وأطفال ونساء وذوى الاحتياجات الخاصة، بل إن بعض أعضاء الكونجرس يحثون إسرائيل على استخدام الأسلحة النووية ضد الفلسطينيين فى غزة، وفى الوقت التى تدور فيه الحروب بين الدول، فإن حرب إسرائيل وكما تدعى – هى ضد حماس، قد أعلنت أن عدد أعضائها لا يتجاوز 30 ألفًا، بيد أنه تم قتل ما يناهز 35 ألفا، وجرح ما يزيد على 100 ألف من السكان المدنيين، وهدم منازلهم وأملاكهم والبنية التحتية والمدارس والجامعات ودور العبادة دون رادع، فهل هذه حرب ضد حماس أم ضد الشعب الفلسطينى؟ ونظرا لهذه الإبادة الجماعية، قرر الرئيس بايدن وقف شحنات بعض الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل ثم ما لبث، تحت ضغط بعض أعضاء الكونجرس خصوصًا من أعضاء الحزب الجمهورى، بإرسال أسلحة وذخائر بأكثر من مليار دولار لمساعدة إسرائيل فى عملياتها العسكرية الوحشية فى رفح الفلسطينية، ويبدو أنه، وهو الصهيونى العتيد، كما أعلن بنفسه، مقتنع بما يقال إنه ورد فى سفر التكوين بأن من يسىء لإسرائيل سيغضب منه الرب!
• • •
لقد نشطت الصهيونية المسيحية فى تعانق حار مع الصهيونية اليهودية فى حماية ما تقوم به إسرائيل من دمار وخراب فى غزة تحت ادعاء محاربة حماس، فانقلبوا على كل من ينتقد إسرائيل، وتم توسيع نطاق ومدلول معاداة السامية لتكميم أفواه كل من يعارض إسرائيل سواء من الشباب والطلاب أو حتى من اليهود الليبراليين من أساتذة وخبراء وسياسيين، وبات واضحًا أن حقوق الإنسان والحريات الأساسية لا تنطبق على من ينتقد إسرائيل أو يعارض مشروعها التوسعى فى فلسطين والجوار العربى، وفى ضوء ذلك، تحول العالم كله إلى رهينة فى يد الصهيونية العالمية، يرضخ لابتزازها، ويخشى من انتقامها، وهى التى تعطى إسرائيل الدعم غير المشروط والمساندة الشاملة، ويضمن ولاء الولايات المتحدة وأوروبا بل حدود.
ويبدو أن إسرائيل تقوم بشكل مخطط وحثيث بتدمير غزة تمامًا توطئة للتهجير القسرى وتفريغها من الفلسطينيين والفلسطينيات واحتلالها أرضًا بلا سكان أو عدد محدود يمكن وضعه فى مناطق معزولة ثم إعادة استعمارها وبناء مستعمرات بها، وإن تم ذلك أمام العالم ورعاية الولايات المتحدة وأوروبا، تنتقل إسرائيل إلى الضفة الغربية، وهى الجائزة الكبرى والوليمة الدسمة التى ينتظرها الإسرائيليون عن بكرة أبيهم ومعهم المسيحيون الصهاينة، ألا يعد ذلك مخالفًا للقانون الدولى؟ نعم، لكن أين القوى التى تطبق وتحمى القانون الدولى فى حالة إسرائيل؟ ويطرح ما سبق سؤالين؛ الأول ألا توجد حدود للقوة الإسرائيلية تقيد من استراتيجية التوسع التى ستطال، دون شك، دولا عربية أخرى؟ والثانى: أليس هناك رادع فى النظام الدولى يحد من رعاية الولايات المتحدة وأوروبا للمشروع الإسرائيلى الصهيونى التوسعى؟
لن ترتدع إسرائيل وتعود عن مشروعها التوسعى الاستيطانى إلا إذا اتخذ العرب موقفًا مختلفًا من الصراع العربى الإسرائيلى، إن اتفاق الدول العربية على تشكيل حلف عسكرى عربى دفاعى يردع إسرائيل، ويدفعها إلى احتمالات للتعايش السلمى مع العرب، كما أن احتمالات تحول الدول العربية الرئيسية إلى كتلة سياسية اندماجية يعلوها تنسيق استراتيجى عملى تردع إسرائيل، هل هذا ممكن؟ نعم وضرورى بل حتمى.
• • •
فى ضوء الرعاية الأمريكية الأوروبية للمشروع الإسرائيلى الصهيونى التوسعى على حساب العرب، والذى يعد آخر مرحلة للمشروع الاستعماري/ الإمبريالى الغربى (الأمريكى الأوروبى) فى العالم، والذى يكرس النفود الغربى فى المنطقة ويدفعها إلى مزيد من التبعية، فإنه لا بديل عن تغيير هيكل وبنيان النظام الدولى، ولعل بروز الصين، وانتهاء الحرب الروسية الأوكرانية بانتصار روسيا يمكن أن يفتح الباب إلى عالم مختلف يحد من الظلم الذى يمارسه الغرب على العرب وغيرهم من دول الجنوب، ولعل ذلك، إن حدث، سيقود إلى تغيير أو تطوير أو إلغاء الأمم المتحدة الذى أثبتت حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية فى قطاع غزة أنها عاجزة عن تنفيذ ما ورد فى ميثاقها، من ثم لا مبرر لوجودها، إنها تبيد نفسها Self-defeat.
هكذا تتحدى إسرائيل العالم فى وضح النهار، وتسعى إلى هدم النظام الدولى الذى ساهم فى إقامتها ومنحها الشرعية، لكنها ترى أن قواعده وأسسه لا تستقيم مع مشروعها التوسعى العنصرى الاستيطانى الإقصائى، وهى تهدم كل ذلك استنادًا على رعاية ودعم ومساندة الولايات المتحدة وأوروبا، لقد كانت حرب غزة كاشفة لهذا التحالف الاستعمارى، والذى أغضب غالبية دول العالم التى تصبو إلى عالم جديد مختلف لديه الجرأة على تصنيف إسرائيل كدولة مارقة ينبغى تقييد أطماعها واحتواء عدوانها.