أوهام ترامب في المسألة الكورية الشمالية

أوهام ترامب في المسألة الكورية الشمالية

يعمل خليط من الغطرسة والتهور على جعل الرئيس دونالد ترامب زعيماً خطيراً بشكل خاص بينما يمضي قدماً نحو شن حرب استباقية ضد كوريا الشمالية.
* * *
يقال إن الرئيس ترامب يطلق في اليوم خمس أكاذيب في المعدل. كما أنه معروف بما يصفه المفكر الجمهوري مايكل غيرسون بـ”الجهل شبه المطبق بالسياسة والتاريخ”.
ولذلك، سيكون من المغري –وإنما الخاطئ- أن يحاول المرء استبعاد ادعاء آخر غريب الأطوار طرحه ترامب على شبكة “فوكس نيوز” قبل أيام. خاطئ لأنه إذا كان ترامب يؤمن حقاً بما قاله، فإنه ربما يؤشر على رغبته الجادة في بدء حمام دم مع كوريا الشمالية، والذي قد يزهق ملايين الأرواح. وهو ما يعطي مصداقية جديدة للتحذير الأخير الذي أطلقه السيناتور بوب كوركر من أن ترامب يمكن أن يضع الولايات المتحدة على “الطريق نحو حرب عالمية ثالثة”.
في مقابلة مع شين هانيتي يوم 11 تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، تفاخر ترامب بأن الأنظمة الأميركية لاعتراض الصواريخ البالستية توفر –في الوقت الحالي على الأقل- دفاعاً موثوقاً ضد إطلاق صاروخي صغير النطاق تنفذه كوريا الشمالية.
وشدد ترامب على القول: “لدينا صواريخ تستطيع أن تسقط صاروخاً في الجو بنسبة 97 في المائة من الوقت. وإذا أرسلتَ اثنين من الصواريخ، فسيتم إسقاطهما”.
وفي منح ادعاء ترامب الحد الأدنى من توصيف الزيف، “أربع نجوم” وصف فاحص الحقائق في صحيفة الواشنطن بوست، غلين كيسلر، الرئيس بأنه ” خارج القاعدة تماما وكلية”. لكنه اعترف بأن ترامب لم يخترع هذا الادعاء من تلقاء نفسه.
قبل بضعة أعوام، أكد للكونغرس مدير برنامج وزارة الدفاع للنظام الدفاعي عديم النفع الذي كلف 40 مليار دولار، والمعروف باسم “نظام دفاع منتصف الطريق البري”، أن “الاحتمال سوف يكون اليوم بنفس ارتفاعه في التسعينيات، لأن يكون النظام قادراً على اعتراض (صاروخ) اليوم”. وبنفس الروح، تفاخر رئيس وكالة الدفاع الصاروخي في البنتاغون في شهر أيار (مايو) الماضي بأن بإمكان صواريخه المضادة للصواريخ “هزيمة أي تهديد” ربما تعمد كوريا الشمالية إلى “إلقائه علينا.. حتى العام 2020”.
يتكون نظام الدفاع الصاروخي المذكور من 36 صاروخاً اعتراضياً تتخذ من فورت غريلي في ولاية ألاسكا ومن قاعدة فاندنبيرغ لسلاح الجو في ولاية كاليفورنيا قواعد لها. ومع وجود المزيد على لوحة الرسم، فإن هذه الصواريخ تشكل نشاطاً تجارياً ضخماً للمقاولين العسكريين، مثل شركات بوينغ ورايثيون، لكنه لم يتم الإثبات العملي على الإطلاق لفكرة أنها تعمل بشكل موثوق.
“ثقة مبالغ فيها”
في الفترة الأخيرة، اشتكى النائب السابق عن ولاية مساتشوستس، جون تيرني، الذي قاد لجنة فرعية أشرفت على البرنامج الصاروخي المذكور، من أنه “خلال جلسات الاستماع، بالغ مسؤولو وزارة الدفاع بشكل متكرر في الثقة بالبرنامج، وقللوا من ذكر المحدوديات الفنية، كما قللوا من شأن المخاوف التي أعرب عنها الفيزيائيون والخبراء الآخرون. وما يزال هذا الإحساس الزائف بالأمن سائداً اليوم”.
ووفق كينغستون ريف، الخبير في رابطة السيطرة على التسلح، فإن “سجل اختبار الطيران للنظام هو 10 في مقابل 18، وقد تمت هذه الاختبارات في ظل ظروف موصوفة ومسيطر عليها -مما يعني أن مدى واقعية الاختبارات محدودة”.
وأضاف ريف: “لقد تم اختبار النظام مرة واحدة فقط ضد هدف من فئة من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات”. وأضاف: “وثمة عشرون من الصواريخ الاعتراضية الـ32 التي نشرت في ألاسكا مسلحة بعربة قتل قديمة والتي لم تشهد اختباراً ناجحاً منذ العام 2008. ولم يتم اختبار النظام في وجه “إجراءات مضادة معقدة قد تستخدمها كوريا الشمالية لمحاولة استغفال الدفاعات الأميركية”.
كما سخر خبير أسلحة آخر، جوزيف سيرينسيون، بالقول: “لدينا من الفرصة لاعتراض صاروخ كوري شمالي بقدر فرصة الرئيس في تسجيل كامل نقاط الغولف بضربة كرة واحدة”.
وحذر كبير مقيِّمي الأسلحة في وزارة الدفاع الأميركية نفسها مؤخراً من أن برنامج الدفاع الصاروخي المذكور يتوافر في أفضل الحالات على “قدرة محدودة للدفاع عن الأرض الأميركية الرئيسية”، بينما ذكر مكتب المساءلة الحكومية في العام الماضي أن إدعاءات وكالة الدفاع الصاروخي عن الأداء المتفائل “لم يتم إظهارها في عرض”.
وفي تقرير متابعة صدر هذا العام، أعلن المكتب بوضوح أن نظام وزارة الدفاع “لن يوفر على الأرجح دفاعاً قوياً كما هو مخطط له”.
مخاطر المبالغة في الثقة
ما هي التداعيات التي قد تترتب على تصديق الرئيس ترامب ادعاءات البنتاغون التي لا تقوم على أسس موثوقة عن قدرات الدفاع الصاروخي الأميركي؟ يُحتمل كثيراً أن يغريه ذلك بشن هجوم استباقي على كوريا الشمالية -“الخيار العسكري” الذي تم بحثه كثيراً- وهو على ثقة بأن الأراضي الأميركية سوف تكون محمية من ضربة انتقامية.
كما أنه قد يجد إغواءً أيضاً إلى شن مثل هذا الهجوم عاجلاً وليس آجلاً، وقبل أن تستطيع كوريا الشمالية بناء أسطولها من الصواريخ النووية لتجتاح القدرات المزعومة لبرنامج الدفاع الصاروخي الأميركي.
كما ناقشتُ سابقاً، ثمة مستشارون نافذون عند ترامب، مثل السيناتور ليندسي غراهام، يحثون الرئيس منذ أشهر على شن هجوم شامل قبل أن تستطيع كوريا الشمالية تطوير قدرات صاروخية نووية.
وكما قال غراهام، فإن التداعيات “سوف تكون رهيبة، لكن الحرب يجب أن تكون هناك وليس هنا. وسوف تكون سيئة لشبه الجزيرة الكورية وستكون سيئة بالنسبة للصين. وستكون سيئة بالنسبة لليابان وسيئة بالنسبة لكوريا الجنوبية. وسوف تكون نهاية كوريا الشمالية. لكن ما لن تفعله هو ضرب أميركا، والطريقة الوحيدة التي يمكن أن تأتي بها أبداً لأميركا هو أن تأتي في صاروخ”.
ويبدو العديد من مستشاري ترامب الآخرين المقربين يوافقون على طرح غراهام بدلاً من الإقرار بأن ترسانة أميركا النووية الضخمة هي أكثر من كافية لردع أي هجوم نووي كوري شمالي.
وكان مستشار الأمن القومي الأميركي، أتش آر. مكماستر، قد أعلن هذا الصيف أننا “لم نعد نستطيع المزيد من المماطلة” بينما تطور كوريا الشمالية قواتها النووية، محاججاً بأن “نظرية الردع الكلاسيكي” لم تعد تجدي مع هذه الحكومة الوحشية.
وقال رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض، جون كيلي، مؤخراً: “أعتقد، وأنا أتحدث نيابة عن الإدارة، بأن (كوريا الشمالية) لا تتوافر ببساطة على القدرة للوصول إلى الأراضي الرئيسية (للولايات المتحدة).
وكان ترامب نفسه قد أعلن في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) الماضي أن “الوقت قد حان لكي تدرك كوريا الشمالية أن نزع سلاحها النووي هو مستقبلها الوحيد المقبول”. ثم غرد لاحقاً على “تويتر” بأن وزير الخارجية ريكس تيلرسون “يضيع وقته في محاولة التفاوض مع رجل الصاروخ الصغير”.
وكما أشار محلل السياسة الخارجية المحافظ دانيال لارسون، فإن “مكمن الخطر هنا هو أن ترامب عرّف كل شيء بأنه غير مقبول، ما عدا نزع سلاح كوريا الشمالية النووي. ويعني ذلك أن الولايات المتحدة سوف لن تستوعب امتلاك كوريا الشمالية أسلحة نووية. وهو يشي أيضاً بأن ترامب قد يكون بصدد دراسة شن حرب وقائية غير قانونية. ومن شأن نشوب مثل هذه الحرب أن يجعلها تتصاعد على الأرجح لتصل إلى حد تبادل إطلاق الأسلحة النووية التي ستفضي إلى إزهاق أرواح الملايين من البشر على الأقل. هذه هي المصيدة التي ينصبها خطاب ترامب غير المسؤول للولايات المتحدة”.
من شأن إيمان ترامب الذي في غير محله بنظام الدفاع الصاروخي لديه أن يزيد فقط من حجم هذه المخاطر. وكما لاحظ خبير الأسلحة توم كولينا في شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، فإنه “إذا كان الرئيس ترامب يعتقد بأنه يستطيع وقف هجوم صاروخي، فإنه يكون أكثر احتمالاً لتصعيد نزاع”.
هذه هي الكيفية التي تتعثر بها الأمم في الطريق إلى خوض حروب غير مقصودة. ويمكننا أن نتخيل فقط تلك المحادثة، حيث يحاول وزير الدفاع جيم ماتيس أن يشرح للرئيس ترامب لماذا لا يستطيع الاعتماد على نظامه المضاد للصواريخ الذي بلغت كلفته 40 مليار دولار: “إذا كان موجوداً لديّ، فلماذا لا أستعمله”؟
لدى ماتيس واجب أن يشرح للرئيس ترامب أن ادعاءات وزارة الدفاع الأميركية عن ذلك النظام مخادعة، وتهدف إلى كسب المزيد من التخصيصات، وليس الحقائق، من الكونغرس. كما أن عليه مسؤولية أخرى تكمن في تذكير الرئيس بأن تداعيات الحرب مع كوريا الشمالية سوف تكون، كما وصفها ذات مرة، “مأساوية على نطاق لا يصدق”.
فرصة الردع
كما يجب على ماتيس أن يشير إلى أن حرباً استباقية ستكون غير ضرورية بقدر ما ستكون مدمرة. وفي لقاءات مع القيادات الرفيعة، وصف الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون ترسانته النووية الصغيرة –وإنما المتنامية- بأنها ليست قوة هجومية وإنما “رادع قوي وحازم لضمان السلام والأمن في شبه الجزيرة الكورية وشمال شرق آسيا” ضد أي تهديدات نووية مطولة” من واشنطن.
وفي موضع آخر، أضاف كيم: “إن هدفنا النهائي هو تأسيس ما يعادل القوة الفعلية للولايات المتحدة وجعل حكام الولايات المتحدة لا يتجرأون على الحديث عن الخيار العسكري”.
ويعتقد خبراء الاستخبارات الأميركيون بأن كيم يعني ما يقول عن امتلاك أسلحة نووية للردع وليس لشن حرب. وقال محلل رفيع متخصص في الشأن الكوري الشمالي في وكالة الاستخبارات الأميركية (السي أي ايه): “أن يستيقظ صباح يوم ما وأن يقرر أنه يريد أن يضرب لوس أنجيلوس بسلاح نووي هو شيء لا يخطط له كيم جونغ أون. إنه يريد أن يحكم لوقت طويل وأن يموت بسلام في فراشه”.
وهكذا، وحتى لو اشترى ترامب ما تبيعه وزارة دفاعه عن القدرات الدفاعية الصاروخية، فإنه لا يمتلك أي سبب لشن حرب كارثية من أجل إيقاف البرنامج الصاروخي النووي الكوري الشمالي. ولكن، ومن أجلنا جميعاً، يجب أن يقوم أحد ما بشكل عاجل بجعل ترامب يدرك أنه لا يستطيع التعويل على بقاء الوطن الأميركي دون أن يُمس إذا اختار فعلاً بدء حرب مع عدو مسلح نووياً.

جوناثان مارشال

صحيفة الغد