نشرت وسائل الإعلام العالمية خلال الأسبوعين الماضيين أخباراً وتحليلات تشير إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب «يسعى إلى حشد دعم عالمي لإصلاح الأمم المتحدة،» وأنه قام بالفعل بتوجيه دعوة لعدد من رؤساء الدول لحضور اجتماع لمناقشة هذا الأمر سوف يعقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك يوم 18 أيلول (سبتمبر) الجاري، أي قبل يوم واحد من الموعد المحدد لإلقاء خطابه الأول أمام الجمعية العامة. اللافت للنظر أن عدداً من هذه التحليلات أكد أهمية الخطاب الذي سيلقيه ترامب أمام الجمعية العامة ولم تستبعد أن يتضمن «مفاجآت» عديدة. وأعترف أن هذه الأخبار والتحليلات أدهشتني وأقلقتني في الوقت ذاته.
أدهشتني، لأن موضوع «إصلاح الأمم المتحدة»، على رغم أهميته القصوى، لم يكن مطروحاً في أي وقت من الأوقات على أجندة ترامب الذي سبق له وصف «الأمم المتحدة» بأنها مجرد «مكان للتسلية». لذا، فحين يأتي اليوم ليقرر فجأة أنه مهتم بإصلاح المنظمة العتيدة، ويبدأ في التحرك بالفعل لحشد دعم عالمي حول رؤيته لهذا الإصلاح، فمن الطبيعي أن يولد ذلك شعوراً بالدهشة وشكوكاً بأن وراء الأكمة ما وراءها!
وأقلقتني أيضاً لأن دونالد ترامب يمثل، بالنسبة لي على الأقل، النقيض التام لكل ما تمثله «الأمم المتحدة» من قيم، وذلك على الصعيدين الإنساني والسياسي معاً. فعلى الصعيد الإنساني، يعد ترامب رجلاً عنصرياً شديد التعصب، بدليل حرصه الشديد على بناء جدار عازل على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمسكيك، وإصراره العنيد على حرمان مواطني دول إسلامية بعينها من دخول الولايات المتحدة الأميركية، تحت ذريعة الوقاية من الإرهاب. أما على الصعيد السياسي، فمن الواضح أن شعار «أميركا أولاً» هو المحرك الرئيس لمجمل سياسات ترامب الداخلية والخارجية، فضلاً عن أن أميركا التي يعشقها هي أميركا البيضاء البروتستانتية والغنية. فكيف لعقلية كهذه، تحتقر في قرارة نفسها كل ما هو أممي، أن تحظى بأي قدر من الصدقية حين تتحدث عن إصلاح الأمم المتحدة.
لا يستطيع أحد أن يجادل في حاجة الأمم المتحدة الماسة إلى إصلاح جذري، وربما إلى إعادة هيكلة كاملة. فهذه المنظمة، والتي صممت بنيتها التنظيمية في الأصل على مقاس الدول الكبرى المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لم تكن مهيأة للتأقلم مع الطفرات العديدة والمفاجئة التي شهدها النظام الدولي والتي دفعته للتحول إلى نظام ثنائي القطبية، ثم إلى نظام أحادي القطبية، وها هو الآن يمر بحالة سيولة خطرة تجعل الأمم المتحدة تبدو كورقة خريف تتقاذفها أمواج عاتية في بحر هائج. صحيح أن الأمم المتحدة لم تنهار كسابقتها عصبة الأمم، وصمدت في وجه كل الأعاصير التي هبت عليها على مدى ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، لكن ذلك كان بسبب ما أسفر عنه تطور السلاح النووي من ردع متبادل، وليس بسبب قابلية آلياتها للتأقلم الكفء مع الواقع المتغير. لذا، تبدو اليوم كعجوز شمطاء مترهلة تستدر العطف وربما السخرية بأكثر مما تستدر الإعجاب.
لقد كشفت الممارسة عن أوجه خلل وقصور كثيرة تتطلب ضرورة:
1- إعادة النظر في بعض المبادئ والقواعد الحاكمة في الميثاق، كمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ومبدأ إباحة استخدام القوة في حالة الدفاع عن النفس، لوضع حد فاصل، من ناحية، بين الشأن الداخلي المتروك لسيادة الدول والشأن الخارجي المتروك لاختصاص المجتمع الدولي، وبين الاستخدام المشروع للقوة دفاعاً عن النفس واستخدامها غير المشروع في العدوان على الآخرين، من ناحية أخرى.
2- توسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن، ووضع معايير عادلة لاختيار الدول التي يحق لها الاحتفاظ بمقاعد دائمة فيه، ليصبح المجلس أصدق تمثيلاً وتعبيراً عن الموازين الحقيقية للقوة في العالم المعاصر، مع تغيير الأغلبية المطلوبة لاتخاذ القرار في مجلس الأمن بما يحول دون تمكين أي دولة بمفردها من شل قدرة المجلس على الحركة.
3- إعادة إحياء نظام الأمن الجماعي، بتفعيل المواد التي تمكن للجنة أركان الحرب وبتشكيل قوات دولية سابقة التجهيز توضع تحت تصرف مجلس الأمن.
4- إعادة توزيع السلطات والصلاحيات الممنوحة للأجهزة الرئيسة بما يضمن تحول الجمعية العامة إلى سلطة تشريعية، ومجلس الأمن إلى سلطة تنفيذية في كل ما يتعلق بالسلم والأمن الدوليين، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي إلى سلطة تنفيذية في كل ما يتعلق بالتنمية وحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية إلى سلطة قضائية تتمتع بولاية إلزامية، إلغاء كل الأجهزة والفروع التي تتسبب في إهدار الموارد.
5- إعادة صياغة علاقة الأمم المتحدة بالمنظمات الإقليمية، وبالوكالات المختصة، وبالمنظمات الدولية غير الحكومية التي تشكل قلب المجتمع المدني العالمي، إذ تتحول الأمم المتحدة إلى نواة حقيقية للتنظيم العالمي الشامل وتتأقلم مع ما تفرضه العولمة من تحديات وما تتيحه من فرص يتعين أن يستفيد منها الإنسان في كل مكان، خصوصاً في المناطق الأقل حظاً في فرص التنمية.
6- تمويل نفقات الأمم المتحدة ذاتياً، من خلال ضرائب مباشرة تفرض على تجارة الأسلحة أو على أنشطة دولية أخرى، لتصبح الأمم المتحدة بمنأى عن ضغوط الدول الأعضاء.
غير أن هذه الإجراءات التي يحتاج إليها أي إصلاح حقيقي للأمم المتحدة، والتي تمكنت على رغم كل شيء من أن تصبح أول منظمة كونية في تاريخ البشرية، تبدو بعيدة تماماً من طريقة تفكير ترامب الذي يبدو مهموماً بقضايا من نوع: كتقليص وترشيد نفقات الأمم المتحدة في شكل عام، خصوصاً نفقات عمليات حفظ السلم ونفقات الجهاز الإداري، وكذلك تخفيض نسبة مساهمة الولايات المتحدة في الميزانيات المختلفة للأمم المتحدة، وغير ذلك من القضايا التي تتسق مع شعار «أميركا أولاً». ومن المعروف أن الولايات المتحدة هي أكبر دولة ممولة للأمم المتحدة، إذ تساهم بنحو 22 في المئة من الموازنة العادية التي تبلغ سنوياً نحو 2,7 بليون دولار، كما تساهم بحوالي 28.5 في المئة من موازنة حفظ السلام، التي تبلغ سنوياً نحو 3,7 بليون دولار.
يتردد في كواليس الأمم المتحدة حالياً أن إدارة ترامب أعدت إعلاناً سياسياً من عشر نقاط يلخص رؤيتها لإصلاح الأمم المتحدة، لكن ما رشح من هذه النقاط العشر حتى الآن لا يشير إلى أنها تحمل جديداً يذكر، أو أن من شأنها، في حال تبنيها من جانب الدول المشاركة في اجتماع نيويورك، إحداث نقلة نوعية في طريقة عمل الأمم المتحدة. كما يتردد أيضاً أن إثيوبيا التي ترأس مجلس الأمن خلال الشهر الحالي الذي يشهد انطلاق أعمال الجمعية العامة، عقد اجتماع لهذا المجلس على مستوى القمة ستطرح فيه أفكار جديدة حول كيفية تطوير دور وعمليات الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الدوليين.
غير أن أي أفكار تطرح في ظل النص الحالي للميثاق لن تؤدي إلى أي نقلة نوعية، خصوصاً وأن دخول أي تعديلات مقترحة على الميثاق حيز التنفيذ يحتاج إلى إجماع الدول الخمس دائمة العضوية حالياً في مجلس الأمن، وهو أمر غير وارد في الأوضاع الدولية الحالية، ومن ثم يرجح أن يبقي الوضع على ما هو عليه لفترة طويلة قادمة، لأن تلك هي الصخرة التي لاتزال تتحطم عليها كل المحاولات الرامية لأي إصلاح حقيقي للأمم المتحدة. لذا أتوقع أن يثير ترامب ضجيجاً صاخباً في أروقة الأمم المتحدة خلال يومي 18 و19 أيلول (سبتمبر) المقبلين، سواء أثناء ترؤسه للاجتماع الذي دعا إليه أو أثناء إلقائه لكلمته أمام الجمعية العامة، لكنه سيظل في النهاية ضجيجاً بلا طحن. أقصى ما أتمناه ألا يرتكب ترامب حماقة كبرى تصدم مشاعر العالم خلال هذين اليومين اللذين سيترقبهما العالم بقلق.
د.حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية