ترسّخت لدى الكثير من الفلسطينيين، وغيرهم من العرب والمهتمين بملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قناعة مفادها أن الولايات المتحدة لن تستطيع التقدّم بأي مبادرة بإمكانها تحقيق تقدّم في هذا الملف، وأن إدارة الرئيس دونالد ترامب ستبقى أسيرة الموقف الذي اتخذ بالاعتراف في 6 ديسمبر الماضي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولا مجال للتقدم إلا بالبحث عن بدائل للوساطة الأميركية الحصرية، وليس هناك في ظل المعطيات الدولية الراهنة أفضل من روسيا لتتولى تلك المهمة.
وبدت الرسالة التي بعث بها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من موسكو، واضحة ودقيقة في عنوانها ومضامينها، حين تحدّث عن أن بلاده تعوّل على لعب روسيا دورا هاما في إحياء عملية السلام من خلال عقد مؤتمر دولي، بعد أن وصل التواصل الرسمي بين رام الله وواشنطن إلى أدنى مستوياته والرسائل المتبادلة عبر وسطاء تشوبها سلبية وعدم الثقة.
وقال أحمد مجدلاني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، إن الرئيس الفلسطيني طرح خلال لقائه بنظيره الروسي فلادمير بوتين عَقد مؤتمر دولي لعملية السلام ورعاية متعددة الأطراف لها من قبل الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن الدولي (بريطانيا وفرنسا والصين وروسيا والولايات المتحدة)، أو من خلال اللجنة الرباعية (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة وروسيا)، ومن يرغب من الدول الأخرى.
وترى مصادر مراقبة في الضفة الغربية أن الرئيس الفلسطيني يستند في موقفه إلى معطيات لم يكشف النقاب عنها عن أن الموقف الدولي لن يكون داعما لقرار ترامب، وأن ما كشفه التصويت الأممي داخل مجلس الأمن كما داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة هو نهائي من الصعب إضعافه، ويتأسس على قناعة عامة بأن الإعلان الأميركي فاقم الأزمة ووسّع من الهوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
رسائل وصلت من داخل الولايات المتحدة مصدرها مؤسسات الدولة العميقة طمأنت القيادة الفلسطينية إلى عرضية قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب
وتنقل هذه المصادر عن أجواء مقرّ الرئاسة الفلسطينية في المقاطعة، أنّ رسائل وصلت من داخل الولايات المتحدة مصدرها مؤسسات الدولة العميقة طمأنت القيادة الفلسطينية إلى عرضية قرار ترامب وعدم امتلاك الفريق المكلّف بالإعداد لـ”صفقة القرن” أيّ معطيات بإمكانها فرض أي تسوية لا يشارك بها العرب والفلسطينيون.
ولا تواكب كثير من المنابر الأميركية قرار ترامب بشأن القدس وتعتبره مضرا للإسرائيليين قبل الفلسطينيين، كونه يأتي خارج سياق أي تسوية تاريخية كما خارج السياق التقليدي للسياسية الأميركية المعتمدة داخل هذا الملف.
وكان لافتا المتابعة الدقيقة للصحافة الأميركية المعروفة بدعمها لإسرائيل للأوضاع داخل الأراضي الفلسطينية. ونشرت مقالات وتحقيقات تحذّر من انفجار الوضع الفلسطيني جرّاء الضغوط التي يمارسها الاحتلال وجرّاء انسداد أفق التسوية السلمية.
دعت جهات أميركية الرئيس الفلسطيني إلى التمسك بموقفه والعمل على إنجاز المصالحة الداخلية. وكشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري التقى في لندن مع حسين الآغا، أحد المقرّبين لمحمود عباس، وطلب منه نقل رسالة إليه. حثّ كيري في رسالته الرئيس الفلسطيني، على أن يكون قويا بروحه، و”يلعب على الوقت وعدم تقديم أي تنازلات” للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي “لن يصمد طويلا”.
ونصح وزير الخارجية الأميركي السابق الفلسطينيين التقدّم بمبادرة سلام خاصة بهم، تعكس مواقفهم المبدئية، مؤكدا أنه سيبذل كل الجهود لدعم هذه المبادرة، وحشد التأييد من قبل الدول الأوروبية والعربية والمجتمع الدولي. ولفت كيري كذلك، وفقا لمعاريف، إلى أن الكثيرين ضمن الأوساط الحاكمة في الولايات المتحدة وفي الاستخبارات الأميركية غير راضين عن أداء ترامب.
واتسعت رقعة المنتقدين لأداء الرئيس الأميركي في هذا الملف على خلفية تصريحات ترامب الأخيرة بشأن التسوية الفلسطينية الإسرائيلية والتي تمزج ما بين العناد والمكابرة من جهة وبدء إرسال الإشارات الأولى لتحسسه شخصيا من عدم تجاوب الجانب الإسرائيلي مع “قراره التاريخي” وتقديم تنازلات تساعد في دفع عملية التسوية إلى الأمام من جهة ثانية.
وقال ترامب في مقابلة مع صحيفة إسرائيل اليوم، المجانية المقربة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إنه “ليس متأكدا بالضرورة” من سعي إسرائيل للتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين. وبحسب ترامب، فإن العلاقات الإسرائيلية-الأميركية “رائعة”، ولكن تحقيق السلام مع الفلسطينيين سيجعلها “أفضل بكثير”.
وكان ترامب وجّه انتقادات متكرّرة للفلسطينيين بعدم الرغبة في التفاوض، لكنه كان يمتنع دائما عن توجيه انتقادات لإسرائيل. وأضاف ترامب “حاليا، أقول إن الفلسطينيين لا يسعون لإقامة السلام. إنهم لا يسعون لإقامة السلام” (…) كما أنني لست متأكدا بالضرورة أن إسرائيل تسعى لصنع السلام. لذلك سنكتفي بمراقبة ما سيحدث”.
لكن، وفيما قرّر الرئيس الأميركي “الاكتفاء بمراقبة ما سيحدث”، يرى الداعمون للطرف الفلسطيني أن الوضع الإقليمي والدولي لا يحتمل الاستمرار في حالة الجمود.
ويؤكد محمد جمعة، الباحث في الشأن الفلسطيني، أن قرار الرئيس الأميركي بنقل السفارة إلى القدس أفرز رغبة دولية وفلسطينية ترفض انفراد الولايات المتحدة برعاية التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وبالتالي فإن ذلك نتج عنه مواقف من بلدان فرنسا وألمانيا وبريطانيا لا ترحب بالانفراد الأميركي في عملية السلام.
وزير الخارجية الأميركي السابق نصح الفلسطينيين التقدّم بمبادرة سلام خاصة بهم، تعكس مواقفهم المبدئية
ويوضح أن تلك المواقف يجري استغلالها حاليا من قبل السلطة الفلسطينية والقيادة المصرية التي رحبت بدخول أطراف أخرى ضمن عملية السلام وهو ما دفعها لبدء عمل موازي من خلال المصالحة الفلسطينية.
ويرى دبلوماسيون عرب أن توجّه الرئيس الفلسطيني إلى موسكو يأتي ضمن جهد سيبذل باتجاه محاولة إيجاد آلية دولية جديدة تكون بديلة عن الوساطة الأميركية. ويعرف عباس حجم الأوراق التي تمتلكها واشنطن في هذا الملف، لكن لا بديل أمام القيادة الفلسطينية إلا طرق كافة الأبواب، لا سيما في روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي، في سعي لتجميد مفاعيل القرار الأميركي.
وتأتي زيارة عباس لروسيا بعد أسبوعين من زيارة مماثلة قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، للتأكد من دعم فلاديمير بوتين له في مواجهة واشنطن التي اعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقال عباس أمام بوتين “بالنظر إلى المناخ الذي نشأ مما قامت به الولايات المتحدة (…) نرفض أي تعاون مع الولايات المتحدة كوسيط”.
ويركّز الطرف الفلسطيني على تمسكه بالمفاوضات وفق مرجعيات دولية واضحة أطّرت كافة المفاوضات التي جرت منذ اتفاقات أوسلو، وأن لا حساسية فلسطينية تجاه أي قرار يتعلّق بالقدس طالما أنه يعترف بالقسم الشرقي منها عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، وفق الوثائق الفلسطينية كما وفق الوثائق التي تضمّنتها المبادرة العربية للسلام لعام 2002، كما وفق القرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن.
ورغم أنه لم يتسرّب من الولايات المتحدة أي معلومات حول موقف واشنطن إذا لم تستجب الحكومة الإسرائيلية لما ينتظره ترامب وإدارته من الطرف الإسرائيلي، بيد أن بعض التحليلات أوحت بإمكانية تراجع واشنطن عن قرارها وفق ديباجة معيّنة، أو أقله تجميد هذا القرار. بيد أن هذا التحوّل المحتمل لم يصدر عن أيّ جهة مرجعية أميركية. في المقابل، لفتت الانتباه تصريحات صادرة عن الرئيس اللبناني ميشال عون على قناة تلفزيونية مصرية، قال فيها إن الوضع العربي “مليء بالمفاجآت المؤثرة على أرض الواقع، وأتوقّع تجميد القرار الأميركي بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس”.
وقال عون إن “ترك القضية الفلسطينية على حالتها ستكون عواقبه وخيمة، والشعوب العربية لن تقبل بأن تكون القدس عاصمة لإسرائيل حتى لو وافقت الحكومات على ذلك”.
ومن الصعب الجزم بهوية المعطيات التي يمتلكها عون في هذا الشأن، إلا أنه في نفس الوقت يمكن الأخذ بجديتها بالنظر إلى أن بيروت استقبلت مؤخرا مساعد نائب وزير الخارجية الأميركية ديفيد ساترفيلد، ومن الطبيعي أن يكون موضوع التطوّرات الوضع بعد قرار ترامب بشأن القدس على قائمة المواضيع التي تم تناولها في اللقاء.
وتعطي هذه التطورات زخما لخطاب الرئيس الفلسطيني أمام مجلس الأمن الدولي في 20 من الشهر الحالي. وتأتي كلمة محمود عباس بعد أسابيع من هجوم عنيف شنّته في 25 يناير السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي على الرئيس الفلسطيني اتهمته فيه بأنه لا يتحلى بالشجاعة اللازمة لإبرام اتفاق سلام مع إسرائيل. فيما زعم السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة داني دانون أن إلقاء عباس كلمة أمام المجلس سيلحق مزيدا من الضرر بآفاق محادثات سلام مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.