والحال أن الهاجس الكردي لدى تركيا، والذي يرتفع إلى مرتبة هاجس أمن قومي، هو الورقة التي لوحت بها كل من طهران وموسكو لضم تركيا إلى مباحثات أستانة، وموسكو راعية هذه المباحثات، وليست مجرد أحد أطراف الثلاثي. وبالتلويح بهذه الورقة، أمكن دفع أنقرة نحو التراجع في مواقفها حيال الأزمة السورية. وإلى التسليم بالوجود الإيراني، وهو وجود عسكري ومليشاوي في سورية، علاوة على الوجود الروسي.
في 22 أغسطس/ آب الماضي، كانت أنقرة تستقبل رئيس الأركان الإيراني، محمد باقري، وقد نسب لمسؤولين أتراك قولهم إنهم “فوجئوا” بطرحٍ إيراني يدعو إلى عملياتٍ مشتركة على
الحدود التركية الإيرانية ضد قوات حزب العمال. ولم تملك أنقرة سوى الموافقة على الاقتراح الذي يستجيب لمصالحها في منح الأولوية لمحاربة المكون الكردي المسلح. بالنسبة لطهران، وخلافا لأسلوب أنقرة في التعامل مع الوجود، فهي تقوم باستئصال سياسي للأكراد على أراضيها، وتمنع عنهم أي تعبير عن وجودهم وكيانيتهم، ولا تعترف بوجود مشكلة أو مسألة كردية، كما هو الحال مع سائر المكونات التي تشكل أقليات في بلاد فارس غير المصرح لهم بالتعبير عن هويتهم الثقافية أو ممارسة عباداتهم (تعداد الأكراد في إيران نحو أربعة ملايين ونصف مليون كردي). وعليه، فإن خوض حرب استئصالية ضد حزب العمال، ونظيره في إيران، وهو حزب “الحياة الحرة”، هو من مألوف الأمور في الجمهورية الإسلامية، ولا يمثل جديدا. خلافا لتركيا التي تعترف بالمكوّن الكردي (نحو 15 مليون كردي)، لكنها تناهض حزب العمال المسلح، وهو أمر مفهوم، وكل من يبدي تأييدا له أو تعاطفا معه. وبعد وقوع محاولة الانقلاب في صيف 2016، جرى اعتقال 11 نائبا كرديا ينتمون لحزب الشعوب الديمقراطي، بينهم رئيس الحزب صلاح الدين دميرطاش. وتتهم السلطات الحزب الذي يمثله 78 نائبا في البرلمان بإقامة صلاتٍ مع حزب العمال، وهو ما ينفيه مسؤولو الحزب بشدة. والغاية من الإشارة إلى هذه الوقائع أن الكتلة الكردية في تركيا ما زالت تحظى باعتراف رسمي وواقعي بها، وأن المشكلة أساساً في اعتماد حزب العمال العمل المسلح، وبعدئذ في مطلب الإدارة الذاتية الذي ترفعه شرائح كردية، خلافاً لإيران التي لا ترى وجوداً للأكراد بصفتهم القومية والعرقية والدينية على أراضيها.. هم وغيرهم من المكونات غير المرئية في أعين السلطات، وكما هو ديدن هذا النظام الشمولي المغلق في التعامل مع كل آخر ومختلف.
في السياق نفسه، من حق تركيا منع نمو الظاهرة الكردية المسلحة قريبا من حدودها،
وخصوصا مع سورية، حيث الروابط غير خافيةٍ بين المكون الكردي المسلح في سورية وحزب العمال. علما أن نشأة هذه القوة الكردية المسلحة ارتبطت بمجريات الصراع بين أنقرة والنظام في دمشق، ولطالما سعت هذه القوة الكردية إلى التمركز على الحدود مع تركيا، ما حفز على التدخل التركي وعملية درع الفرات. وبينما تعمل واشنطن على دعم حرب قوات سورية الديمقراطية على “داعش”، فإن أطرافاً أخرى تمنح لهذه القوات دورا في استفزاز تركيا. والتحدي أمام أنقرة هو في وجوب الفصل بين موقفها من حزب العمال وذراعه السوري، وموقفها من الكتلة الكردية الكبيرة على أراضيها التي تستحق أن تتمتع بحقوقها الثقافية واللغوية والمدنية، في إطار الدولة التركية وقوانينها وضمن مؤسساتها، ثم من عموم الأكراد المنتشرين في الدول الأربع، وفي عشرات البلدان، وتعدادهم، حسب مصادر تركية، نحو 55 مليون نسمة، فيما تُجمل مصادر أخرى العدد الكلي بأقل من 30 مليونا. وأيّا كان العدد الصحيح، فإن من المأمول أن تشجّع أنقرة جارتها طهران، وفي ضوء تحسّن العلاقات بينهما، على اعتماد الموقف التركي من الأكراد القائم على التعايش واحترام التعدّدية العرقية، لا أن يحدث العكس، بحيث تنساق أنقرة، لا سمح الله، نحو الموقف الإيراني من الكتلة الكردية، وتُشيطن كل ما هو كردي. وعلى سبيل المثال، ليس إقليم كردستان في العراق خاصا بحزب العمال. وقد نسجت أنقرة على الدوام علاقات طيبة مع قيادة الإقليم التي غضّت النظر عن مطاراداتٍ تركية لتموضعات حزب العمال في مناطق من هذا الإقليم (مناطق جبلية ووعرة بعيداً عن المدن). وعليه، فإن اتخاذ موقف مناوئ أو عدائي من استفتاء سبتمبر، يبدو متسرعاً. ومن الحكمة رؤية جوانب إيجابية في هذا التطور على علاقات تركيا بالأكراد على أراضيها، مع حق أنقرة، كما بغداد، في الحصول على ضماناتٍ من قيادة إقليم كردستان بألا يشكل الكيان الناشئ فرصةً لزعزعة الأوضاع في العراق وتركيا وبقية البلدان المجاورة. ومن الواجب تقديم ضمانات ملموسة.
من حق الأكراد، وهم أحد أقدم شعوب المنطقة، أسوةً بغيرهم، أن يتمتعوا بالحرية والكرامة الوطنية. أما إنكار وجود هذا الشعب على طريقة إنكار وجود شعب فلسطين، ووجود شعب سورية، فلن يؤدي سوى إلى مزيدٍ من الكوارث في منطقتنا.